الإختراع مقياس حقيقي لقدرة الدولة
د. الياس ميشال الشويري
في عصر المعرفة والابتكار، أصبحت براءات الاختراع مؤشرًا بالغ الأهمية لقياس مستوى التقدم التكنولوجي والتنافسية الاقتصادية لأي دولة. إذ لا تقتصر أهمية براءات الاختراع على كونها وسيلة لحماية حقوق الملكية الفكرية، بل تُعتبر مقياسًا حقيقيًا لقدرة الأمة على الابتكار وحلّ المشكلات بطرق جديدة ومبدعة. الدول التي تتمتع بمعدلات عالية لتسجيل براءات الاختراع غالبًا ما تكون في مقدمة الدول التي تقود الاقتصاد العالمي، نظراً لما تتيحه هذه البراءات من تقدّم تقني واستثمارات مستقبلية، فضلاً عن أنها تعكس البيئة المشجعة للبحث والتطوير والابتكار.
1-الفجوة في براءات الاختراع بين إسرائيل ولبنان:
دلالة على التفاوت في التقدّم!
عند مقارنة إسرائيل ولبنان في مجال براءات الاختراع، تظهر فجوة كبيرة بين البلدين. إسرائيل تحتل موقعًا متقدمًا عالميًا في عدد براءات الاختراع المسجّلة، ممّا يعكس تطورًا ملحوظًا في المجالات التكنولوجية والعلمية. في المقابل، يعاني لبنان من قلة براءات الاختراع المسجلة، وهو ما يعكس ضعفًا في البنية التحتية للبحث والتطوير، وتحديات اقتصادية وسياسية تقف عائقًا أمام تعزيز قدرات الابتكار. هذا التباين يشير إلى اختلافات جوهرية بين البلدين في كيفية تعاملهما مع مجالات حيوية مثل البحث العلمي والتعليم والسياسات الحكومية، ممّا يؤثّر بشكل مباشر على قدرتهما على المنافسة في الاقتصاد العالمي.
بحسب البيانات المتاحة حتى عام 2020، سجّلت إسرائيل أكثر من 20 ألف براءة اختراع منذ نشأتها، ممّا يجعلها واحدة من الدول الرائدة عالميًا في مجال الابتكار. إسرائيل تُعرف بأنها “أمة الشركات الناشئة” نظرًا لتفوّقها في التكنولوجيا المتقدمة مثل الأمن السيبراني، والزراعة الدقيقة، والتكنولوجيا الطبية، حيث تُسجّل براءات اختراع جديدة باستمرار في هذه المجالات. لبنان، في المقابل، سجّل حوالي 150 براءة اختراع فقط خلال نفس الفترة. بالرغم من أن لبنان يمتلك تاريخًا غنيًا في التعليم والعلوم، إلا أن الظروف الاقتصادية والسياسية المعقدة أثرت سلبًا في قدرته على المنافسة في هذا المجال الحيوي.
2-الاستثمار في البحث والتطوير:
مفتاح الابتكار…
أحد الأسباب الرئيسية وراء التفوّق الإسرائيلي في تسجيل براءات الاختراع هو الاستثمار الكبير في البحث والتطوير (Research and Development). إسرائيل تخصّص نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وهو ما يضعها في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال. هذه الاستثمارات تنعكس بشكل مباشر على عدد براءات الاختراع المسجلة، حيث يقوم العلماء والمبتكرون بإيجاد حلول جديدة وتطوير تقنيات متقدمة تحظى بحماية قانونية عبر براءات الاختراع. في المقابل، يواجه لبنان تحديات كبيرة في هذا الجانب. فبالرغم من وجود العقول المبدعة والكفاءات، إلا أن نقص التمويل والدعم الحكومي للبحث العلمي يحّد من القدرة على تحويل الأفكار الابتكارية إلى اختراعات ملموسة. ضعف الاستثمار في البحث والتطوير يُعتبر من أهم العوائق التي تمنع لبنان من المنافسة على الصعيد الدولي في مجال الابتكار.
