اللبناني يُصارع البقاء
يسعدني أن أبدأ مقالي هذا بالرسالة المؤثرة والمُلهِمة التي وجّهها الرئيس العالمي للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، روجيه هاني، بمناسبة يوم المغترب اللبناني، في 10 آذار 2024. قال:
-“يمر يوم المغترب هذا العام وفي القلب غصة، وفي العين دمعة، فالوطن الصغير مُجدّداً في عين العاصفة: فالفراغ في سدة الرئاسة ينسحب على فوضى دستورية متعاظمة، والأزمة المالية والاقتصادية أودت بثمانين في المئة من شعبنا إلى ما دون خط الفقر، والقوى الإقليمية تعبث بأمنه وسيادته، فها هو العدو متربّصٌ يعمل قتلاً وتدميراً، وها هو السلاح الخارج عن السيادة يجرنا إلى أجنداتٍ إقليميّة خارجة عن مصالحنا كشعب وكدولة. وبدلاً من معالجة الفساد ومحاربة الفاسدين، وإحقاق العدل في ظل قضاء نزيه، والعدالة في ظل دولة القانون، نرانا نرزح تحت الأزمات التي استباحت الوطن، في ظلّ النزاعات والخوف من الحرب المفتوحة، وكاهل الوطن مُثقل بها وبالنازحين واللاجئين، وشاباتنا وشبابنا مجدّداً، وللأسف، يقفون على أعتاب السفارات في موجة هجرةٍ جديدة.”
هذه الرسالة ليست مجرد تعبير عن الحب والتقدير، بل هي نداء للعمل والتضامن في وجه التحديات التي يواجهها لبنان من خونة الداخل، من الطاقم السياسي والرسمي الفاسق الذي باع ضميره والشعب وتواطأ مع الأعداء على الشعب والوطن بغية تكميم أفواه الأحرار وخنق الحريات؛ خونة من أنذال سكروا حتى الثمالة في اللصوصية والدعارة والسرقة والفسق والمجون… خونة من سفلة دخلوا جنة الحكم حفاة وحصدوا مليارات الدولارات واشتروا خواتم الياقوت والعقارات… خونة من لصوص محترفين نهبوا مدخرات وجنى عمر الناس… خونة من الكفّار الذين خرقوا أهم مبادئ الأديان وهي الأمانة والصدق وحرمة الإنسان وحقوقه! لقد حوّل هؤلاء الخونة بسطاء الناس الأبرياء، إلى عبيد عبر إنتاج ثقافة القطيع ليكونوا صامتين وحافظين لنظامهم السياسي القذر والنتن على شاكلتهم.
يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد: “لا فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ”؛ فالخيانة كلمة مريرة، نقولها ونُكررها على ألسنتنا ونحن نشعر بأثقال الألم والغدر والخِذلان تحني ضلوعنا، وتُمزق قلوبنا، وتُذيب أحلامنا، وتُشتّت أرواحنا على قارِعة الحزن والتيه والانكسار، حتى تنطبع أحرفها الخمسة في مُقلتينا التائهتين، لنشعر بفقدان الثقة التامة في عالم يسيطر عليه حثالة الناس من الحمقى، وفي قدرتنا على تجاوز أسوار الخيانة الشائكة من أرذال الناس دون أن نفقد إنسانيتنا. الخيانة بكل صورها لا تتجزأ، فهناك من ارتضى على نفسه ذل خيانة الأب والأم والأخ والحبيب والصديق، وهناك من ارتضى على نفسه إثم وعار أكبر وهو خيانة الأرض والوطن”.
لسلوى العضيدان، كاتبة سعودية، قول جميل في وصف الوطن وتعرية الخونة: “رغيف الخبز اليابس الذي تأكله بكرامتك وبين أهلك وفوق ثرى وطنك ولو كنت تسمع صوت تكسره بين أسنانك، أشرف لك من مائدة فاخرة تجلس باحتقار على طرفها وكل لقمة فيها مغموسة بالمهانة والذلّ، لأنك تعلم يقيناً أنه وإن كان سقف بيتك مشيداً من ذهب فأنت في النهاية مجرد سلعة تمّ شراؤها وسيتم بيعها عندما يتم الاستغناء عنها!”
كذلك، لعبد الرّحمن بن خلدون، مؤسس علم الإجتماع ومن كبار المؤرخين ممن اتصف حكمهم بالمنطق والعقلانية، الكثير من الأراء التي تنطبق على الوضع الحالي في لبنان الذي يعاني الاستبداد المبطّن والعنف والفساد على كافة المستويات:
-إذا تعاطى الحاكم التجارة، فسُد الحكم وفسُدت التجارة. فالصفقات الفاسدة والرشاوى التي يرتكبها الساسة في هذا البلد لخير دليل على كلام ابن خلدون.
-إن الإنسان إذا طال به التهميش، يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى الأكل والشرب والغريزة. مع الأسف، هكذا تتعامل الرئاسات الثلاث، أو حالياً الرئاستان، مع الشعب اللبناني.
-حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، فيصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعانيها الشعب. كلام يوجه كالسهم الى مستشاري الرئاسات في هذا الوطن المنهوب والمغلوب على أمره.
-فساد القضاء يُفضي إلى نهاية الدولة. أو ليس هذا هو الحال مع القضاء المسيّس بعمق الذي شلّ دولاب العدالة لمصلحة سفلة السياسة الرخيصة والقذرة.
