مع الأستاذ تكريتي في مكتب الموسوعة العربية ٢٠٠٦
د. غالب خلايلي
للرسائل في ضمائر أجيال الألفية الماضية حنينٌ لا ينقطع، إذ إنّ لها جماليّتَها وجاذبيّتَها وتقاليدَها وروحانيتَها، مما لا يفهمُه الجيل الرقميّ الجديد المنقطع عن كلّ ماضٍ جميل. وفي هذا المقال، سوف نستعرض مختارات من رسائل الأساتذة الكبار الذين عرفتهم، لأن عرضها كلّها يحتاج إلى مجلّد كبير.
شتّان بين عصرين!
وأنا أتابع الرسائل والمدوّنات في وسائل التواصل الاجتماعي، أكتشفُ كم هي فجّةٌ أحياناً، وكم فيها من السطحيّة والابتذال (والدسّ الرخيص أحياناً) والأهم: الجهل بلغتنا العربية الجميلة، إلا عند قلة قليلة من الأجيال التي عاشت الماضي وعرفت رائحة الحبر والورق، ورائحة العرق، إن لم تعطّر رسائلها عن قصد، كي تصل بحميميّتها إلى المُرسَلة لهم، ربما مع وردةٍ مجفّفةٍ أو ريشةِ نعام جميلة أو حتى طبعةٍ من حمرةِ شفاه زوجةٍ سافر زوجها من أجل إتمام الدراسة أو لتحصيل الرزق (1).
نعم، كان للرسائل ألقُها وزخمُها وأصولُها ورونقُها، بدءاً من اختيار القلم الذي قد يرافقنا كلّ عمرنا، ثم اختيار الورق المحبّب إلى قلوبنا، زهرياً كان أم فستقياً… (ربما مع زخارف ناعمة في خلفيتها أو جوانبها)، لنكتب بعدئذ بأناقةٍ وحرص وبأجمل خطّ عندنا.. نختار الكلمات، وقد نعيد ما كتبنا مرات، حتى تحصلَ رسالتنا على رضانا التام، فنطويها بعدئذ برفق، ونضعها في مغلف، ونذهب إلى مبنى البريد لوضع الطابع، في أي طقس، إن كان حاراً اتقينا شرّ الشمس، وإن كان ماطراً خبأنا الرسالة في حنايا معطفنا، وقد نختار البريد المضمون (وهو الأغلى) تأكيداً على أهمية وصول الرسالة إلى صاحبها.
وكنا أيضاً ننتظر ورود الرسائل بفارغ الصبر، يحملها إلينا ساعي البريد على دراجته، يناولنا إياها بلا اكتراث، ولا يُلام، فهذا هو (روتين) عمله اليومي، أو بمحبة وقد عرف شوقنا، فيما لدينا شكّ من باب الوسواس الخنّاس بأنه فتحها وقرأ ما بها، لكن ماذا يفتح المسكين وماذا يقرأ؟ وعندما شاعت مسألةُ استئجار صندوق البريد، كم مررْنا به متفقّدين مراتٍ، لعلّ رسالةً تصلُ من قريب أو حبيب أو جهة عمل تبشّرنا بخبر جميل، وكان هذا الخيار صعباً أحياناً، لا سيما في القرى والضواحي وفي مراحل الحياة الانتقالية، فنستخدم صندوق بريد الأصحاب أو الوظيفة أو نضع حتى دكّان الحارة عنواناً، وتبقى أعينُنا على وارد الرسائل لعلّها تحمل ما تتوق إليه النفس قبل أن تعبثَ بها يدٌ أو تكشفَ سرّها عينٌ مريضة بداء الفضول.
الحلو اختفى.. ولكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا.
