الطيور المهاجرة…الى أين؟
د. غالب خلايلي
أنظر حولي منذ عقود، فلا أكاد أرى إلا مسافراً أو مهاجراً أو لاجئاً. إنه الاغترابُ الذي يبدأ نفسياًّ في الوطن، وينتهي جسديّاً ونفسيّاً خارجَه، هذا مع العلم أنه ليس أمراً مؤلماً دائماً، إذ إن له -رغم قسوته أحياناً- فوائدُ لا يراها أصحابها.
الاغتراب: بدءٌ صعبٌ، وروحٌ مرهفٌ
البدء في أيّ شيء هو الأصعب. وتتمثل صعوبةُ الاغتراب في اتّخاذ القرار (ما لم يكن تهجيراً قسرياً)، ثم في إمكانية الوصول إلى المُغتَرَب، بدءاً من كيفية تأمين المال اللازم لِسِمة الدخول (الفيزا) والسّفر، وانتهاء بتدبير شؤون الحياة أثناء البحث عن عمل، هذا الذي قد يطول ويُدخِل صاحبَه في ألف مذلّةٍ.
والأمور التي ذكرتُها صعبةٌ باضطراد الزمن حتى كادت تلامس جدار المستحيل، خاصة مع شيوع فكرة أن كلّ عربيٍّ إرهابيٌّ حتّى لو لم يثبت العكس. ولنذكر أن للّعبِ باقتصاد البلدان، ومصِّ دمائها بالحروب والفساد، وتقليبِها فوق صفائحَ ساخنةٍ، أدواراً في اضمحلال فرص العمل، ومن ثم ازدياد السعي إلى الهجرة، علماً أن النجاح قد يحالف المرء في “مهجره” أو لا يحالفه، تبعاً لأمور متعدّدة أهمها كفاءة الشخص المهاجر، إذ إن كثيرين يفكّرون بالسّفر وليست عندهم أية كفاءة.
وفكرة الاغتراب من أوّلها صعبةٌ، نفسياً وعملياً. أنا لا أشكّ في أنّ لمن يقرّر السفرَ نفسيةً خاصّةً، يغلب أن تكون شفّافةً حساسة، حتى آثرَتِ الرحيلَ من مكانٍ ألِفَتْه، فترى صاحبَها يحزِمُ – إذ ضاقتْ بِهِ السُبُلُ – حقائبَه، ويمشي وهو لا يلوي على شيء، إلى بلدٍ قد يكون دون بلده جمالاً، وبلاد المرء (سواء أكانت جبالاً جرداء أم فيافيَ قاحلة) تبقى هي الأجمل: هبْ جنّةَ الخلد عدنْ / لا شيء يعدل الوطنْ.
رحلةُ البدء إذن متعثّرةٌ مريرةٌ، وفرصةُ أوّل سفرٍ – بقليلٍ من الزادِ أو بالدَّينِ – فكرةٌ مجنونة. ويلعب تجّار (سِمات الدخول والعمل والبشر) دوراً لا يستهان به في ابتزاز عباد الله المنهكين بوحشيّة، لكنّه حلم الخروج.
أما فرصةُ إيجادِ عملٍ فتكادُ تنعدم مع التزاحم والتنافس الشريف (وغير الشريف)، لكنْ في النهاية فإن اللهَ هو الرزّاقُ، فلو كان الرزق على العباد لجوّع بعضُهم بعضاً، وذاقوا الحنظل. وفي رحلة البحث عن عملٍ انسَ أمرَ النصّابين والكذّابين وأصحاب المآرب، وانسَ أمرَ الخطواتِ الأولى عندما تحظى بأي عمل، إذ يستغلّ بعضهم حاجتك ولهفتك وجهلك بالقوانين، لتقبلَ بأي معاش، وكذا الحال وأنت تجاهد في إيجاد السكن وتأثيثه، حيث تقع لقمةً سائغةً في حلوق تجّارٍ جشعين (ولو استأجرت سريراً في غرفة)، وانسَ مصاعب التأقلم مع أجواء العمل، والحرب الضروس مع العتاولة والبلطجيّة، حتى بين “الزملاء”، وكم من قصص محزنة لأشخاص تفانَوا حتى انقطاع النفس، فإذا بهم يسرّحون قبل يوم من انتهاء مدة التجربة (متلازمة ستّة الأشهر التي ذاع صيتها)، فلا ترعى للعامل حقوق، فيما فخّ العمل ينتظر ملهوفاً آخر في طابور المنتظرين.
العودة إلى المدارس بداية متقدمة..
