حديقة فروجنر
هذه هي الحلقة الثالثة (والمدمجة مع الرابعة) والأخيرة من ذكريات “رحلة الى النرويج”، لطبيب الأطفال الأديب د. غالب خلايلي. ومع أنها طويلة بعض الشيء ولكنها “سريعة الإيقاع”، اذ يشعر القارئ وهو يتابع المدوّنات أنه فعلاً في قلب الحدث في النرويج، يتجوّل مع الكاتب والسيدة قرينته فيفرح معهما وتدمع عيناه عندما يقرأ أن “الحنين الى سوريا قتلني في شهرَيْن، مثلما قتلني فقدان الأمل بإيجاد عمل”. لكن أمل العروسَيْن بالإله المدبّر كان كبيراً جداً، بحيث رددا بعيد الوصول الى مطار دمشق الدولي: “استسلمنا لقدرنا المجهول، فالبعد في التفكير والرب بالتدبير”.
حلقة ثالثة (ورابعة) أخيرة ممتعة، مبنى ومعنى. ففي المبنى، كان قلم طبيب الأطفال يتناغم مع المفردات الجميلة الناعمة، كما تتناغم أصابعه مع جسد الطفل وهو يعاينه. أما المعنى، فهيهات أن تملّ أو تتجاوز مقطعاً من هنا وآخر من هناك. ذلك أن المعلومات والربط المحكم بين المقطع والآخر كانا أشبه بسلسلة من الحلقات الموصلة بعضها بالبعض الآخر ولا مفرّ من المتابعة…
د. غالب خلايلي
عند وصولنا إلى البلد في شهر أيار كانت الجبال مغطاة بالثلوج، فيما امتدّت الخضرة والشلالات على مدّ البصر. قالوا: أنتم محظوظون، فالجو هنا دائماً رديء، ومع قدومكم الشمس مشرقة دوماً. هذا غير عادي، و لهذا كنا نرى الناس شبه عراة تحت الأشعة، فما أسرع ما يخلعون ملابسهم ويتسطّحون، لأن الشمس عُملة نادرة. ومع ذلك كانت الطبيعة تتجهّم بين الحين والآخر، فتمطر بغزارة طيلة النهار، وما أطول النهار في الصيف.
المناظر الطبيعية ساحرة، والغابات كثيفةٌ جداً. يوجد قرب بيت مُضيفنا أكبر مصنع للورق في أوربا. يمرّ قطار طويل كل يوم محمّلاً بالأشجار المقطوعة، ولا يملّ من الذهاب والإياب حتى في أيام العطل، غير أننا لم نلاحظ مروره يوم 17 أيار (اليوم الوطني للبلاد).
أغلب البيوت من الخشب، مع سقوف قرميدية حمر جميلة، لتظهر مثل أكواخ حلوة، كثيراً ما تطبع على البطاقات البريدية (يوم تكن للرسائل عزّها). ومع تحوّل النرويج إلى المسيحية قبل ألف عام أدخلت الهندسة المعمارية الحجرية مثل بناء كاتدرائية نيداروس في تروندهايم.
وفي النرويج شلالات جميلة وطبيعة غنية، فهي موطن للعديد من الكائنات الحية (60 ألف نوع من الكائنات الحية، باستثناء الجراثيم والفيروسات، وعشرات آلاف أنواع الحشرات والطحالب والأشنيات والفطريات والطيور والثدييات وأسماك المياه العذبة والمالحة).
المياه باردة غزيرة، والبحيرات كثيرة، وهي امتدادات بحرية تدعى فيور(fure) أو أثلام (groove)، ويزداد ارتفاعها في الصيف كثيراً بسبب ذوبان الثلوج التي تكسو الجبال حتى ذلك الوقت، والتي يتزلّج فوقها الرياضيون في الأماكن العالية جداً. أما في الشتاء فتغطيها الثلوج، وتجمد البحيرات، ويصبح المشي والتزلج فوقها عادياً. والتزلج هو سيد الرياضات الشتوية، منذ العهد الذي لم يكن به أمام السكان مجالٌ للتنقّل سواه.
طرق المدينة جميلة الأطراف تذكّرني كما أسلفت بطريق دمّر الشام. الشوارع معبدة وبعضها محفّر من المطر والثلج، ومن الإطارات الشتوية الخاصة ذات المسامير (المانعة للانزلاق).
