مرفأ بيروت بعد الإنفجار
د. الياس ميشال الشويري
لبنان بلد ذو تاريخ سياسي معقّد وفريد من نوعه في الشرق الأوسط، إذ تعتمد منظومته السياسية على نظام المحاصصة الطائفية. منذ استقلاله عن فرنسا عام 1943، تشكّلت حكوماته المتتالية بناءً على توازنات دقيقة بين الطوائف المختلفة، حيث تمّ تقسيم السلطة بين المكونات الطائفية الرئيسية. بينما كان الهدف من هذا النظام تحقيق التعايش السلمي بين الطوائف، إلا أنه على مرّ العقود أصبح مصدراً للتفكّك السياسي والتهميش الاقتصادي. أدّى هذا النظام إلى تعميق الفساد وإضعاف الدولة، ما سلب المواطن اللبناني حقوقه الأساسية في زمن السلم. في أوقات الحروب والصراعات، تجد المنظومة السياسية الحاكمة نفسها مضطرة لاستجداء المساعدات من الدول الخارجية، مما يعكس هشاشة النظام السياسي وفشله في تلبية احتياجات المواطنين.
يهدف هذا المقال إلى استكشاف المنظومة السياسية في لبنان وكيفية تأثيرها السلبي على حياة المواطنين خلال فترات السلم والحرب، مع التركيز على استجداء الدولة للمساعدات الخارجية في الأوقات الحرجة.
- النظام السياسي اللبناني.
-أصول النظام الطائفي. النظام السياسي اللبناني نشأ في سياق تاريخي استثنائي يعتمد على التوازن الطائفي. في العام 1943، تمّ التوصّل إلى “الميثاق الوطني“، وهو اتفاق غير مكتوب بين الزعماء السياسيين، قضى بتوزيع السلطة على الطوائف الدينية. يُنتخب رئيس الجمهورية من الطائفة المسيحية المارونية، ويكون رئيس الوزراء من المسلمين السنة، بينما يُمنح منصب رئيس البرلمان للشيعة. على الرغم من أن الهدف من هذا الترتيب كان تحقيق التوازن بين الطوائف، إلا أنه أدّى على المدى الطويل إلى ترسيخ الفجوات الطائفية وجعل من الدولة أداة لخدمة الزعامات السياسية الطائفية بدلاً من المواطنين.
-المحاصصة الطائفية والفساد. أدّى نظام المحاصصة الطائفية، خاصة منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى ضعف مؤسسات الدولة. مع تقاسم المناصب الحكومية بناءً على الانتماء الطائفي بدلاً من الكفاءة، أصبحت الحكومات غير قادرة على تقديم خدمات عامة فعّالة. تركّزت السلطة في أيدي قلة من السياسيين الذين استفادوا من توزيع المناصب والموارد لتعزيز نفوذهم. الفساد أصبح جزءًا لا يتجزأ من النظام، حيث تُستخدم الأموال العامة لدعم الزبائنية السياسية على حساب التنمية الاقتصادية.
-نتائج النظام الطائفي في زمن السلم. في زمن السلم، أدّى النظام الفاسد الذي استولى على الدولة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى تفكّك مؤسسات الدولة. أصبحت الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، المياه، الصحة، والتعليم غير متوفرة بشكل منتظم وفعّال. وفي الوقت الذي كان من المفترض أن يعمل النظام السياسي على تحسين الأوضاع الاقتصادية وتطوير البنية التحتية، شهد لبنان تراجعًا في معدلات النمو، وارتفاعًا في معدلات البطالة والفقر. البنية التحتية للبلاد باتت في حالة مزرية نتيجة سنوات من الفساد، والنهب، وسوء الإدارة.
- لبنان في زمن الحرب: استجداء المساعدات.
-الحروب والصراعات الداخلية. شهد لبنان عدة حروب وصراعات داخلية منذ استقلاله. أبرزها الحرب الأهلية (1975-1990)، التي دمّرت الاقتصاد وأدّت إلى انهيار الدولة. خلال تلك الفترة، كانت الحكومة اللبنانية شبه معطلة، وتولّت الميليشيات السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد. حتى بعد انتهاء الحرب، استمرت التدخلات الخارجية في الشأن اللبناني بفضل زعماء الحرب، حيث أصبحت البلاد ساحة لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
-أزمة انفجار مرفأ بيروت. في 4 آب 2020، شهد لبنان واحدًا من أكبر الكوارث في تاريخه الحديث، وهو انفجار مرفأ بيروت الذي أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة الآلاف. الانفجار لم يكن مجرّد كارثة طبيعية، بل كان نتيجة للإهمال والفساد المستشري في المؤسسات الحكومية، خاصة في ظلّ المنظومة الفاسدة التي استولت على لبنان منذ التسعينات من القرن الماضي. بعد الانفجار، كانت الحكومة اللبنانية عاجزة عن التعامل مع الأزمة، ممّا دفعها إلى طلب المساعدات الخارجية. الدول الكبرى مثل فرنسا وقطر والمملكة المتحدة سارعت لتقديم مساعدات إنسانية، إلا أن هذه المساعدات لم تعالج جوهر المشكلة التي تعود إلى الفساد وتفكّك الدولة.
