في إطار مقالاته المتتابعة، وهي في الواقع أبحاث أكثر منها مقالات، يتناول د. الياس ميشال الشويري الأستاذ الجامعي والكاتب والمحلّل، موضوعاً يردّ فيه على أسئلة الكثيرين: “لماذا يسمح الله بالظلم” و”أين هو الله من كلّ ما يجري”… ومع أن الأجوبة تتفاوت رداً على السؤالين، الا أن الكاتب ذهب الى عمق الإيمان ودخل الى جوهر الدين المسيحي والدين الإسلامي بالتركيز على العدالة الإلهية المنتظرة يوم الدينونة.. لعلّ الظالمين عديمي البصر والبصيرة والإيمان يرعَووا قبل فوات الأوان…
د. الياس ميشال الشويري
في ظلّ الأزمات المتلاحقة التي يعانيها لبنان، تتصاعد أصوات الغضب والإحباط من الشعب تجاه المنظومة الحاكمة، التي تخلّت عن قيم المسؤولية والإنسانية والعدالة، وكمن “كفر بالله تعالى” وبمخلوقاته. إن التدهور الاقتصادي والفساد السياسي وانعدام الخدمات الأساسية والانقسامات الطائفية وغيرها الكثير، جعلت جميعاً من الحياة اليومية في لبنان تجربة قاسية ومليئة بالتحديات. في مثل هذه الظروف، يشعر المرء بالخذلان، ليس من الذين يتعاطون السياسة من الباب الرخيص فقط، ولكن أيضًا من الله تعالى. هذا الشعور يمكن أن يصل إلى درجة التشكيك أو الرفض الرمزي للإيمان، وهو ما يمكن التعبير عنه مجازيًا بعبارة “كفرنا بالله”.
ان أحد أكبر أسباب الشعور باليأس في لبنان، وهذا البحث يتناول لبنان لا سواه من الدول، هو الفساد المستشري في كافة مؤسساته. فالمواطن يرى أن السياسيين الذين يفترض بهم أن يكونوا خدّامًا للشعب، يستغلون مواقعهم لمصالحهم الشخصية فقط ولنهب المواطن بشتّى الطرق. هذا الشعور بالظلم يعمّق الإحساس بأن العدالة الإلهية غائبة، ويزيد من الإحباط الذي يشعر به الإنسان. فمنذ سنوات، ولبنان يعاني انهيار اقتصادي غير مسبوق، وتدهوراً في قيمة عملته، وارتفاعاً في معدلات البطالة، وفقداناً لجنى العمر في المصارف التي كانت ميّزة خاصة به، وغيرها وغيرها. ان كلّ ما تقدّم يُشكلّ عوامل جعلت الحياة اليومية صعبة للغاية. وعندما يجد الإنسان نفسه غير قادرٍ على تلبية احتياجاته الأساسية، قد يشعر بأن الحياة أَضحت بلا معنى وأن الله قد تخلّى عنه.
في الأزمات، يتساءل الكثيرون: “لماذا يسمح الله بهذا الظلم؟” أو “أين هو الله من كل هذا؟” هذان التساؤلان يعكسان صراعًا داخليًا حول فكرة العدالة الإلهية. ذلك أن الإنسان عندما يشعر بأن الظلم يسود ولا يرى نهاية للألم والمعاناة، قد يظّن أن الله غير موجود أو أن وجوده لم يعد يقدّم العزاء الذي يحتاجه. على الجانب الآخر، قد يجد البعض أن الأزمات هي اختبار للإيمان، وأن الصمود في وجه هذه التحديات يعزّز من القوة الروحية. من خلال المعاناة، يمكن أن يصل الإنسان إلى مستويات أعمق من الفهم الروحي، ويجد معنىً جديدًا في الإيمان، رغم كل ما تمّر به من صعوبات.