تجدر الإشارة الى أن إسرائيل تُخصّص حوالي 4،5% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، وهو من أعلى النسب في العالم. هذا الاستثمار الكبير يُترجم إلى إنتاج مستمر للمعرفة والابتكارات الجديدة. بفضل هذه الاستثمارات، تمتلك إسرائيل بنية تحتية متقدمة للبحث العلمي، تتضمّن مؤسسات بحثية رائدة مثل معهد التكنيون (Technion – Israel Institute of Technology)، ومعهد وايزمان للعلوم (Weizmann Institute of Science)، اللذين يلعبان دورًا محوريًا في تعزيز قدرات الدولة على الابتكار. في المقابل، يُخصّص لبنان نسبة ضئيلة جدًا من ناتجه المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، حيث لا تتجاوز هذه النسبة 0،2%. هذا الانخفاض الحاد في الإنفاق يعكس ضعف الموارد المتاحة لدعم الابتكار والتكنولوجيا. نتيجة لذلك، تعاني المؤسسات البحثية والجامعات في لبنان من نقص في التمويل والتجهيزات اللازمة لإجراء أبحاث عالية الجودة، ممّا يحّد من القدرة على إنتاج وتسجيل براءات اختراع جديدة.
3-جودة التعليم ودوره في تعزيز الابتكار.
التعليم يلعب دورًا أساسيًا في تعزيز الابتكار، وهو أحد العوامل التي تفسّر الفجوة بين إسرائيل ولبنان في مجال براءات الاختراع. النظام التعليمي في إسرائيل يُركّز بشكل كبير على العلوم (Science) والتكنولوجيا (Technology) والهندسة (Engineering) والرياضيات (Mathematics) أو ما يعرف ب STEM، ويُشجّع على البحث والابتكار منذ مراحل التعليم المبكرة. الجامعات الإسرائيلية، من جهتها، تعتبر من المؤسسات الرائدة عالميًا في الأبحاث العلمية، ما يوفّر بيئة ملائمة لتوليد أفكار جديدة تُترجم إلى براءات اختراع.
أما في لبنان، فإن النظام التعليمي يواجه تحديات كبيرة، من بينها نقص التمويل والبنية التحتية، بالإضافة إلى هجرة الكفاءات الأكاديمية إلى الخارج بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية. هذا النقص في الاستثمار في التعليم، خصوصًا في المجالات العلمية والتكنولوجية، يؤدي إلى ضعف القدرة على الابتكار وتسجيل براءات اختراع، ممّا يعمّق الفجوة بين لبنان والدول الأخرى التي تركز على تطوير التعليم كوسيلة للتقدم التكنولوجي.
4-السياسات الحكومية: دعم الابتكار أم إعاقته؟
تلعب السياسات الحكومية دورًا محوريًا في تشجيع أو تقييد الابتكار. في إسرائيل، هناك استراتيجية وطنية واضحة لدعم الابتكار تشمل تقديم حوافز مالية للشركات الناشئة، وتوفير بيئة قانونية وتنظيمية تضمن حماية الملكية الفكرية، بالإضافة إلى تشجيع التعاون بين الأوساط الأكاديمية والصناعية. هذه السياسات تؤدي إلى خلق بيئة مواتية للابتكار، ممّا ينعكس إيجابًا على عدد براءات الاختراع المسجلة.
في المقابل، يعاني لبنان من غياب سياسات حكومية فعّالة في هذا المجال. الوضع السياسي غير المستقر، والبيروقراطية، وغياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة للابتكار، كلها عوامل تؤدي إلى تقليص فرص تطوير بيئة محفزة للبحث والتطوير. وبدون دعم حكومي واضح وفعال، يصبح من الصعب على لبنان تسجيل عدد كبير من براءات الاختراع، ممّا يحد من قدرته على المنافسة الاقتصادية على الصعيد العالمي.
5-التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للفجوة في براءات الاختراع..
الفجوة الكبيرة في عدد براءات الاختراع المسجلة بين إسرائيل ولبنان لها تأثيرات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لكلا البلدين. في إسرائيل، يُترجم الابتكار إلى نمو اقتصادي قوي، يساهم في خلق فرص عمل جديدة ويعزز مكانة البلاد كدولة رائدة في التكنولوجيا والابتكار. هذا النمو المستدام يساهم في تحسين مستوى الحياة للمواطنين ويدعم استقرار البلاد على المدى الطويل. أما في لبنان، فإن نقص الابتكار وبراءات الاختراع يساهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ضعف القدرة على الابتكار يحرم البلاد من فرص اقتصادية كبيرة، ممّا يزيد من الاعتماد على الخارج ويُعمّق الأزمات الداخلية مثل البطالة وهجرة الكفاءات. هذه الديناميكية تُعيق التنمية المستدامة وتضعف من قدرة البلاد على تحسين ظروف الحياة لمواطنيها.