منظر لافت للزائر الجديد ألا وهو تباطؤ السيارات (مهما كانت سرعتها) حتى الوقوف التام عندما يرى السائقون المارّة، تقف لهم بأدب واحترام وصبر حتى يمروا. المشاة محترمون من قبل السائقين إلى آخر الحدود. لا نشبههم مع الأسف.
ظاهرتان طبيعيتان مميزتان الأولى هي شمس منتصف الليل: إذ لا تغيب الشمس في المناطق الشمالية من أواخر أيار إلى أواخر تموز، فيما النهار طويل في باقي البلاد، لتنعكس الآية في الشتاء (نهار قصير جدا). والظاهرة الأخرى هي الشفق القطبي في مدينة ترومسو: وتعد بوابة النرويج إلى القطب الشمالي، كما يُعدّ منظر الشفق القطبي أحد أكبر عوامل الجذب فيها، وهو الاسم الذي يُطلق على الأضواء الزاهية المُتغيِرة في السماء، بسبب المجال المغناطيسي عند قُطبي الأرض.
ميزات نرويجية أخرى:
1- صاحبة أعلى مستويات المعيشة في العالم لغنى الموارد مقارنة بعدد السكان، وتؤمن الدولة خدمات مجانية مثل الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم، ويحصل الوالدان على إجازة أمومة لمدة 12 شهراً مدفوعة الأجر. معدل البطالة منخفض جداً. ومتوسط الأجور الساعية من بين الأعلى في العالم، يميزها أن فرق الأجور بين أقل العمال أجراً والرؤساء التنفيذيين لأكبر الشركات أقل بكثير من باقي الاقتصادات الغربية.
2-التبنّي المبكّر لحقوق المرأة والأقليات والمثليين (في عام 1993 أصبحت ثاني دولة تسمح بزواج المثليين وبالشراكة المدنية بينهم).
3-الغنى الثقافي: برز مثلاً الملحن الرومانسي إدوارد غريغ في الموسيقى الكلاسيكية، وفي العصر الذهبي للأدب النرويجي برز الكبار منهم هنريك إبسن.
4-أوسلو هي العاصمة العريقة التي تأسست في القرن 11 الميلادي، و 20% منها فقط حديثة الطراز، فيما باقي المدينة حدائق ومساحات مفتوحة وتلال وغابات واسعة. ومن معالم أوسلو:
–القصر الملكي: بحديقته الرائعة، التي يؤمّها الناس بحرية، وفيها تمثال الملك كارل، وحرس القصر الذين يبدّلون بين حين وآخر.
دار الأوبرا الوطنيَة النرويجية.
أعاجيب معماريَة مُذهلة بما في ذلك قلعة آكيرشوس التي تعود للقرون الوسطى وكاتدرائية أوسلو.
حديقة فروجنر Frogner Park: هي أضخم الحدائق العامَة، وتضُم 650 منحوتة مُذهلة (عارية) صنعها النحَات النرويجي Gustav Vigeland من عام 1924 إلى عام 1943.
المتاحف الغنية: مثل المتحف البحري الذي يركز على التاريخ النرويجي البحري، ومتحف سفن الفايكنج وفيه العديد من سفن الفايكنج الأثرية، والمتحف النرويجي للتاريخ الثقافي، وفيه العديد من مباني العصور الوسطى، ومتحف المقاومة النرويجية ضد النازية، ومتحف نوبل للسلام.
النظام الغذائي النرويجي:
أنواع الطعام النرويجي وطريقة إعدادها وطعمها مختلفة كثيراً عما نعرف، وكذا الخبز. والنرويجيون قلّما يطبخون بطريقتنا، فالسّمن قليل الاستعمال، والأكثر استخداماً هو الزبد المملّح تدهن به قطع الخبز. أغلب الطعام معلّب ويجهز بسرعة، وهم يهتمون بأنواع الحلويات والقهوة والحليب، ولهذا فإن بعض الأشخاص بالغو السمنة.
وفي أوسلو والنرويج عموماً مقاهٍ ومطاعم عالمية مميزة (يابانية وإيطالية وعربية وتركية وأميركية…)، وهي غالية جداً لكنها رائعة. هذا، ويعود النظام الغذائي الوطني في النرويج إلى أيام الفقر، مع التركيز على حفظ الأسماك واللحوم بالملح، والكثير من البطاطا والصلصات البسيطة:
1-الجبن البني Brunost ويكاد يميز النرويج عن أي بلد آخر، بلونه وطعمه اللذيذ على الإفطار أو الغداء مع مخبوزة قمحية مميزة. عملية الإنتاج بسيطة: يغلى مصل حليب الماعز، فيتشكل الكراميل، ويُترك الخليط ليبرد ويجمد، فيقسم إلى كتل صغيرة.