وان الشعور باليأس وفقدان الثقة، سواء أكانا اثنيْن من الحكام أو حتى من الله تعالى، هما انعكاس طبيعي للظروف الصعبة التي يعيشها الإنسان. ولكن، من المهم أن نفهم أن هذا الشعور ليس نهاية الطريق، بل هو دعوة لإعادة التفكير في ما يعنيه الإيمان، وكيف يمكن أن يكون مصدرًا للقوة والتحمّل في مواجهة الصعاب. البحث عن معانٍ جديدة، والانخراط في النشاط المجتمعي، وإعادة تعريف العلاقة مع الله، يمكن أن تساعد في تجاوز هذا الشعور وإيجاد طريقًا نحو الأمل والعدالة.

1-فقدان الثقة بالمنظومة الحاكمة! المتداول على ألسنة الناس في هذه الأيام أن المحرّم في لبنان يشمل من ضمن ما يشمل شرب الكحول، بينما المحلّل يكاد يشمل كلّ شيء! هذه الازدواجية في المعايير ليست جديدة، وهي مشكلة شائعة في لبنان حيث تُعتبر بعض الأفعال حرامًا أو غير مقبولة، بينما يتمّ التهاون أو التسامح أو التغاضي عن أفعال شنيعة تؤثّر بشكل مباشر في حياة الناس اليومية وعلى مستقبل الوطن، مثل الفساد ونهب الموارد العامة ومدخرات الناس في المصارف، وتعطيل مجرى العدالة في حادثة إنفجار مرفأ بيروت وما نتج عنها، والتعدّي على أملاك الغير، والإستيلاء على مشاعات الأراضي، وتجارة المخدرات والكبتاغون، وغيرها وغيرها.
الفساد في لبنان مشكلة عميقة الجذور، وهو ليس مجرد تصرفات فردية بل نظام كامل يعمل على استغلال مؤسسات الدولة للمصالح خاصة. هذه المشكلة أثرت بشكل مباشر في حياة المواطنين، حيث أدّى الفساد إلى تدهور الخدمات العامة، وانهيار الاقتصاد، وزيادة الفقر، إلخ. لبنان بحاجة إلى إعادة تقييم للقيم الأخلاقية والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع. يجب أن تكون الأولويات واضحة، حيث يتعيّن على المجتمع التخلّص من الذين أمعنوا فساداً في الوطن، والتركيز على محاربة الفساد وتعزيز العدالة الاجتماعية كجزء أساسي من الإلتزام الديني والأخلاقي. وممّا لا شك فيه أن تحقيق العدالة يتطلّب نظامًا قضائيًا قويًا ومستقلًا، قادرًا على محاسبة كل من يخالف القانون، بغض النظر عن المكانة أو النفوذ. كما يجب على المواطنين أن يدركوا أن القضايا الكبرى، مثل الفساد ونهب الدولة، لها تأثير أكبر بكثير عند الّله تعالى من بعض المحرّمات التي يتّم التركيز عليها.
2-كيف يسمح الله لحثالة بان تتحكّم برقاب الناس؟ سؤال كهذا يعكس إحساسًا عميقًا بالظلم والإحباط، وهو سؤال قد يطرحه الكثيرون عند مواجهتهم لظروف قاسية أو عند رؤيتهم ظالمين في مواقع السلطة. هذا النوع من الأسئلة يتناول مفهوم “العدالة الإلهية”، وهو موضوع معقّد يتناول العديد من الأبعاد الفلسفية والدينية. سأحاول في ما يلي تقديم وجهات نظر مختلفة للتفكّر فيها:
-حرية الإرادة واختبار الحياة. في العديد من الأديان، يُعتقد أن الله منح الإنسان حرية الإرادة ليختار بين الخير والشر. هذه الحرية تجعل من الحياة اختبارًا حيث يختار البشر أفعالهم ويتحملون مسؤولية نتائجها. وجود حكّام أو أشخاص يسيئون استخدام السلطة قد يكون جزءًا من هذا الاختبار، سواء لأولئك الذين هم في السلطة أو لأولئك الذين يعيشون تحت حكمهم. في النهاية، يُعتقد أن الله سيحاسب الجميع على أفعالهم، سواء كانوا حكامًا أو محكومين.