-التبعية للمساعدات الخارجية. خلال الأزمات، تلجأ المنظومة السياسية الفاسدة إلى استجداء المساعدات الخارجية لتغطية العجز المالي وتوفير الخدمات الأساسية. في أوقات الحرب، تصبح الدولة اللبنانية معتمدة على الدول المانحة والمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذه المساعدات، رغم أنها ضرورية لإبقاء الدولة قائمة، إلا أنها تعكس فشل النظام السياسي الفاسد في بناء اقتصاد مستدام وقوي.
-استجداء المساعدات من الدول المعادية. في بعض الأحيان، تجد الحكومة اللبنانية، العقيمة بامتياز، نفسها مضطرة لطلب المساعدات حتى من الدول التي تربطها بها علاقات عدائية. على سبيل المثال، بعد انفجار مرفأ بيروت، عرضت إسرائيل تقديم مساعدات طبية وإنسانية للبنان، رغم أن البلدين لا يزالان في حالة حرب رسميًا. هذا يعكس مدى الانهيار الذي وصلت إليه الدولة اللبنانية، في ظلّ منظومة سياسية فاسدة، حيث باتت عاجزة عن توفير احتياجات مواطنيها وتضطّر لطلب المساعدات حتى من أعدائها التاريخيين.
- المواطن اللبناني بين المطرقة والسندان.
-تأثير الحروب على المواطن. في زمن الحرب، يتفاقم وضع المواطن اللبناني الذي يعاني أصلاً في زمن السلم. البنية التحتية تُدمّر، والاقتصاد يتراجع بشكل حاد، والخدمات العامة تصبح شبه منعدمة. الحرب تُفاقم أيضًا النزاعات الطائفية والسياسية، وتزيد من الاستقطاب الاجتماعي، حيث تلعب الميليشيات، ميليشيات المنظومة الفاسدة، والقوى الخارجية دورًا أكبر في إدارة شؤون البلاد.
-التبعية السياسية للخارج. أصبح المواطن اللبناني يشعر بفقدان السيادة الوطنية، حيث تتحكّم الدول الأجنبية بشكل غير مباشر في الشؤون الداخلية عبر المساعدات التي تقدمها، سواء كان ذلك من خلال الدعم المالي أو التدخلات السياسية. هذا يعزّز الشعور بالإحباط واليأس لدى المواطنين الذين يرون بلدهم تحت رحمة قوى خارجية من خلال منظومة سياسية فاسدة وحقيرة.
-الحركات الاحتجاجية ومحاولات التغيير. في ظل هذا الواقع المرير، اندلعت في السنوات الأخيرة حركات احتجاجية كبيرة، مثل احتجاجات 17 تشرين الأول 2019. طالب المحتجون بإصلاح النظام السياسي، إنهاء الفساد، وتحسين الأوضاع المعيشية. إلا أن هذه الحركات لم تنجح حتى الآن في إحداث تغيير جذري بسبب قوة المنظومة السياسية الفاسدة والحثيرة وتغلغل المحاصصة الطائفية والمحسوبيات في المؤسسات.
الخاتمة
إن النظام السياسي في لبنان، خاصة منذ التسعينات من القرن الماضي، سلب المواطن حقوقه الأساسية في زمن السلم عبر الفساد والمحاصصة الطائفية، وفي زمن الحرب تتحوّل الدولة إلى كيان عاجز يستجدي المساعدات من الدول الخارجية. المواطن اللبناني يعيش بين نظام سياسي غير كفء، نتيجة لسفلة هيمنوا عليه ظلماً، وحروب وصراعات لا تنتهي. الحل الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو التخلّص من المنظومة الفاسدة بادىء ذي بدء، ومن ثم بناء دولة مدنية تعتمد على الكفاءة والشفافية، وإصلاح المؤسسات بعيدًا عن الطائفية. من دون هذا التغيير الجذري، سيظّل لبنان عالقًا في دوامة الأزمات المتكررة، وسيبقى المواطن اللبناني الضحية الأولى لهذا النظام المجرم والفاسد والفاشل.