2-رقائق الوافل النرويجية Norwegian Waffle, Vaffel وهي معجنات من الدقيق والحليب والبيض، (تخبز) بين صفيحتين ساخنتين هندسيتي الشكل (مش عش البلبل)، وتؤكل مع المربيات أو الشوكولا. ويعود تاريخها إلى العهود اليونيانية القديمة.
3-شطيرة الجمبري المفتوحة (Shrimp Sandwich, Rekesmørbrød) وتعد خيارا رائعاً لتناول طعام الغداء في البيوت والمقاهي والمطاعم.
4-النقانق النرويجية (Norwegian Hot Dog, Varmt Pølse) هي أكلة شعبية تشكل ظاهرة ثقافية (مثل الفلافل في بلادنا)، تجدها في كل مكان، حيث توضع المقانقة الساخنة في خبزة سمون حلوة المذاق أو رغيف خاص، مع (سيخين من مسحوق رب البندورة، الكتشب، والخردل، المسترد). هذا ناهيك عن أطعمة وحلويات لا حدود لتنوعها.
مدرسة متميزة جداً لأصحاب الهمم:
ذهبنا ذات يوم إلى مدرسة أصحاب الهمم handicapped (وجلّهم من المنغوليين) بدعوة من مديرها البريطاني النرويجي أندرو، ومن قريبنا أحمد الذي يعمل في تلك المدرسة. ولما عزفت زوجتي لهم بعض المعزوفات على البيانو (الموجود في كل مكان زرناه تقريباً) ، خصص لها المدير بخجل مكافأة رمزية قدرها 300 كرون، كانت بالنسبة لنا ذات مغزى مهم، وهو أنه لا يوجد عمل بلا مقابل.
وهذه المدرسة فائقة العناية بطلابها، حتى ليرجوها كل إنسان، لما فيها من ميزات إنسانية وتعليمية وترفيهية (كالسباحة والموسيقى وأنواع الرياضة)، حتى إن كل فرد فيها يعتني به ثلاثة موظفين، يتناوبون عليه على مدار الساعة، وكم كان جميلاً ومفاجئاً مشاركة فرقة موسيقية نحاسية منهم، وبملابس جميلة، في العيد الوطني.
الصيف والبعوض وحفلات المدارس النرويجية:
مع ارتفاع الحرارة والرطوبة ازداد البعوض إلى حد مقلق، فراح يحلق أسراباً حتى لم يعد بالإمكان السير في الشوارع، لأن هذا البعوض انتحاري يهاجم المرء حتى لو فرّ منه. صار الحكّ أمراً مزعجاً في الليل والنهار (خاصة مع ارتفاع حرارة البيوت المهيأة أصلاً للبرد)، ورأينا الأطفال يحكّون جلدهم حتى يدمى. كتبت الصحف كثيراً عن البعوض، لكن البلدية لا تفعل شيئاً، خوفاً على البيئة، وقد كتبت مقالاً بالإنجليزية عن عضّات الحشرات، ولم أعرف مصيره (أُهمل على الأغلب). كان محاولة للدخول في عالم الكتابة هناك، لكن: أين مني والوقت وواللغة المحلّية؟
ذات يوم حننّا فيه إلى الطعام العربي كان غداؤنا (مجدّرة أرز) لذيذة من صنع عبد. وفي السادسة مساء بعد الغداء ذهبنا وعائلته إلى مدرسة ابنته (سوسانّا) لحضور احتفال صغير بمناسبة نهاية العام الدراسي للصف الأول. سن دخول المدرسة هناك بحدود الثامنة، حيث يؤمن النرويجيون بضرورة أن يأخذ الطفل وقته ويعيش طفولته. عدد الطلاب بحدود 15 في الصف الواحد، وهو مختلط في كل مراحل الدراسة. أهل الأولاد يُحضِرون القهوة، وأهل البنات يحضرون الحلويات، ويؤدي الطلاب والطالبات تمثيلية رئيسة، ثم يلقون القصائد والأغاني والنكات والحزازير.
بعد نحو أسبوع ذهبنا إلى مدرسة ليلى الأكبر، وفيها برامج مماثلة مع عزف الأستاذ على البيانو وغنائه أغاني الأطفال الجميلة (كم تمنينا لو كانت عندنا مدارس كهذه). في كل مدرسة يوجد بيانو، وتهتم المدارس بتصوير أفراد الصف مع معلّمتهم أو معلّمهم كلّ سنة، لترى في البيوت صوراً للأهل ولأفراد الأسرة يوم كانوا طلاباً في المدرسة تعود عشرات السنين إلى الوراء. ليت مدارسنا حافظت على هذه العادة، لأننا بعد ثلاثين أو أربعين سنة، لا نتذكر إلا القليل من الأسماء والتفاصيل.
