الدكتور إياد الشطي
د. غالب خلايلي
إهداء إلى الأستاذ الدكتور محمد إياد الشطي بمناسبة نجاح العمل الجراحي القلبي الذي أجري له يوم الأحد الماضي في مستشفى دار الشفاء بدمشق، راجيا له الصحة والعافية ودوام العطاء.
***
قبل أربعين عاما بالتمام والكمال، جلست وزميل لي بكل أدب واحترام أمام الأستاذ الدكتور إياد الشطي، وهو بكامل هيبته وبهاء طلعته التي أعطاه إياهما رب العالمين مع قبول كبير في قلوب معظم من رأوه.
كان امتحان السنة النهائية (السادسة) في كلية الطب البشري دفعة 1984 في مادة التشريح المرضي التي كان يدرسها الأستاذ، وهو أكبر أئمتها بلا منازع، بما أوتي من علم غزير وموهبة استثنائية في شرح علم صعب، حتى لكأنه سلسبيل ماء بارد عذب في وسط القيظ (كالذي نعانيه اليوم)، أو لكأنه “العسل فوق حلاوة الجبن”، كما ابتدعت مخيلة أحد الأصدقاء المهاجرين الأحباء في معرض تعليقه على ذات مقال لي.
كان الأستاذ صارما كعادته حينما قال لي ولزميلي: أمامكما خيار لكل منكما، أورام المبيض، أو أورام الخصية، فسارعت إلى الأول الأصعب، وبقي الأسهل لزميلي.
الصعب ليس صعبا عندما تفهمه في دروس الشطي، وكم كان موضوعا بالغ التعقيد عندما درسناه في طب النساء، فرحت أسرد ما علمنا إياه الأستاذ، وعلامات الارتياح بادية عليه (ففي عادة بعض من علمونا التجهم والتقطيب حتى ينقطع قلب الطالب وهو لا يدري أأحسن أم أساء)، وعندما انتهيت سألني أن أفصّل في أحد الأورام، ففصلت، لينتهي امتحاني بعلامة المئة (التي عرفتها لاحقا) و كذا زميلي الذي تناول أورام الخصية، والذي قال لي بعد خروجنا من الامتحان بكل شفافية: لو أخذت أورام الخصية لكنت ذبحتني!
الذي أود قوله: إن أستاذا يعطي الطالب علامة كاملة هو أستاذ كريم يثق بنفسه كل الثقة، ويقدّر من أمامه بعينيه الفاحصتَيْن الخبيرتَيْن.
وهكذا كان إياد الشطي، الأستاذ أولا، ورئيس القسم، ثم عميد كلية الطب البشري بدمشق، ثم وزير الصحة في مرحلة من أقسى مراحل البلد، حيث شحّت الأدوية إلى حد مرعب، وتدّنت الخدمات الصحية، فكان أن أعاد الحياة إلى كل مكان عمل فيه الأستاذ، ناهيك عن عضويات ورئاسات عالمية كثيرة يمكن الرجوع إليها في سيرة حياته الثرية.
والشيء بالشيء يذكر، كم هلكنا في امتحانات وضنّ الممتحنون بعلاماتهم، فكانت التسعون أحسنها عند أكرمهم، فيما قاربت عند بعضهم حد الرسوب، كما حدث معي في مادة إحدى الحواس، حيث أكاد أجزم أن الأستاذ حديث العهد لم يرني وسط مجموعة من الزميلات باديات الحسن، فكان أن هبط معدلي النهائي تحت الثمانين بشحطة، ولم يفز بعلامة فوقها إلا ندرة من الطلاب؛ منهم أخوان توأم انتقلا إلينا في السنة الأخيرة من ذات جامعة كريمة بعلاماتها.
أتذكر كل ذلك اليوم بعد تقادم العهد، وإن لم أعد أقيم قيمة لذلك، ولأشياء كثيرة بعد كل الصروف والشدائد الحياتية في مسيرة كل منا، لكني أخلص إلى النتيجة الهامة: المرء بمحاسنه.
نعم بمحاسنه، ولا شيء آخر، فتلك المحاسن والصفات الكريمة والسمعة الحسنة هي التي تبقى بعد زوال كل صفات القوة والمناصب والصحة وربما المأوى والمال (حفظكم الله بنعمه عليكم جميعا)، علما أن الكمال
لله وحده والأنبياء، أما نحن البشر فيكفي أن تعد معايبنا كما قال الشاعر المبدع علي بن الجهم (قبل اثني عشر قرنا):
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وهذا هو الكريم ابن الكرام أستاذنا إياد، الذي جدّدت معرفتي به في مجلس الأستاذ الدكتور إبراهيم حقي، رحمه الله، في أكثر من عيد، قبل عام كوفيد المشؤوم، إذ كان المرحوم حقي، عميد الأطباء وعلامة دمشق، يتقاطر إليه محبوه كل عيد، ومنهم الأستاذ الشطي، الذي رأيته هنا خفيف ظلّ وصاحب نكتة، ما كان ممكنا معرفتها في جو الأستاذية الصارم، والأجمل من كل ذلك هو الحس المرهف الذي يتمتع به وهو يعزف عزفا شجيا متقنا على البيانو، وقد انتشر له مقطع أو أكثر في وسائط التواصل.
آه لو يعود بنا الزمان إلى أيام دافئة جميلة في كلية الطب البشري بدمشق.. إلى أيام الصبا والجمال.. والأساتذة المبدعين.. لكنه لن يعود وقد صرنا أجدادا يصعب حتى أن نجتمع ونتلاقى، مع انتشارنا في معظم دول الشرق والغرب، ومع رحيل عدد من زملائنا إلى رحمة الله.
لكن هل يجود علينا الزمان بأمثال من علمونا ومن علمهم من جيل الأوائل؟
ولمَ لا يجود، ما دامت البذار التي بذرها الأستاذ إياد وجيله والأجيال التي سبقته قد نبتت وأزهرت وأينعت في كل الأرجاء، فهل يعز قطافها في وطننا الغالي؟
أطيب التحيات لأستاذنا الشطي، حفظه الله وبارك به، وبكل من أعطى علمه من قلبه، والرحمة لمن صاروا في دار الخلود .
دمشق، الخميس 27 حزيران 2024