عندما نتحدّث عن المدارس، فهذا يعني أن خطواتٍ مهمةً قطعَها بعض المغتربين، منها أنهم ثبتوا في أماكنهم، واطمأنّوا لهذا الاستقرارِ القلِق، وأن لدى كل منهم زوجةً وأولاداً (وما هذا سهل المنال)، ولديهم المقدرة المادية على دفع رسوم التعليم العالية.
يبدأ عام أغلب الناس مع عودة الأولاد إلى المدارس والجامعات. تخيلوا إذاً كم مرّ وقتٌ حتى وصل الأولاد (الذين كبروا في المغترب، أو ولدوا فيه) إلى الجامعات. يغلب أن يكون ذلك في بداية أيلول (سبتمبر)، إذ يحطّ المسافرون الرّحال في أماكن ألِفوا غُربتَها، بعد إجازةٍ صيفيةٍ بدأت تميل إلى السخونة في الوطن، بين تموز (اقتطاف الكوز، كوز التين) وآب اللهّاب (موسم جني العنب)، وحيث يزحفُ التصحّرُ المُرعِبُ إلى أماكن كثيرةٍ في وطننا. بعدها ينشغل الناس بالمدارس، وقد كابدوا ما كابدوه في اختيار (ثقافتها)، ولغتها، وقوة مدرّسيها، وتكلفتها، تحضيراً للكتب والأقساط الضخمة، ليأتي التوصيلُ كل صباح إلى المواقع المزدحمة (إذ يعسر المشي في الجو الحار)، فالالتحاق بالعمل، ثم العودة في عزّ الظهر، وما أدراك ما الظهر في الصيف!.. ولنا أن نذكر المعاناة ذاتها في البلدان الباردة، حيث الثلج والصقيع وغلاء المدارس إن أراد الأهل الحفاظ على إرثهم اللغوي وخصوصيتهم الثقافية (بعد شيوع مفاهيم المثليّة والتحوّل الجنسي) التي يمكن أن تنتهك بسهولة في غير مدارس.
العزّابُ جنودُ العمل المجهولون
الرجالُ في الأصل، حتى عقود قريبة، هم الطبقةُ الكادحةُ. منهم العازبُ أصلاً، ومنهم من يعيشُ حياةَ العزوبيّة في الصيف، إذ يرسل عائلتَه إلى (البلد)، ويبقى يعيش وحدته بكل تفاصيلها من جديد، والتي يمكن أن تدمّر العائلة تماماً إذا امتدّ غياب العائل عن عائلته لعام أو أكثر. بعد أن تقلع الطائرةُ بالأحبابِ يجد المرء نفسَه وجهاً لوجهٍ مع الوحدة والسُّقم، ومع غسْل الملابس ونشرِها، فكيّها إن كان ذا بال طويل. ثم يأتي تحضير الطعام والجلي وتنظيف البيت وأشياء كثيرة. آه، لقد عرف الرجل الآن قيمة ربّة البيت، وسوف يعرفُها أكثرَ بعد مرورِ أسبوع. قد تزوغ عينه بعد مدة، وسوف يتعرّفُ إلى مطاعم البلد كلها، لاسيما شعبيّها، وسيكون حبيس العمل الذي لا ينتهي، ورهين عزابٍ آخرين أرسلوا مثله عائلاتهم، وبقُوا في محل تجاري أو مؤسّسة بناء… يقاسون حر الصيف منذ الصباح الباكر، حيث تكشّر الشمس عن أنيابها، فإذا بالماء يغلي في الأنابيب. تخيل إذاً كيف يستحمّ المرء!. لولا نعم الكهرباء والماء والطاقة، لاستحالتْ الحياةُ.
قائمةٌ طويلةٌ من المهمّات الصعبة تنتظر المرء مع الأيام. عمل لا ينتهي (لعل في طوله سلوى عن التفكير)، وأوراقٌ كثيرة عليه أن يجدَ لها متّسعاً من الوقت حتى لا يقع في مطبّ الغرامات والنهايات الحزينة مثل توقّف العمل، ومن ثمّ الدخل، ليتوقّف كل شيء. الأرقُ الكبير إن نجا من المعضلاتِ المادية الصعبة هو المعضلاتُ الوظيفية مثل تجديد الاعتراف المهنيّ. ورغم كل ذلك يدخل المرء في هذا الدُّوام طائعاُ مختاراً فلا يعرف ليلا من نهار، وقد يمشي في صباحه وليله ساهماً مدخناً يعدّ الأيام بانتظار فرج، ربما لا يبكّر في القدوم. إنه يعيش عيشةً مؤقتةً على أمل أن تتحسّن أوضاعه في بلده، لكن الغربة قد تطول عمراً بأكمله.