اللغة النرويجية والتلفزيون والصحف:
في هذه البلاد البعيدة الهادئة قلّما تسمع صوتاً عربياً أو ترى مجلة أو صحيفة عربية. هذا أمر، مع بداية تعلّقي بهواية الكتابة، أقلقني وجعلني أحسّ بالغربة. كما أن الكثيرين لا يعرفون الإنجليزية. أربعة ملايين يتحدثون لغة خاصة بهم، يعتزون بها هي النرويجية، التي تشبه السويدية الأسهل والأكثر موسيقية، وإلى حدّ ما الدانمركية، الأصعب قليلا، والفنلندية الأصعب (وتشبّه بمن يضع في فمه حبة بطاطا عند التكلم). وفي المدارس يتعلّمون الإنجليزية، وتهتم العائلات الراقية بإرسال الأطفال إلى إنجلترة لتعلم الإنجليزية، لغة العلم في بعض الجامعات. كما يتعلّمون الألمانية وربما اللاتينية والإسبانية ونادراً الفرنسية. هذا وقد شبّهتُ النرويجية بالإنجليزية المحرّفة، وكأن شخصاً تعلّمها ثم راح يتذكرها بعد طول نسيان، فتذكر القليل وحرّف الكثير. أقول ذلك فيضحك (النراوجة).
أما التلفزيون فمملّ جداً، ربما لأننا لم نفهم اللغة، ولكن أهل البلاد يقولون مثل ذلك أيضاً. أول الأخبار من مناطق الحرب أو الحوادث. وقتها (1988) كانت حرب إيران والعراق.. سقوط طائرة.. مع مسلسلات بالإنجليزية. رأيت رئيسة الوزراء تذرف الدمع على ضحايا طائرة وقعت في جبالهم، ورأيت تلفازهم يبث الخبر الأول عن فطور قتلت أسماكهم، باهتمام كبير، لأيام طوال. تنتهي البرامج في الحادية عشرة تقريباً، إلا يوم السبت ليلاً، لأن الأحد عطلة.
ما أصعب ألا يفهم المرء لغة قوم، فيصبح ويمسي كالأطرش في الزفة.
والصحف أيضا بالنرويجية، ولكل مدينة صحيفة، وأخبارها الأولى مختلفة جداً عن أخبار بلادنا، لترى أن الحوادث وحالات الاحتيال والأشياء الغريبة هي التي تتصدر الأخبار. أما الدعايات والإعلانات فهي كثيرة جداً، تتضمن فكرة (العروض الخاصة المغرية) التي قد تكون لساعة أو ساعتين، يمكن للمرء المتتبع لها أن يشتري أشياء قيمة بأسعار متدنية.
قصة يجدر أن تروى هنا، وهي أن زوجتي رأت (بلوزاً) أعجبها جداً بسعره الرخيص كما كتب عليه، ولما رحنا نشتريه تعجبت البائعة اللطيفة، وقالت: وضع هذا السعر بالخطأ، ولكننا مسؤولون عن خطئنا! وباعتنا إياه
كما كان مكتوباً عليه تماماً. بالمناسبة: النرويجيون يقومون بالأعمال كافة، وإذا صادف وجود عامل غير نرويجي فإنه يعامل كالنرويجي، ويتمتع بالاحترام والحقوق كافة. الشرط الوحيد المهم، هو الإخلاص بالعمل.
لطلاب الثانوية في نهاية العام صحيفة تصدر سنوياً، وفيها أخبار غريبة ساخرة، ولا يعفّ الطلاب عن الكلام البذيء، ولا أدري ما هي حالهم اليوم، مع (تقدّم) العالم. وهذه الصحف ترسل إلى كل البيوت مع البريد، وفيها أيضاً صور وكاريكاتير، ونبذة ساخرة عن حياة كل تلميذ.
العطلة مقدّسة والتخطيط واجب:
تبدأ العطلة في هذه البلاد بعد ظهر الجمعة، لتشملَ يوميّ السبت والأحد. وبما أن العمل طويل من السادسة أو السابعة صباحاً وحتى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، فإن العطلة مهمّة للراحة، وقد تكون بالنسبة لكثير من الشبان والشابات مجالاً للخروج وربما السُّكْر حتى العربدة أو التطوّح، فيما يتشمّس (في الأوقات المشمسة النادرة) أغلب الناس على الشواطئ ذات المياه الباردة جداً، والتي تصعب السباحة فيها، وإن وجد نفر يتزلج على الماء بمهارة.
