التخدير قبل إجراء العملية أنقذ الطبيب والمريضة معاً
د. غالب خلايلي
في الطب، تلك المهنة الإنسانية العظيمة، الكثير من الأعمال المشرّفة والنبيلة بل والبطولية أحياناً، بعضها يعرفه الناس إذ يرى النور، لكنّ كثيراً منها يبقى في الزوايا المعتمة ثم يصبح طيّ النسيان، خاصة وأن أصحابها يؤثرون الصمت، أو لا يجيدون الكلام عن أعمالهم وتخليدها، والمؤسف أحياناً أن بعضهم يعاقب على بطولاته… وهذا حديث يطول..
في الأسطر القادمة إحدى الصور المشرقة عن الطب، نهديها إلى كل الآباء (وأخصّ الأطباء) والأبناء.
****
ما من شك في أن الآباء يكنّون لأبنائهم (وبناتهم) أعظم مشاعر الحبّ والعطف، ويرجُون لهم في السرّ والعلن كلّ خير، حتى لو لم يصرّحوا عن ذلك بالكلمات، إذ لا يجيد كثير من الآباء لغة الإفصاح عن المشاعر، لكنهم عندما يتصرّفون أي تصرف يخصّ الأبناء، يفعلون ما يمليه عليه ضميرهم بلغة الحب، وإن كبر الأبناء أو بدت من بعضهم تصرّفات غير متأنّية تستهين بمعنى الحب، الذي لا بدّ أنهم سيعرفونه مع الوقت عندما يكتمل النضج.
يحدث ذلك منذ ولادة الأبناء، حيث تكون الرعاية واضحةً جليّة في الصغر، بغريزة زرعها ربّ رحيم، يحبها الأبناء ويرتاحون لها وهم في حالة من الضعف والرقّة، بل يبحثون عنها إذا ما شعروا بغيابها، ثم يقلّ هذا الوضوح (والقبول) مع دخول الأبناء مرحلة الشباب، إذ يميل معظمهم إلى الانفراد في جو خاص لا سيما مع الأقران (أو الأجهزة اللوحية)، ليبتعدوا عن الأهل، إذ لا يريدون أن يبقَوا محاطين بمظاهر الرعاية وكأنهم أطفال صغار. نعم، لقد شبّوا عن الطوق، وباتت لهم شخصيات شابة (متمرّدة أحياناً) حالمة تريد مناطحة السحاب، فلا تعود ترى في حبّ الأهل ونصائحهم إلا تدخلاً بشؤون لا تعنيهم.
ومع ذلك ترى الآباء، وبالتأكيد الأمهات (ولو عانَوا ما عانَوه) يؤثِرون أبناءهم في كل ما يعود بالخير عليهم، غير آملين في أيّ مردود شخصي، ولو تمنَّوه.
أكتب مشاعري هذه، وقد كبر معظم أبنائي، واستقلّ معظمُهم في حياتهم الخاصة، وأشعر بالسعادة في ما وصلوا إليه من علم، وما نجحوا فيه من تجارب، آملاً أن تلقى تربيتي وأمّهم لهم أُكُلَها التي تحميهم في كالحات الأيام، كما في القصة التي سأرويها بعد قليل، والتي أرى أنها تهم الآباء مثلما تهمّ الأبناء، حينما ينجزون واجباتهم، بما تمليه عليهم علومُهم وضمائرهم الحية، فما بالك إن كان الابن طبيباً قدّرتِ “الأيامُ” أن يكونَ والدُه الطبيب أهمَّ من حماه بعد عمر طويل؟
هذا ما حدث لطبيب التخدير (محمد لطفي سالم) الذي زارته سيدةٌ قرّر لها الأطباء جراحة قلب مفتوح لتغيير صِمَام (بكسر الصاد والميم المفتوحة غير المشدّدة) في القلب عام 2018، وفي أثناء كلامها معه، سألها عن بعض الأمور مثل ارتفاع الضغط أو السكّر، فأخبرته أنها لا تعاني أي شيء، لكنّ (مشكلةً) حدثت لها في أثناء الولادة القيصرية الأخيرة عام 2000، تعامل معها طبيب التخدير وقتَها بحكمة، وأعطاها ورقةً كتب فيها حالتها، وأوصاها أن تعطيَها لأي طبيب تخدير إن احتاجت لأي عملية في المستقبل.
قرأ الطبيب الورقة:
“زميلي العزيز: “المريضة تعاني من نقص الكولينستراز الكاذب Pseudo cholinesterase deficiency لأجل عنايتك الكريمة”. أخصاصي التخدير د. لطفي سالم.
والمرض المذكور هو مرض وراثي لا تظهر له أعراض إلا عند تعرّض صاحبه للتخدير، فيصبح أكثر تأثراً بالأدوية المخدّرة، مما يشلّ العضلات، فيهدّد حياة المريض، إن لم يعلمِ الطبيبُ أنه مصابٌ بهذا المرض.
إنها رسالة طبيب محترم ترك لزميله المستقبلي مصباحاً يضيء له الطريق وينقذ حياة مريض.
لكن المصادفة النادرة الجميلة هي أن الذي قرأ ورقة طبيب التخدير المكتوبة منذ نحو عقدين هو ابنه طبيب التخدير، فكم كانت مصادفة سعيدة أنقذت الابن وحَمَتْ مريضته من اختلاط خطير.
قصة مؤثّرة بلا شك، أرجو أن يقرأها كل الناس، ليعرفوا أن أداء الواجب في أي عمل أو مهنة، على خير ما يرام هو المنشود، وهو الذي سيحمي المجتمع من العواقب الوخيمة الممكنة..
ومن يدري أن ورقة صغيرة ستسافر عبر الزمن وتحمي ابن كاتبها في أروع ما يمكن أن يترجِمَ حبَّ الطبيب لمهنته، وحبَّ الأب لابنه؟
العين 12 آذار 2024