تجدر الإشارة الى أن إسرائيل تعرف ببيئتها الاقتصادية الديناميكية والداعمة لقطاع التكنولوجيا. بفضل الدعم القوي من رأس المال المجازف (Venture Capital) والاستثمارات الدولية، أصبحت إسرائيل مركزًا عالميًا للشركات الناشئة في مجالات مثل التكنولوجيا العالية (Hi-tech) والذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence). البيئة الاقتصادية الإسرائيلية تُسهّل على المبتكرين تحويل أفكارهم إلى منتجات ملموسة وتسجيل براءات اختراع عليها، ممّا يُسهم في تعزيز موقع إسرائيل كقوة اقتصادية قائمة على المعرفة. بالمقابل، يواجه لبنان تحديات اقتصادية كبيرة، تتضمّن تراجعًا اقتصاديًا، وعدم استقرار سياسي، وتضخّم مالي حاد، ممّا يعيق نمو قطاع التكنولوجيا والابتكار. غياب الاستثمارات الكافية وعدم توفر التمويل اللازم للشركات الناشئة يجعل من الصعب على رواد الأعمال اللبنانيين تحويل أفكارهم إلى مشروعات ناجحة. هذا الوضع يحّد من قدرة لبنان على المنافسة في مجال تسجيل براءات الاختراع، ويضعف موقعه في الاقتصاد المعرفي العالمي.
الخاتمة
المقارنة بين إسرائيل ولبنان في مجال براءات الاختراع تُبرز أهمية الاستثمار في البحث والتطوير، جودة التعليم، والسياسات الحكومية الداعمة للابتكار كعوامل حاسمة لتحقيق التقدّم التكنولوجي والاقتصادي. بينما تستفيد إسرائيل من هذه العوامل بشكل واضح، يعاني لبنان من تحديات كبيرة تحول دون تحقيقه لمستوى مماثل من الابتكار. إذا أراد لبنان تقليص الفجوة مع الدول الرائدة في هذا المجال، فإنه بحاجة بادىء ذي بدء إلى التخلّص بشتّى الوسائل من المنظومة الفاسدة التي دمرّت لبنان منذ تسعينات القرن الماضي، إعادة التفكير في استراتيجياته الوطنية المتعلقة بالابتكار، وتطوير سياسات جديدة تعزّز البحث والتطوير، تحسين جودة التعليم، وتوفير بيئة مواتية لتسجيل براءات الاختراع. فقط من خلال هذه الخطوات يمكن للبنان أن يبدأ في السير على طريق التقدّم والابتكار.
في الختام، وكما قال جورج برنارد شو: “التقدّم مستحيل بدون تغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقولهم لا يستطيعون تغيير أي شيء“. هذا الاقتباس يعكس بشكل كبير حالتي إسرائيل ولبنان. ففي حين تمكنت إسرائيل من تحويل التحديات إلى فرص وبناء اقتصاد معرفي قوي يركّز على التكنولوجيا والابتكار، نجد أن لبنان يعاني من منظومة جد فاسدة حصرت اهتمامها بالفساد ونهب الدولة والناس، وبمصالحها الضيقة على حساب الوطن، ممّا أدّى إلى تعطيل أي مسيرة محتملة للتقدّم والتغيير! الفرق بين الحالتين، أي بين إسرائيل ولبنان، يوضح بجلاء أهمية القدرة على التغيير والتكيّف لتحقيق التقدّم. بالتأكيد، هذا الأمر يحتاج إلى رجالات دولة نيتها التغيير نحو الأفضل، كما شهدنا في عهدي الرئيسين كميل نمر شمعون وفؤاد شهاب. الظاهر أن المنظومة الفاسدة في لبنان لا يهّمها سوى أن تبقى في القعر، راهنة مستقبلها على ما يُلقى عليها من نفايات مراحيض الخارج. إن هذا الواقع المؤلم يعكس مدى استهتار هذه الطبقة الحقيرة بمصير لبنان وأبنائه.