ولما كانت هذه البلاد باردة جداً حتى إن الحرارة قد تصل إلى 30 أو أكثر تحت الصفر في الشتاء، فإن الناس يحرصون على قضاء العطلات في بلاد دافئة مثل إسبانيا أو قبرص أو تونس أو مصر (قبل الخراب العربي الطارئ في عام 2010 وما تلاه)، أو بلدان شرق آسيا.
والعطلة هي ما ترنو إليها العيون، ويخطط الناس لها منذ وقت طويل، ومثل هذه الخطط شبه غائبة في بلادنا التي يعاني كثير من أهلها ضيقَ ذات اليد، حتى ليبدو السفر من المحرّمات عند أهل العالم الثالث، إذ إن الحصول على سمات الدخول إلى الدول الغربية (لا سيما اليوم) شبه مستحيل، إلا لمن رحم ربي من المرتاحين جدا، وما عدا ذلك فإن السبيلين الشائعين للدخول هما الاحتيال والتهريب المحفوف بالمخاطر (الغرق مثلا بسبب سوء المراكب التي ينقل بها اللاجئون، أو التعرض للأذى في الطرق بين الغابات، علماً أن هناك عصابات كبيرة تعمل في موضوع التهريب، وهناك من يعاونها في القنوات المطلوبة).
الطب المرتاح في النرويج:
ذهبنا إلى مدينة قريبة تدعى درامّن Drammen، وهي مدينة كبيرة تشبه هونيفوس Honefoss (وتعني شلال الدجاجة) لكنها أكبر، وبها مستشفى كبير قرب جبل جميل، وله حديقة واسعة تقف على أطرافها سيارات كثيرة. في هذا المشفى عدة مبان بنحو 15 طابقاً، وهي مقسّمة إلى أ و ب.
صعدت إلى قسم الأطفال في الطابق الحادي عشرA ، وهو طابق هادئ وجميل، كما أن غرف المرضى جميلة جداً، والأهل متواجدون دائماً مع الطفل. تذكرتُ أمهات يبكين ساعات من أجل مرافقة أطفالهن عندنا. في الغرفة ألعاب وتلفاز، ما عدا غرفة خاصة بألعاب الأطفال. الممرضات كبيرات السن صارمات، والعمل عمل، لا يوجد وقت ليضيع. غرفة الطبيب جميلة واسعة، كذلك غرف الممرضات. في القسم 8 حاضنات و40 سريراً للأطفال، يخدمهم خمسة أطباء ثابتون وهم قدماء، وطبيب واحد جديد، فيما توجد طبيبة إسبانية تزوجت نرويجياً وتعمل بلا أجرة (!).
أخبرنا الطبيب أن المستشفى يعاني – ويا للغرابة – أزمات مالية (وكنا قد عرفنا من الصحف والتلفاز عن إمكانية إغلاق بضع مدارس ومستشفيات، ورأينا مظاهرات الاحتجاج في التلفزيون). الطب العام بالمجان، ولا يتقاضى المستشفى أجراً، إلا من الحالات المحوّلة من أجل الفحوص فقط، وهنا يؤخذ مبلغ رمزي.
هذا ولا يوجد (وقتها) في النرويج مستشفى خاص بالأطفال، وأكبر مستشفى يقع في العاصمة أوسلو وفيه 120 سريراً للأطفال، والعناية ممتازة لا سيما مع قلة المرضى، علما أن عدد سكان أوسلو نصف مليون نسمة (أي ثُمن سكان النرويج)، فيما يبلغ عدد سكان مدينة دمشق وقتها فوق أربعة الملايين. قابلتُ في مستشفى آكر Aker Sykhus عدداً من الأساتذة الذين دهشوا لصور الأمراض التي أحملها معي من مستشفى الأطفال بدمشق (المتّسع لنحو 400 طفل وقتها) وقالوا: إنهم لم يسمعوا بكثير منها أو حتى يروها في بلادهم.
هذا وقد استقبلني هؤلاء الأساتذة بشكل رائع قلّ أن عرفتُ مثله، وهم يتواجدون على رأس عملهم طيلة الوقت، من الثامنة صباحاً حتى الثالثة والنصف ظهراً، فلا يتشتّت ذهنهم (مع توافر سبل العيش الكريم) ما بين عيادة خاصة وعمل حكومي.