كل هذا التراث الغني اختفى، بخيره وشرّه، وحتى الفضولُ نفسُه قُتِل، قتله “كتّاب” العصر الرقمي الذين لم يرَوا ما رأينا حتى يتأصّل بهم، فاعتادوا دهرهم، ومسخوا – مع جيش الماسخين – اللغة وبيانها ومنطقَها، واستعاضوا عنها برموز أعجمية عجيبة وأخرى قريبة (من قلوب ووجوه وأزاهير..)، قتلوه إذ لم يتركوا سرّاً مغطّىً دون أن يبوحوا به للغادي والآتي، حتى مع الصور الحميمة من غرف النوم.. لن أستفيض هنا فيما صار معروفاً ومرذولاً، إنما سأخصّص باقي حديثي لمختارات من رسائل كبار عرفتُهم (فتثبيتها كلّها يحتاج إلى كتاب كبير)، وفيها سوف نكتشف أن الرسائل هي قطعٌ من ذوات مرسليها ومرايا لنفوسهم الكبيرة، بما فيها من أناقة التعبير وصدق العاطفة وجمال الأسلوب والهدف النبيل، والأجمل أنها بخط اليد إلا ما ندر في العصر الرقمي الذي استدركه بعض الكبار بسرعة قياسية.
ننوه هنا، قبل بدء العرض، إلى أن الناس لا يتساوون في مقدرتهم الكتابية (التي تميز قلّةً من البشر)، ولا في ردود أفعالهم، ولو كانوا من المدرسة ذاتها، أو السنّ نفسه، فهناك من لا يجيب على رسالة، وإذا أجاب فربّما بوردة صغيرة أو ما يشبهها.
أولاً- رسائل الأستاذ الدكتور عدنان تكريتي.
تعرّفت إلى الأستاذ الدكتور عدنان تكريتي (1925-2011)، عندما درّسَنا (علم الجراثيم) في كلية الطب البشري بدمشق عام 1981. غير أنني لم ألتقِ به شخصياً قبل أن ينشر لي عدة مقالات في المجلة الطبية العربية (التي كان يرأس تحريرها منذ إنشائها 1960) بدءاً من عام 1986. ولما قرّرت السفر منتصف عام 1988، ذهبتُ إلى عيادته في ساحة الجسر الأبيض الشهيرة بدمشق. كانت تلك العيادة أشبه بصومعة يعتكف الأستاذ فيها، يقرأ ويترجم ويكتب (ويدخّن) بشغفٍ كبير. ولما عرّفتُه إلى نفسي، احتفى بي كثيراً، ونشأت علاقة ودّية جداً، بقيت أيام رئاسته للقسم الطبي من الموسوعة العربية، واستمرّت حتى وفاته، رحمه الله. ومن رسائله:
- الرسالة الأولى (دمشق في 13/6/1989)، كانت بُعيد سفري للعمل، وأنا في سن التاسعة والعشرين، أي كنت شاباً صغيراً بعُرف الأستاذ، وحتى بنظرتي إلى نفسي، فلنلاحظ الأدب الرفيع والأسلوب البديع والهدف النبيل الذي كان الأستاذ يسعى إليه.
عزيزي الدكتور غالب حفظه الله: أطيب التحية والمودة وبعد: وصلتني رسالتك مع كلمة المشاركة (فيما يجب أن يقال للمريض المصاب بالسرطان)، وقد أرسلتها بسرعة إلى المطبعة لتُلحِقَها بباب (بريد الأطباء)، ولاسيما أنها كانت مشرفةً على الانتهاء من طبع العدد (2). سررتُ جداً لحصولك على عمل ترضاه وتقنع به، وكلي أمل أن تكون إقامتك في مدينة العين هنيئة مريحة، وفقك الله وكتب لك العافية. إني أتابع لمحاتِك الطبية الاجتماعية الموفقة في مجلة (طبيبك)، ولا شك أن المثابرة على كتابتها سيغني هذا الباب في أدبنا الحديث، لأن الذين يطرقونه بلغتنا العربية قلة، ولا يستطيع الخوض في غماره إلا من ملك العلوم الطبية والموهبة الأدبية والملاحظة الحادة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ألفت انتباهك لموضوع هام تلهج به الألسنة الآن، وأعني به تعريب العلوم والعلوم الطبية خاصة. والموضوع كما تعلم يشغلني وأبحث فيه منذ أكثر من ربع قرن، وما أقرؤه أحياناً أو أسمعه يرسم ابتسامةً على شفتي، لأن العديد من الذين يركبون هذا المركب يرمون الكلام على عواهنه، سواء أكانت آراؤهم سلبية أم إيجابية. وقد يكون الرأي السلبي الناجم عن علم وخبرة خيراً من الرأي الإيجابي الصادر عن ارتكاس انفعالي أو اندفاع عاطفي. وإذا ذكرت لك هذا الموضع، فلأن جل القوم عندك بعيدون عنه وهو غريب عنهم. وتستطيع أنت أن تعالج طرفاً منه بهدوء وأناة في بعض صحفهم أو مجلاتهم. هذا وإن دعاك الأمر لشيء من المعونة العلمية، فلك مني العون بقدر استطاعتي. وأخيرا أرجو لزوجتك الكريمة ولك إقامة سعيدة، ولكما مني خالص التمنيات.