-الابتلاء والصبر. بعض المعتقدات الدينية تنظر إلى وجود الظلم والمعاناة على أنهما شكل من أشكال الابتلاء. هذا الابتلاء قد يكون اختبارًا لصبر الإنسان وإيمانه. يعتقد بعض الناس أن الله تعالى يسمح بوجود الظلم في الدنيا ليختبر إيمان البشر، وأن العدل الإلهي سيتحقّق في الآخرة، حيث سيُجازى الظالم على أفعاله وسيكافأ المظلوم على صبره وتحمّله.
-دروس وعبر للبشرية. قد يرى البعض أن وجود حكّام ظالمين أو أوضاع صعبة هو وسيلة للتعلّم واكتساب الحكمة. في بعض الأحيان، يواجه المجتمع أزمات يمكن أن تحفّزه على التغيير والإصلاح. قد تكون هذه الأزمات حافزًا لتبنّي مواقف أكثر وعيًا والتكاتف من أجل تحسين الأوضاع.
-العدالة المؤجلة. في الفكر الديني، يُعتقد أن العدالة الإلهية قد لا تتحقّق بالكامل في الدنيا، وإنما في الآخرة. الحكّام الظالمون الذين قد يبدون ناجحين في الدنيا يمكن أن يُعاقبوا بشدة في الآخرة. الإيمان بهذا النوع من العدالة يعطي بعض الأمل لأولئك الذين يعانون الظلم، ويعزّز فكرة أن الله تعالى في نهاية المطاف سيعيد التوازن والعدل.
-الدور الإنساني في مواجهة الظلم. البعض يرى أن الله يُعطي البشر القوة والإمكانية لمواجهة الظلم والتغيير. هذه المسؤولية تقع على عاتق البشر في الوقوف ضد الظلم والسعي لتحقيق العدالة. قد يُنظر إلى السكوت عن الظلم أو قبول الحاكم الفاسد على أنه تخلٍّ عن هذه المسؤولية.

من الطبيعي أن تثير الظروف الصعبة أسئلة مثل هذه، حيث يسعى الإنسان لفهم سبب وجود الشر والظلم في العالم. بينما قد لا تكون هناك إجابات بسيطة تُرضي جميع التساؤلات، إلا أن هذه الأفكار المختلفة قد تساعد في توفير منظور أعمق لفهم العدالة الإلهية وكيفية التعامل مع التحديات التي تواجهنا في الحياة.
3–الاختبار الإلهي وصمود الشعب. في الأديان الكبرى مثل المسيحية والإسلام واليهودية، يُنظر إلى الصعوبات والابتلاءات كاختبارات من الله تعالى. يُعتقد أن هذه الابتلاءات تهدف إلى اختبار قوة الإيمان وصبر الإنسان. فالكتاب المقدّس، مثلاً، وبعهديه القديم والجديد، يقدّم رؤية شاملة ومتعدّدة الأبعاد حول الظلم والآخرة، موضحًا العلاقة بين الحياة الدنيوية والحياة الأبدية، ومسؤولية الإنسان أمام الله وأمام الآخرين. في ما يلي توسيعًا لهذه المفاهيم:
–الظلم كخطيئة ضد الله والإنسان. الظلم في الكتاب المقدس لا يُعتبر مجرّد خرق لحقوق الإنسان، بل هو أيضًا تعدٍ على مشيئة الله التي تطلب العدل والرحمة. الله في الكتاب المقدس يعبّر عن استيائه وغضبه تجاه الذين يظلمون الآخرين، خصوصًا الفقراء والمهمشون. ففي سفر إشعياء 10: 1-2، يدين الله المشرعين الذين يصدرون قوانين ظالمة: وَيلٌ لِلَّذينَ يَشتَرِعونَ فَرائِضَ الإِثْم والَّذينَ يَكتُبونَ كِتابةَ الظُّلْم . لِيَرُدُّوا الضّعَفاءَ عن إِجْراء الحُكْم ويَسلُبوا حَقَّ وُضَعاءِ شَعْبي لِتَكونَ الأَرامِلُ غَنيمةً لَهم ويَنهَبوا اليَتامى. هذا يظهر مدى تركيز الكتاب المقدّس على حماية الضعفاء من الاستغلال.
