د.غالب خلايلي
ليس أطيبَ ولا ألذّ، في الصيف الحارق، من بِطّيخة باردة تنزل برداً وسلاماً على معدةٍ تغلي وتفور بأمور وأمور، بعد أن كابَدتْ ما كابَدَتْه من نكبات الدهر وعذاب السنين.
ولأن المعدةَ بيتُ الداء، فهي تشتعل مع كل خبر مزعج تراه في الرائي أو تسمعه من المذياع، أو تتلمّسه في الوسائط، ومع كل رسالة يستلمها هاتفك “الذكي” من جهات كثيرة تبلغك بفواتير مرقومة رأس كل شهر (كهرباء، هاتف، مدارس، مخالفات المرور والمواقف، إذا كنتَ ما زلتَ قادراً على تسيير سيارة..) وغيرها، وعليك دفعُها دون تأخير، تحت طائلة انقطاع الخدمة والتغريم، أو مع رؤيتك لتصرّفاتٍ منفّرة ومشاهدَ مؤذية في الحياة (صراخ، شتم، تدخين في المشفى والمدرسة وغرفة النوم…)، فإذا بمعدتك تتشنّج وتنقلب، مما لا يسببه حتى التبغ الرديء على الريق، أو تفعله شطيرة البرغر المجرثمة، عن قصد (الغش بخلط بقايا الدجاج)، أو غير قصد (بسبب انقطاع التيار الكهربائي تسعة أعشار اليوم)….
لكن (ما على قلبك شر) يا سيدي، إن شاء الله، مهما رأيت أو كابدْت، ما دامت البطيخة الباردة متوفرة..
فإن كنتَ ماشياً في الطريق بأمان الله، و(تنمّر) عليك أحد سائقي السيارات المنفلتة كثيراً والهائجة، وكاد يدهسك، فاقفز ثم ضع بِطيخة باردة في بطنك، وسر على بركة الله.
وإذا (تخنزر) سائقٌ وراءك، كأن يطلق بوقه بمجرد انقلاب الإشارة الضوئية، أو كنتَ في طريق سريع وراح يومضُ لك مصباحه “الزينون” حتى تمسيَ أعشى، ثم صار فجأة أمامك بطيئاً مثل حمار أجربَ حرون، أو توقّف السير فجأة لأي سبب، أو فاتك المرور لأنّ الذي أمامك يمشي على بيض، فضع بِطيخة باردة في بطنك، وحافظ على هدوئك، مما سيصبّ في سلامة قلبك وأعصابك، وميزان حسناتك.
وإذا كثرت خرائب الشوارع التي تسلكها لسنوات دون أن تنتبه لها مصلحةُ الطرق، فيما تعيد رصف طرق جديدة تكاد تلمع من جدّتها، وإذا انقلبت الحارات أرضاً يباباً كأنما تعرّضت لغزو، بحجة الصيانة والتجميل، فضع بطيخة باردة في جوفك، وحافظ على رباطة جأشك، ونظافة حذائك وبنطالك.
وإذا لم تجد وقوداً لمدفأتك أو دواء لأحبائك، أو أغضبتْك الأخبار السياسية والاقتصادية التي تنفخ القلب، بسبب الأخلاقيات الدولية المنحطّة، وانتشار اللصوصية والفساد والتمييز بأشكاله، فما الذي سوف يفعله غضبك سوى أن يستفزَّ شرايينك، ويستنفرَ ضغطك، ويرفعَ سكّرك، ويخرّبَ مزاجك، وينكّسَ أعضاءك الحيوية؟ إذاً ضع بطيخة باردة في بطنك، وانجُ بصحتك.
وإذا كنت تحتفظ بدواء في ثلاجة، أو بغذاء عزيز (وكنت قادراً أصلاً على تدبّر أمر الدواء والغذاء)، ثم انقطعت الكهرباء يوماً أو أياماً، وخرب ما لديك، فما لك والله سوى الصبر والبطيخة الباردة.