- الرسالة الثانية (دمشق في 18/4/1991):
عزيزي الدكتور غالب حفظه الله: وصلتني رسالتك اللطيفة، وقد جاءت على شيء من التأخير، وفيها الخبر السعيد بولادة “لؤي” حفظه الله ورعاه مع أخته الحلوة “ريم”، وأدامك الله مع أمّهما السيدة المحترمة وأنتما على أحسن حال وأوفر صحة، وجعلهما من أبناء السعادة والهناء.
سررت جداً على اطلاعك على الحديث عن التعريب الذي نشر في مجلة “الفيصل”، وعلى المقالة التي نشرت في “مجلة عالم الطب والصيدلة” والتي تتعلق بالحمى المالطية، ولا تنسَ أنك أسهمت في هذه الأخيرة إذ بعثت إلي ببعض المعلومات، كما أرشدتَني إلى المقالة المكتوبة والمنشورة عن “دبي” والتي تتعلق ببعض الحالات التي شوهدت فيها، وهنا لا بد لي من تكرار الشكر. سيصدر عن دار مكتبة التقني في دمشق بعد نحو ستة أشهر كتاب “سيسل” في الأمراض الباطنة مترجماً إلى العربية. وقد أسهمت بترجمة الفصل المتعلق بالأمراض الخمجية، وقام بترجمة الفصول الأخرى أساتذة من جامعتَيْ دمشق وحلب. كلي أمل أن تستمر “المجلة الطبية العربية” بالوصول إليك. والواقع أن عدداً كبيراً من الأطباء الشباب استجابوا للدعوة إلى الكتابة والنشر.
وفي عهد الشابكة (الإنترنت) تبادلت والأستاذ الفاضل عدداً كبيراً من الرسائل لم تقلّ جمالا عما ذكرت، شاركتْ في معظمها حرمه السيدة الفاضلة نبيلة هاشم ذات اللغة الفريدة التي جعلتها مرجعاً في هذا المجال.
ثانياً- رسالة الأديب الأستاذ الدكتور مأمون شقفة:
تعرّفت إلى الأستاذ في طب النساء والولادة الدكتور مأمون الشقفة (1936-2012) رحمه الله من خلال كتاباته ثم محاضراته المتميّزة إلى طلاب كلية الطب في العين عام 1995 وما يليه (وكان يقيم في دبي) فكان أن أهديته بعض كتبي، وأهداني كتابه الثمين (القرار المكين)، وما لبث أن أرسل لي الرسالة التالية يوم 2 حزيران 1998، وكنتُ على أهبة افتتاح عيادتي:
- أخي الدكتور غالب خلايلي المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أشكرك أولا على الكتب القصصية الجميلة التي بعثتها لي التي أحتفظ بها على طاولة مكتبي أقرأ منها قصة كلما سنحت لي الفرصة ولا اسمح لأحد بالدخول علي حتى أنتهي من القصة، والمراجعون يعتقدون أنني في عمل رسمي، والحقيقة انني في عمل رسمي لأن لحظات الترويح عن النفس جزءلا يتجزأ من العمل، واحب أن أؤكد لك أنك قاص بارع وأديب رقيق الإحساس، أدعو لك بمزيد من النجاح، كما أدعو لك بالنجاح في العمل الخاص الذي تعتزم بدأه في مدينة العين، وهو على كل حال خير من الوظيفة. أما المقال الذي ستنشره عني فأجمل ما فيه أسلوبه لا موضوعه وأنا لا أمانع ابداً في نشره ولو أنك أطريتني إطراء لا استحقه، ولك الشكر على حسن ظنك بي. وفقك الله، وإلى اللقاء على الود والمحبة إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (2).