-دعوة للعدل والرحمة. الكتاب المقدس لا يدين الظلم فقط، بل أيضًا يدعو الناس بشكل إيجابي للسعي لتحقيق العدل وإظهار الرحمة تجاه الآخرين. ففي سفر ميخا 6: 8، يُلخّص الله ما يطلبه من الإنسان: قد بَيَّنَ لَكَ أَيُّها الإِنسانُ ما هو صالِح وما يَطلُبُ مِنكَ الرَّبّ. إِنَّما هو أَن تُجرِيَ الحُكْمَ وتُحِبَّ الرَّحمَة وتَسيرَ بِتَواضُع مع إِلهِكَ. هذه الدعوة للعدل والرحمة تُظهر أن الحياة التي ترضي الله هي تلك التي تتسم بالعدل والتواضع في التعامل مع الآخرين.
-الظلم في العلاقات الإنسانية. الكتاب المقدس يؤكد على أهمية العدالة في كل جوانب الحياة، بما في ذلك العلاقات الشخصية والاجتماعية. الاستغلال أو إساءة استخدام السلطة أو الغش تعتبر أشكالًا من الظلم الذي يدينه الكتاب المقدس بشدة. ففي سفر الأمثال 22: 22-23، يقول: لا تَسلُبِ الفَقيرَ لأنَّه فَقير ولا تَسحَقِ البائِسَ عِندَ الباب . فإِنَّ الرَّبَّ يخاصِمُ لِخُصومَتِهما ويَخطَفُ نُفوسَ الَّذينَ خَطَفوهما. الله هنا يأخذ جانب الفقراء والمظلومين، ويعد بالانتقام لهم.

-إدانة الظلم الديني والسياسي. الكتاب المقدس يدين بشكل خاص الظلم الذي يمارسه القادة الدينيون والسياسيون. الرب يسوع في العهد الجديد ينتقد بشدة القادة الدينيين الذين يستغلون سلطتهم لظلم الشعب، ويوبخهم على نفاقهم. ففي إنجيل متى 23: 23، يوبّخ الرب يسوع الكتبة والفريسيين: الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعة: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة. فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك.
-يوم القيامة والدينونة. الكتاب المقدس يؤكد أن هناك يومًا ستتم فيه محاسبة جميع البشر على أفعالهم. في هذا اليوم، الذي يعرف بيوم القيامة أو الدينونة، سيحاسب الله جميع الناس على أعمالهم، سواء كانت خيرًا أو شرًا. ففي رؤيا يوحنا 20: 11-15، يُصوّر مشهد الدينونة العظمى: ورَأَيتُ عَرشًا عَظيمًا أَبيَضَ والجالِسَ علَيه. فمِن وَجهِه هَرَبَتِ الأَرضُ والسَّماء ولم يَبقَ لَهما أَثَر. ورَأَيتُ الأَمواتَ كِبارًا وصِغارًا قائِمينَ أَمامَ العَرْش. وفُتِحَت كُتُبٌ، وفُتِحَ كِتابٌ آخَرُ هو سِفرُ الحَياة، فحوكِمَ الأَمواتُ وَفقًا لِما دُوِّنَ في الكُتُب، على قَدرِ أَعْمالِهم. وقَذَفَ البَحرُ الأَمواتَ الَّذينَ فيه، وقَذَفَ المَوتُ ومَثْوى الأَمْواتِ ما فيهما مِنَ الأَموات. فحوكِمَ كُلُّ واحِدٍ على قَدرِ أَعْمالِه. وأُلقِيَ المَوتُ ومَثْوى الأَمواتِ في مُستَنقَعِ النَّار. هذا هو المَوتُ الثَّاني: مُستَنقعُ النَّار. ومَن لم يوجَدْ مَكْتوبًا في سِفرِ الحَياة أُلقِيَ في مُستَنقع النَّار. هذا المشهد يؤكد على أن كل إنسان سيواجه حسابًا نهائيًا عادلًا بناءً على أعماله.