وقد أخبرتني السيدة ماريان رئيسة الممرضات في قسم الحواضن (وهي أميركية متزوجة من نرويجي) أن تبديل الدم للمواليد لم يحدث منذ سنتين، علماً أنني ظننتُها في البداية طبيبةً بسبب استيعابها لكثير من الأمور الطبية الدقيقة بشكلٍ مدهش. وهكذا ترى أن العناية بالخدّج متطورة جداً، وتجلس الأم طيلة الوقت مع رضيعها، تحضنه وتضعه ملاصقاً لصدرها تحت الثياب (وضعية الكنغر)، وترضعه كلما لزم.
هذا وكنا قد زرنا مستشفى أصغر في هونيفوس، وهو على صغره جميل في قلب حديقة غناء، والعناية فيه جيدة، وفيه ثمانية أسرّة للأطفال، كلها خالية!.
زيارة عمل إلى مؤسسة الصليب الأزرق:
استيقظنا ليلة 9 حزيران 1988 عدّة مرات. ميزان الوقت مختلّ عندنا، فضوء النهار دائماً موجود بغياب ستائر حاجبة، وكانت زوجتي تسأل باستمرار: أما حان الوقت؟
كان علينا أن نذهب إلى أوسلو لمقابلة السيدة الدكتورة سلاديانا من (الصليب الأزرق)، فكان لزاماً علينا أن نستيقظ مبكّرين كي نرافق قريبنا عبد الذي يعمل هناك، ويذهب قبل أن يعلو صياح الديكة، بحدود السادسة صباحاً.
الاستيقاظ المبكّر أفضل من الذهاب بالحافلة، ناهيك عن عذاب أوسلو واسعة الأرجاء والتنقلات المكلفة بالتكسي. على طريق هوفسفوس كنتُ وزوجتي نتمشّى في السادسة إلا ربعاً. كانت الشمس النادرة الظهور باديةَ الإشراق، رائعةً بما تضفيه من أضواء ودفء غير معهود في هذه البلاد، فقد مرّ أسبوع كله غمّ وغيمٌ داكن ومطر غزير، غير أن هذا الصباح أروعُ من أي صباح.
جاء رفيقنا.. وسرنا في طرقات هونيفوس الملتوية كالأفعى، ولا تسألوا في هذا الصباح الباكر عن زحمة الطريق، سيرة كل صباح، سواء أكان عابساً متجهماً أم مثلجاً أم مشمساً.
كانت أوسلو شديدة الازدحام عندما وصلنا إليها في السابعة، ولو تأخرنا نصف ساعة لكان من العسير أن نصلها أو أن نصل إلى حيث نريد. هذا أوّل عهدي بالازدحام الشديد الذي ما رأيت مثله إلا بعد نحو عقد ونيف (عام 2000 وما يليه) حيث بدا الازدحام جليّاً في طرق دبي الصاعدة، وأخص الطريق ما بين الشارقة ودبي.
أخذتُ وزوجتي نسير في شوارع العاصمة التي تشبه في الصباح شوارع دمشق وقت الزحمة. الحافلات مليئة، و(التراموايات) كثيرة، والناس يسيرون بخطاً متسارعة. الناس في العاصمة عموماً أكثر أناقة، والصبايا أجمل وأكثر عناية بأنفسهن ولباسهن، لكن الوجوه الغريبة مثلنا كثيرة، وهي من البلدان كافة، ناهيك عن عدد مهمّ من السكارى والمترنّحين في الساحات.
في ساحة قريبة من مرفأ للسفن جلسنا نرقب المارّة ونتأمل خلق الله. أكلنا الخبز والجبن مع الكولا، وثمن الزجاجة الصغيرة 8 كرونات، فيما ثمن شطيرة الجبن أو أية شطيرة مماثلة (10 كرونات).
مرّ السكارى قربنا فخافت زوجتي خوفها من الكلاب الكثيرة التي يجرها أصحابها ويحملونها في سياراتهم.
دخلنا كلّ مكان، إلى أن استقر حالنا في متجرٍ كبير متميز يبيع البيانوهات فحسب، وما أكثر آلات البيانو فيه. يصعب أن تجد محلاً كهذا في بلادنا. عزفتْ زوجتي، وتنقلت مثل عصفور على الأغصان، والعارض اللطيف المسنّ النشيط يحمل الكرسي من بيانو إلى آخر.. ليتبين لنا بعد قليل أنه خبير مهمّ يتقن الإنجليزية والعزف.