واحسرتاه على لبنان (سويسرا الشرق) وما حلّ به من خلال منظومة لصوص جعلت منه دولة فقيرة مهمشة مثقلة بالديون، بل صاحبة أكبر مديونية في العالم رغم صغر حجمها وإمكاناتها، ودولة فقر وبطالة وفساد على أنواعه. هذه هي القيادات السافلة التي سلمّها شعب جاهل زمام أمره، وكانت النتيجة كارثة ما بعدها كارثة. يطبّق على هذا الشعب، الجاهل بامتياز، الأقوال التالية:
–الشعوب التي ترضى بأن يستبيح الأراذل اموالهم ونساءهم، ويفتخرون بذلك، لا تستحق الحياة.
-الشعوب التي لا تثور على الظالمين والفاسدين لا تستحق الحياة.
-الشعوب المتقاعسة عن نيل حقوقها، والتي تعيش في الذل والخنوع، لا تستحق الحياة.
-الشعوب التي تفرعن زعماءها، وترضى بحكم العملاء والخونة، لا تستحق الحياة.
-الشعوب التي ترى ثرواتها ومدخراتها تسرق ولا تحرّك ساكنا، لا تستحق الحياة.
-الشعوب التي لا تستذوق طعم الحرية، والتي تداس كرامتها بالمداس، لا تستحق الحياة.
-الشعوب التي حالها حال الغنم، يقودها حمار، ويضبط حركتها كلب، وتتربص بها الذئاب، لا تستحق الحياة.
-الشعوب التي لا تعرف معنى الثورة الحقّة، لا تستحق الحياة.
لا عليكم يا أعداء الخارج، اذا جاز التعبير، فالطريق أمامكم ممّهدة سهلة، مهّدها لكم الزعماء الأنذال والشعب الداجن الذي فتكت به عوامل التمزّق والشذوذ والانحلال وغدا فقط أنعاما تعيش لتأكل وتنام. لا تستبعدوا أيّ شيء في ظلّ حكومات وزعامات الأنذال التي دمرّت لبنان والعيش المشترك! لا تستبعدوا أي شيء، فنحن في زمن المستحيل الممكن مع حكّام من الخونة وشعب ساقط ماجن يرعى ويأكل كالأنعام، ولا يسكن وجدانه وهواجسه إلا قضايا البطن والفرج.
ماذا بقي لحكام لبنان الخونة الذين باعوا ضمائرهم وبلدهم للخارج؟ وماذا بقي من ماء وجه لهم بعدما تواطؤوا مع الخارج من أجل تكميم أفواه الشعب وقمعه؟ وماذا بقي لهذا الشعب الحاهل الذي اختار الأنذال الذين سكروا حتى الثمالة، في الفساد والسرقات والنهب والفجور و…، ليحكموه! على أي حال، لا أجد بدّاً من توجيه الهجاء اللاذع والتوبيخ الذي تصفه هذه القصيدة الرائعة والمعبّرة عن نبض الشعوب التي نظمها الشاعر الكبير أحمد مطر:
فـوقَ نَعلـي
كُلُّ أصحـابِ المعالـي!
قيـلَ لي: عَيبٌ
فكرّرتُ مقالـي.
قيلَ لي: عيبٌ
وكرّرتُ مقالي.
ثُـمّ لمّا قيلَ لي: عيبٌ
تنبّهتُ إلى سـوءِ عباراتي
وخفّفتُ انفعالـي.
ثُـمّ قدّمـتُ اعتِـذاراً
.. لِنِعالـي!
في الختام، لنتذكّر بأن الشعب بحاكمه، والاسرة بعميدها، والوحدة العسكرية بآمرها، والعشيرة بشيخها؛ فاذا صلح الراعي صلحت الرعية. كم هو هزلياً هذا الواقع اللبناني الذي تحوّل، بفعل حكّامه الخارجين عن القانون، الى دولة حثالة ودولة شعب يثير الشفقة بين شعوب العالم. هذا الواقع اللبناني ليس ابتلاء الهي بقدر ما هو ابتلاء من اللبنانيين انفسهم ولأنفسهم عندما ارتضوا ان يكون موقعهم في اخر الصفوف (ذيول) لهذا العصر الذين يعيشون احداثه ولا يستطيعون صنعه او التأثير فيه نظراً لانهم مسيرون وفق مشيئة التبعية لأمراء الحرب الفاسدين والأراذل، فاصبح وجودهم كعدمه … لا لون ولا طعم ولا رائحة.
كل الشعوب تمتلك الارادة وتصنع قدرها بمشيئتها الا الشعب اللبناني القابع في القاع الذي ارتضاه له الحكام الخونة. نعم، هذا هو حال اللبناني: عجز واحباط ومرارة خلف الاسوار التي صنعتها له الارادة الحزبية المقيتة والخائنة منذ التسعينات! لا بد لنا هنا من أن نستذكر ما قاله المقاتل الأسطوري، وأيقونة الثورة والتمرّد، تشي غيفارا:
-“خير لنا أن نموت واقفين، مرفوعي الرأس، من أن نموت راكعين.”
-“من يقتلك ليس من يطلق عليك رصاصة، بل من يقتل أحلامك.”
-إذا أردت تحرير وطن، ضع في مسدسك عشر رصاصات، تسعة للخونة وواحدة للعدو، فلولا خونة الداخل ما تجرأ عليك عدو الخارج.
****
ملاحظة: ما ورد في المقال لا يُعبّر عن رأي موقع “تأمين ومصارف” بل عن رأي الكاتب وحده، فاقتضى التوضيح…