-الجزاء والعقاب الأبدي. في الكتاب المقدس، يتم تصوير الآخرة على أنها تنقسم إلى نوعين من المصير: الحياة الأبدية للأبرار الذين يتبعون إرادة الله، والعقاب الأبدي للأشرار والظالمين. ففي إنجيل متى 25: 46، يقول الرب يسوع: فيَذهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إِلى الحَياةِ الأَبدِيَّة. هذه الآية توضح الفرق بين مصير الأشرار والأبرار في الآخرة، مؤكدة على حقيقة الجزاء العادل.

-البعث والحياة بعد الموت. الكتاب المقدس يتحدث عن البعث، حيث سيقام جميع الموتى في يوم القيامة ليحاسبوا على أعمالهم. هذه الفكرة ترتبط بشكل وثيق بالإيمان بالآخرة في المسيحية. ففي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 42-44، يتحدّث القدّيس بولس عن البعث: وهذا شَأنُ قِيامَةِ الأَموات. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِفَساد والقِيامةُ بِغَيرِ فَساد. كونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِهَوان والقِيامَةُ بِمَجْد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بضُعْف والقِيامةُ بِقُوَّة. يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا. وإِذا كانَ هُناكَ جِسْمٌ بَشَرِيّ، فهُناكَ أَيضًا جِسْمٌ رُوحِيّ. هذا المقطع يوضح أن الحياة في الآخرة ستكون مختلفة تمامًا عن الحياة الدنيوية، حيث سيحصل المؤمنون على أجساد مجيدة وغير فاسدة.
-الملكوت السماوي والجزاء الأبدي. في الكتاب المقدس، يُصوّر الملكوت السماوي كالمكان الذي سيكافأ فيه المؤمنون الصالحون بالحياة الأبدية مع الله. يتمّ تصوير هذا الملكوت كمكان لا يوجد فيه ألم أو حزن، بل فرح وسلام أبدي. ففي رؤيا يوحنا 21: 4، ورد ما يلي: وسيَمسَحُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم. ولِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآَن، لأَنَّ العالَمَ القَديمَ قد زال. هذا المقطع يعبّر عن الأمل الذي يحمله المؤمنون في العيش إلى الأبد في سلام وفرح في حضرة الله.
بالملخّص، الكتاب المقدس يقدّم رؤية متكاملة حول الظلم والعدالة الإلهية والآخرة. الظلم يُعتبر انتهاكًا خطيرًا لإرادة الله وحقوق الإنسان، وهو مُدان بشدة في كل من العهدين: القديم والجديد. بالمقابل، يُشجّع الكتاب المقدس على العدل والرحمة في التعامل مع الآخرين. أما الآخرة، فهي تتجلّى في الكتاب المقدس كمكان الدينونة العادلة والجزاء الأبدي، حيث سيُجازى المؤمنون بالحياة الأبدية في الملكوت السماوي، بينما سينال الأشرار والظالمون عقابهم في النار الأبدية. هذه الرؤية تهدف إلى تحفيز الإنسان على العيش بحياة تتسّم بالعدل والمحبة، استعدادًا للحياة الأبدية مع الله. هذه المفاهيم تعزّز من قدرة الناس على التعامل مع الأزمات بتفاؤل وإيمان، حتى في مواجهة الظلم الكبير.