على أن أرخص آلة كانت من كوريا الجنوبية وثمنها أربعون ألف كرون، أما أغلى بيانو فقد كان إيطالياً باهظ الثمن، نحو 300 ألف كرون (2.5 مليون ليرة سورية أو 50,000 دولار) أي ما يعادل ثمن بيت صغير في دمشق، في حين كان هناك بيانو ألماني بثمن مقارب. وفي الختام عزف لنا العارض عزفاً قوياً، ودعناه بعده إذ حان موعدنا في المبنى المجاور.
ها نحن أولئك أمام مبنىً قديم ارتسمت على وجهه الحزين علامات الكآبة. إنه بناء الصليب الأزرق Bla Kors المختص بمعالجة الكحوليين (منذ 110 سنة). هو منظمة خيرية تطوعية عمرها 74 سنة وقتها (اليوم 110 سنة) وجزء من الصليب الأزرق الدولي. قابلنا الدكتورة سلاديانا Sladjana وهي سيدة دافئة بحدود الأربعين، ذات شعر أسودَ وعينين سوداوين، وجسم مليء، يوغسلافية متزوجة من نرويجي، دارسة في يوغسلافيا وأميركا،
وكان ترحيبها بنا كبيراً، ولطفها معنا واضحاً. عرفنا أن المبنى ذو ثمانية طوابق، وفيه أربع طبيبات وأطباء فحسب، لأن الراتب – ويا فرحتي – قليل جداً.
جُلنا جولة سريعةً على المرضى كبار السنّ. كلّهم فوق السبعين، وحالاتهم صعبة. لم أجد ما يغريني، وإن حمّستني السيدة سلاديانا كثيراً. قالت: “أعطيك غرفةً تنام بها، وراتباً بحدود 8 آلاف كرون، ثم تتعلّم النرويجية، وتقدم بعض الامتحانات. أنا أعرف أن العرب يتعلّمون كل شيء بسرعة”. (كان الحد الأدنى للأجور وقتها ستة آلاف كرون شهريا).
إغراءاتها (مع أنها جديرة بالاهتمام) لم تدخل رأسي وقتها. خفت. كيف أعتاد على كبار السن الموغلين في تجاعيد الجلد والحياة والمرض، وأنا أصلاً طبيب أطفال أعالج رضّعاً صغاراً مثل زغب القطا؟ خفتُ أيضاً على زوجتي الصغيرة، أين أتركها، وكيف أتدبّر أمورها وأموري؟ ضعفُ خوافيَّ وقلّةُ حيلتي أوهنتا قدرتي على المناورة في مفاوضات الحياة.
نعم، كانت الحصيلة مشاعر الخيبة، لكن من طرفنا، فخرجنا وسرنا في الشوارع المكتظّة لا نلوي على شيء.
وأنا اليوم، بعد مرور نحو ثلث قرن، أعتقد أنني كنت قليل النضج كثير المخاوف مادّياً واجتماعياً، ولو كانت لديّ الخبرة الكافية وقتها (التي تعطي ثقةً أكبر بالنفس) لمرّت التجربة بسهولة، خاصة وأن الوصول إلى تلك البلاد، الذي كان سهلاً نوعاً ما، صار اليوم (حتى للسياحة) ضرباً من المستحيل، على الرغم من توفّر كل الشروط المناسبة، لكنّه القَدَرُ الذي يفتح طرقاً ويسدّ أخرى، حسب تفكيرنا ونضج عقولنا، وفقاً لتقدير العزيز العليم. لعلّ اللاشعور وقتها كان بانتظار قَدَر أفضل لم يعرف ما هو، لكنه على الطريق.
في شوارع أوسلو والبرلمان والقصر الملكي:
بعد خروجنا إلى شوارع أوسلو كان الجوّ حارّاً يشبه ما اعتدنا عليه في دمشق. الناس يسيرون نصف عراة، وينتشرون في كل الحدائق، وبعض المراهقين يقبّلون صديقاتهم شبه العاريات هنا وهناك (تطور الأمر بعد عقود بعلاقات مثلية لم تكن معتادة في أوربا، فصرت ترى صبية تقبل صبية بكل حرية وفي أي مكان). هي الحرية المطلقة التي في الغرب، فيا لعيوننا وعقولنا التي لم تعتد على مثل ذلك!.