وإذا كنت تدفع فاتورة إنارةٍ تقصم الظهر وتقطع النسل، وأنت تفكّر كيف تدبّر المبلغ والدنيا نار كاوية، والمصاريف لا ترحم، لاسيما في عهد الانحدار الخرافي للعملة والعمل، فما لك سوى اللجوء في عز الحرّ أو القرّ إلى أحد المعابد (وربّنا يفتحها عليك)، ويفتح لك بِطيخة باردة تطفئ نار اشتعالك.
وإذا كنت مستأجراً عقاراً، ولم يرحمْك المؤجّر بإيجارٍ أو بصيانة، وأرسل إليك نمرودَه مزعجَ الصوت والقسمات، قليل الإنجاز والبسمات، مع فريق الصيانة المؤلف من ثلّة من الشاحبين المتخلّفين عقلياً، فاعلم أن البطيخة الباردة فرضُ عين، وكذا ترك المؤجّر في أقرب فرصة.
أما إذا كنت مؤجّراً عقاراً لتاجرٍ مُختال، أو رجل أعمال محتال، يتباكى كلما جاء موعد التجديد، ويهدّد بأنّه تاركٌ لا محالة، فاطبش بِطيختك الباردة، وغُص فيها حتى ترتوي، وفكّر بمستأجر نظيف.
وإذا سألك أحدٌ سؤالا غبياً، في الطبّ أو في غيره، وكرّر السؤال ذاته بعد دقائق، أو ألحّ في طلب موعد، ثم أتى متأخراً ساعتين أو لم يأتِ إطلاقاً أو يعتذر، فاعلم أن البِطيخة الباردة سوف تساعدك كثيراً.
وإذا قمتَ بتقديم خدمةٍ جليلة لشخصٍ كان يلوب ولا ينام بدونها، ثم لم يقدّرْها حق قدرها، أو هرب قبل أن يدفع أجرتك، على أساس أنه “نسي محفظته”، ومن ثم سوف يذهب ويعود بها، أو سيحوّلها إلى حسابك، ثم (شمَّع الخيط)، فلا تستهنْ بأمر البِطّيخ البارد في أوقات العطب الأخلاقي.
وإذا راسلتَ أحدهم، ولم تتلقّ جواباً بعد أسبوع أو شهر أو سنة، فضعْ بِطيخة باردة في جوفك، وابحث له عن عذر، وارجُ ربّ العباد ألا يكون في عداد المفقودين في كوفيد أو غيره.
كثيرة هي المواقف التي تتطلب البِّطيخ البارد، حتى إنني أعجزُ عن ذكرها لك، مهما عدّدتُ من المثالب التي تمكن المعاناة منها، هبوطاً من مواقف الدول الكبرى والمنظّمات الدَّوْلية المستأسدة على الضعفاء، ومروراً بقضايا السفر، لاسيما إلى دولٍ تعدّ نفسها جنة النعيم ومهد الديمقراطية، وتعدّك الشيطان في بيئة إرهابية، وانتهاء بأدنى الحاجات الشخصية مثل تدبّر أمور الزواج وتدريس الأولاد، أو كسوتهم، أو إطعامهم.
في كل موقف سلبي يثير أعصابك في هذه الحياة غير العادلة بالتأكيد، تذكّر أننا مجتمع مخروعٌ ثقافياً، كسيحٌ عقائدياً، ومأزومٌ من المهد إلى اللحد، وتذكر أن لكلّ منا عقدَه ومشاكلَه التي لا تنتهي، وأن كل قوانا متنافرة يفني بعضها بعضاً (محصلتها صفر مكعب)، فلا تحمّلْها كثيراً، وتخيّل منظر البِّطيخة الباردة، وأنها مستوطنةٌ كالاستعمار في معدتك، فهذا الخيال سوفَ يساعدك على التماسك قبل انفراط مسبحتك.
أما لماذا أقول الخيال، مع أن البِطيخ مبذولٌ في الأرض “السعيدة”؟ هذا لأنّ الحصول عليه أحمرَ شهياً بارداً ورخيصاً صار، حتى في موسمه، حلماً في أصقاع كثيرة.
العين
24/7/2021