واذا انتقلنا الى القرآن الكريم، الظلم والآخرة فيه موضوعان أساسيان، حيث يتكرّر تأكيد أهمية العدل ورفض الظلم، وحساب الآخرة مراراً وتكراراً كجزء من الإيمان الإسلامي. الظلم في القرآن يشمل أنواعًا مختلفة من الانحرافات عن العدل، بما في ذلك ظلم الإنسان لنفسه بارتكاب الذنوب، وظلم الآخرين بالتعدي على حقوقهم. جاء في سورة لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: 13)، ممّا يوضح أن أعظم أنواع الظلم هو الشرك بالله.
–تحريم الظلم. الله تعالى يحرّم الظلم على نفسه وعلى عباده، ويحّث على العدل في جميع التعاملات. في الحديث القدسي، يقول الّله: يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا. وهذا يوضح أهمية العدل كقيمة أساسية في الإسلام.
–عواقب الظلم. القرآن يحذّر من عواقب الظلم في الدنيا والآخرة. يقول الله تعالى في سورة إبراهيم: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (إبراهيم: 42). هذا يشير إلى أن الله يرى كل ما يفعله الظالمون، وسيحاسبهم على أفعالهم في يوم القيامة.
–الآخرة في القرآن الكريم. الإيمان بالآخرة هو ركن من أركان الإيمان في الإسلام، والقرآن الكريم يوضح بشكل متكرّر أن الحياة الدنيوية هي مجرد مرحلة اختبار وأن الحياة الحقيقية هي الحياة في الآخرة.
–يوم القيامة. القرآن الكريم يصف يوم القيامة بأنه يوم عظيم يتم فيه بعث جميع البشر من قبورهم ليحاسبوا على أعمالهم. في سورة الزلزلة، يقول الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه” (الزلزلة: 7-8). هذه الآية تؤكد أن حتى أصغر الأعمال ستؤخذ في الاعتبار في يوم الحساب.
–الجنّة والنار. القرآن يوضح مصير الإنسان بعد الحساب، حيث يُقسّم الناس إلى فريقين: المؤمنون الصالحون الذين سيدخلون الجنة، والكافرون الظالمون الذين سيدخلون النار. في سورة النساء، يقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (النساء: 57-58).
–العدل الإلهي. في الآخرة، سيُحقق الله العدل الكامل، حيث سيُجازى كل إنسان على أعماله. يقول الله تعالى في سورة الأنبياء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا‘ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (الأنبياء: 47). هذه الآية تؤكد أن الله سيحاسب الجميع بالعدل الدقيق، ولن يُظلم أحد.
–التذكير بالآخرة. القرآن يذكّر الناس مرارًا وتكرارًا بالآخرة كوسيلة للتوجيه والتذكير بأهمية العمل الصالح. في سورة البقرة، يقول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُون (البقرة: 48). هذه الآية تحذّر من يوم القيامة وتدعو الناس للاستعداد له من خلال التقوى والعمل الصالح.
ان القرآن الكريم يضع الظلم في مقابل العدل الإلهي، ويؤكد أن الله لا يظلم أحدًا، بل يُحاسب كل إنسان على أفعاله بالعدل الكامل. الإيمان بالآخرة هو جزء أساسي من العقيدة الإسلامية، وهو ما يدفع المسلم للعمل بالخير والعدل في حياته الدنيا استعدادًا ليوم الحساب. الآخرة تُعتبر مرحلة تحقيق العدالة المطلقة، حيث سيُجازى المؤمنون بالجنة، وسيعاقب الظالمون والكافرون بالنار، وفقًا لما قدموه من أعمال في الدنيا.
في الختام، ففي كل من الكتاب المقدس (الإنجيل) والقرآن الكريم، هناك رؤية واضحة لنهاية الأبرار والأشرار، وهي تمثّل جزءًا أساسيًا من الإيمان بالعالم الآخر. وفي كلا النصين، يتم تأكيد العدالة الإلهية، حيث يكافأ الأبرار ويعاقب الأشرار بناءً على أعمالهم في الحياة الدنيا.