دخلنا المتاجر، وكم ذكّرتنا الشوارع والمباني بسوق الصالحية في دمشق. هناك (بسطات) على الأرصفة، ورجال يعزفون على الغيتار في الطريق، ويزمرون ويقرعون الطبل الصغير، وكلما سرنا خمسين متراً سألنا: كيف نتجه؟ وأغلب من يجيبوننا لطفاء.
وصلنا إلى البرلمان النرويجي وأخذنا الصور التذكارية، ثم إلى قصر الملك حيث تصوّرنا ثانية، وجلسنا في حديقة القصر الغنّاء المخضوضرة المشجّرة، وكانت الأطيار والعصافير تزقزق وتقف قربنا على الحشيش.
رأينا جوقة عسكرية صغيرة تدور حول القصر كل ربع ساعة بمشية عسكرية رائعة Marching. بعدها وصلنا إلى الحديقة الكبيرة وكنا قد تعبنا كثيراً، فحملنا أحذيتنا وجلسنا على الحشيش، حيث جلست صبايا كثيرات بالبكيني يقرأن ويتشمّسن. لم نرَ مثل ذلك في حدائق بلادنا من قبل. بقينا نصف ساعة في الطبيعة الساحرة، إذ اقتربت الساعة من الثالثة والربع، موعد اللقاء مع عبد (ويومها لا توجد هواتف متحرّكة) من أجل العودة.
العودة إلى دمشق
كانت العودة مخيبة للآمال، وانقطاعاً لحلم جميل، مع أننا سارعنا إلى النرويج بأيدينا وأرجلنا في معرض الرجاء لحياة أفضل. كنتُ أعتقد أن اغترابي سيطول، لكن الحنين قتلني في شهرين، مثلما قتلني فقدان الأمل بإيجاد عمل.. لكن، هل مات آخر الأحلام؟ لا، فبلادنا جميلة ولغتنا جميلة، وقد كان إحساسي بانقطاعي عن اللغة والتراث رهيباً، وكذا عن المجلات والكتب العربية، واللسان والوجه العربيين، إلا ما ندر.
رحلة الطائرات الثلاث ستتكرر. آخر موعد مع الأستاذ (أوستن) في مستشفى آكر ألغي، فموعده بعيد بعيد، ولا وقت إلا لجمع الحقائب، والسفر.
قبل السفر بيوم، أفطرنا إفطارنا الأخير في بيت الصديق الإنجليزي آندرو الإداري في مدرسة ذوي الهمم، وزوجته الممرضة النرويجية هنّا (حنّا؟). بعدها اجتمعنا والأهل والأصحاب في بيت مضيفنا (يميل): قهوة وحلوى وهدايا وكلام، و… وجوم.
يا الله.. هل سنترك حقاً هذه الطبيعة الآسرة والناس الطيبين؟
دقت الساعة الخامسة فجر يوم الأربعاء 29/6/1988 مع أننا لم ننم جيداً ولم نكن بحاجة إلى منبه. رن الهاتف بعد نصف ساعة، وسأل (أبد): هل أنتم جاهزون؟ وعندما وصل إلى المنزل كنا نتمشى قربه.
مطار أوسلو مزدحم صباحاً. أخذنا دورنا وودّعنا عبد مصافحةً. لا عناق، خشية أن يظننا هؤلاء متخلّفين أو مِثليين، هكذا قال. ربما لم يُرد أن يشعرني بمرارة الوداع التي أكرهها. لو تكرر الموقف اليوم وتعانقنا لكنا محط اهتمام واحترام بالتأكيد، مع تغير (أجندات) العالم.
ها قد بدأت رحلة العودة. لم تكن بهيجة كالذهاب. كنا نركض من مطار إلى مطار لنلحق بأغراضنا وهدايانا المتواضعة. وحين كانت الطائرة تحلّق فوق دمشق راعنا اللون الأصفر فوق باديتها، إذ اعتادت أعيننا على خضرة جميلة.
هبطت الطائرة وفتح الباب. الحرارة أعلى بكثير مما توقعنا. ها نحن أولاء في منطقة الجوازات، فإذا هي ممتلئة بعمائم بيض أتى أهلها للتوّ من الخرطوم، إذ شهدت الشام وقتها سياحة مهمّة من أهل السودان.
كان الأستاذ وليد مدفعي (حماي رحمه الله) وأخي إبراهيم بانتظارنا في ردهة الانتظار، وخلال عودتنا بسيارة فولفو المطار البيضاء لم نملك إلا أن تهاجمنا شتى الأفكار الضبابية فيما هو آت.
بعدها استسلمنا لقدرنا المجهول، فالعبد في التفكير، والرب بالتدبير.