أ.د. مأمون شقفة، العميد السريري، كلية دبي الطبية.
ثالثاً- رسائل الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي:
تعرّفت إلى الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي (1918- 2006) باكراً في بيته بالرقة، قبيل دخولي كلية الطب (1978). أرسلتُ إليه كتبي في وقتٍ لاحق، وأرسل إليّ كتبه الجديدة، وكان (وهو الغني عن التعريف) ذا ميزة فريدة عزّ نظيرُها، وهي أنه قارئ ذكيّ نهم، وفي قمّة الذوق، فلا يمرّ أسبوع حتى تفاجأ برسالة منه يرد عليك فيها، وينقد كتابتك بمحبة، ما لم يكن على سفر، فإذا ما عاد إلى بلد الرشيد (الرقة، أعادها الله إلى سابق عهدها)، ردّ عليك فورا، وهذه الميزة شبه غائبة في عالم المراسلات، فلا تعرف أن من راسلته حيّ أم ميْت.
هذا وقد اخترت رسالتين من رسائل المغفور له عبد السلام العجيلي:
- الأولى بتاريخ (31/7/1997) كتب: ” أشكرك على هديتك، كتابيك عقد اللؤلؤ والرحيل. تمتعت بقراءة قصصك وأعجبتني سخريتك الضاحكة وانتقاداتك الصائبة لما تراه فيما حولك، ولا سيما في الجو الطبي الذي خبرته أنت خير الخبرة. ولا بأس في أن أقول لك: إن قصص مجموعتك الأولى عقد اللؤلؤ حازت إعجابي أكثر من الثانية. ربما أن السبب أنك أغرقت في قصص الرحيل، وبالغت في كاريكاتورياتك لشخصيات بعض القصص. يجب أن أقول هذا. في المجموعة الأولى رأيت في قصصك شيئا من روح مارك توين في بساطته وعفويته دون المبالغة والإغراق. التقيت بوالدك الكريم منذ أيام في دمشق.. وهذه فرصة لأحييه عن طريقك وأهنئه بك. سأرسل إليك في الأيام القادمة القريبة إن شاء الله آخر كتبي (أحاديث الطبيب). ليس الكتاب جديدا عليك، فهو المجموعة الثالثة من الفصول التي كتبتها في طبيبك، ولا بد أنك قرأتها كلها قبل الآن، ما دمت قد أصبحت كاتبا مواظبا فيها. أما أنا فقد استأذنت الدكتور سامي القباني على أن يريحني من الكتابة في المجلة بعد الآن، ولا سيما بعد أن توفر لها كتاب عديدون من أمثالك يرضون جمهور القراء“.
- الثانية يوم (21/8/1999) كتب: ” أطيب التحيات، وكل الشكر على “خنفشارياتك” التي أسرعت في قراءتها، وساقت إلى شفتيّ الابتسام لطرافة مواضيعها وسخريتها اللاذعة. أراك أصبحت كاتبا شبه محترف لتوالي ما تنشره من كتب وما ينشر لك في الدوريات، ولكني مطمئن على التزامك بالطب لأني أقرأ مقالاتك الطبية بين الحين والحين. وفقك الله وحفظك”.
العين في 9 أيلول 2024
***
- كثيراً ما كانت أيدينا تتعرق أثناء كتابة أي نص بقلم الحبر، فيتبلل الورق إن لم نتق ذلك، ولهذا حرصنا على تنشيف الأيدي، وأذكر أن صديقا كان يحتاج علبة محارم حتى يستطيع إكمال كتابة محاضرة.
- كنت نشرت مقالا في جريدة الاتحاد عن مزايا الأستاذ شقفة، مع عرض قصيدة ساخرة له مطلعها: (الكل من طبي يغار/ وأنا أغار من الحمار)، وقد بحثت عن المقال والقصيدة دون جدوى، إذ ضاعتا مثلما ضاعت أشياء عزيزة مع طول الغربة والسفر، وابتلاء الأوطان بتتار العصر.