4-نهاية الأبرار والأشرار في الكتاب المقدس (الإنجيل). في الكتاب المقدس، الأبرار هم الذين عاشوا حياة تتسم بالإيمان بالله وبالسلوك الحسن وفقًا لوصايا الله. نهاية الأبرار تتجلّى في:
-الحياة الأبدية. في العهد الجديد، يوضح الرب يسوع أن الأبرار سيحظون بالحياة الأبدية في ملكوت الله. في إنجيل متى (34:25)، يقول الرب يسوع: تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم.
-القيامة والحياة مع الرب يسوع. الأبرار سيقومون في يوم القيامة وسيعيشون مع الرب يسوع في ملكوت الله. في رسالته إلى أهل تسالونيكي الأولى (16:4-17)، يقول القدّيس بولس: لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلاً الَّذينَ ماتوا في المسيح، ثُمَّ إِنَّنا نَحنُ الأَحياءَ الباقين سنُخطَفُ معَهم في الغَمام، لِمُلاقاةِ المسيحِ في الجَوّ، فنَكونُ هكذا مع الرَّبِّ دائِمًا أَبَدًا. أما الأشرار في الكتاب المقدس فهم الذين رفضوا الله وعاشوا حياة مليئة بالخطيئة. نهايتهم تتسم بالعقاب الأبدي: الهلاك، في إنجيل متى (41:25)، يتحدّث الرب يسوع عن دينونة الأشرار، قائلاً: إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه. والعقاب في بحيرة النار، في رؤيا يوحنا (15:20)، يتمّ تصوير النهاية للأشرار كالتالي: ومَن لم يوجَدْ مَكْتوبًا في سِفرِ الحَياة أُلقِيَ في مُستَنقع النَّار.

فالأبرار هم الذين أطاعوا الله واتبعوا أوامره وعاشوا حياة من الإيمان والعمل الصالح. نهايتهم تتسّم بالنعيم الأبدي:
–الجنة. الأبرار سيُكافَؤون بالجنة، وهي دار النعيم الأبدي، حيث يجدون كل ما تشتهي الأنفس. في سورة البقرة (2:25): وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
–النعيم المقيم. الأبرار في الجنة لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. في سورة الكهف (18:107): إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا.
أما الأشرار في القرآن فهم الذين كفروا بالله وعصوا أوامره. نهايتهم تتسّم بالعذاب الأبدي: سيعاقبون في الآخرة بالنار، وهي دار العذاب الأبدي. في سورة النساء (4:56): إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ. والخزي في الآخرة، ففي سورة الزمر (39:16): لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ.
نخلص الى القول: أن في كل من الكتاب المقدس والقرآن الكريم، ينقسم مصير البشر في الآخرة إلى جزاء وعقاب مبنّي على سلوكهم في الحياة الدنيوية. الأبرار سيتمتعون بالنعيم الأبدي في الفردوس (في المسيحية) وفي الجنة (في الإسلام)، بينما سيواجه الأشرار العذاب الأبدي في النار. هذه النهايات تمثّل عدالة الله ورحمته وكذلك عقابه، وتحث المؤمنين على الالتزام بالقيم الدينية والسعي للخير في حياتهم.
من هذا المنطلق، الله تعالى هو الحاكم العادل الذي سيحاسب الجميع على أعمالهم يوم القيامة. ففي نهاية المطاف، العدالة الإلهية لا تميّز بين شخص وآخر بناءً على موقعه أو سلطته، بل تعتمد على الحقائق والأعمال. هذا الإدراك يجب أن يدفعنا جميعًا للسعي نحو العدل والخير في حياتنا اليومية، والمساهمة في بناء مجتمع أفضل وأعدل، حيث يُحاسب الجميع وفقًا لأعمالهم. هذه النظرة تشجّع على عدم اليأس من تحقيق التغيير في الدنيا، لأن العدالة ليست مقتصرة على الآخرة فقط، بل يجب أن نسعى لتحقيقها هنا والآن، عبر محاربة الرعاع والفاسدين والمفسدين والظلم واللاعدالة، والعمل نحو مستقبل أفضل للبنان.
.