ولا تنسَ في هذه الرحلة المديدة أن المرء يكبرُ وتهرمُ شرايينُه التي لا يُمنح غيرها، وتصبحُ مطاوعتُها أقل، ليضطربَ في أية شدة، إن لم يرتفع الضغط والسكر، وغير ذلك من مفاجآت الزمان، مثل أن يسمع خبراً سيئاً قادماً من بعيد، أو من قريب (وفاة عزيزٍ أو مرضِه مرضاً خبيثاً، إذ علّتْه الأيام ومقارعة الخطوب)، فيهتزّ من الأعماق. ولا تنس الخطوبَ الخارجية (المأساوية أحياناً) التي تلامس حياة بعضنا في الصميم. وإذا ذكرنا أن الرجال جنود العمل، فلا نغمط حقّ كثيرٍ من النسوة اللاتي بتن كالرجال وربما أكثر.
شطرٌ في الغربة وشطرٌ في الوطن
ويبقى ذلك الفصام أو قل الانشطار الأبدي الذي تعيشه في كل ما تفكّر أو تقوم به: شطرٌ في الوطن الأم، وشطرٌ حيث تعيش. لا شيء في حياتك اليومية وتفكيرك المستقبلي لا يخضع لهذه المعادلة: هذه تنفعُ هُنا، وتلكَ تلزمُ هناك، بدءاً من فناجين القهوة وكؤوس الشاي، وانتهاءً حتى بالأحلام. الأحلامُ المؤجّلةُ هي المشكلة أصلاً، ومن أسَفٍ أن كثيراً من الناس يؤجّلون عيشَهم إلى غدِ الأحلام، يرون الأيام تَنْحَطِمُ أمام أعينهم المترقّبة، فيما يتصرّف غيرهم في يومهم بلا مسؤولية، كأنّه ما من غد، حتى إذا ما اهتزّ المركب أيّ اهتزاز شعروا بقُرب الغرق، وكم هي دروس الغربة بليغة وقاسية!.
إن الغربة (نفسياً) هي اعتيادٌ مُرٌّ على حياة سرابيّة في انتظار غدٍ ربّما لا يأتي. والمشكلة أن الهوّةَ الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والأخلاقيةَ بين المنشأ والمستقر تزداد يوماً بعد يوم، وتتسع مع الزمن الصعب، ليصبح الاغترابُ ثنائيّ الجانب. أما الناس خارج تلك الدائرة فيظنّون أنك جمعتَ مال قارون، ويعاملونك على هذا الأساس. كثيرٌ منهم لا يعنيه سوى نفسِه. مصلحتُهُ فوق كل الأخلاق والقيم والأديان، حتى لو رأيته متحدّثاً بثوب وليّ من أولياء الله!.
أسوأ مواقف الاغتراب:
-العيد: وما العيد في الغربة – ولو توفّر كل ما عزّ ماديّاً في الوطن – سوى الكرْبِ والغمّ بعيداً عن ملاعب الطفولة، وأبٍ عجوز، وأمّ صامدة؟ تخيّل العيد إذاً مع التقتير والحرمان وفقدان الأبوين.
-الزواج: فالأولاد الذين كبروا يريدون أن يُشبِعوا حاجاتِهم، وهذا حقّهم ، بدلاً من السقوط في مستنقع الرذيلة، أو الانجراف في تيّاره الموجود بقوة، أو الغرق في بحر الحرمان، وكم هو الزواج باهتٌ في الغربة، مهما بُذخ فيه وزُيّن.. ذلك أن خيارات الانتقاء أصعبُ وأضعفُ، لنرى أن توليفةَ الاغتراب كلّها وهميّةٌ ووقتيّة، وأن دبكة الفنادق لا تقارن بأصلها في حضن الأرض.
-العزاء: لا شيء يعدل الموت الحقّ ألماً وحسرةً، خاصة عندما يُدفنُ أصحابُ الأرواحِ المعذّبةِ خارج أرضهم، وانس أمر تدبير أسرةٍ مات عائلها، فراحت تتخبّط في بحر الظلمات. ويا للعزاء في الغربة ما “أصقعه”!.
هذه هي الحياة مع الأسف، ولا بد لعَجَلتِها من أن تدور، وعلى المضطرّين ركوب الأهوال أن يدخلوا في مسنّناتها الفارمةِ الطاحنة دون ضجيجٍ أو تذمّر، وأن يستمروا في أداء واجباتهم حتى يأتي الوقتُ الذي يطمئنّون فيه، ويعلم الله وحده كيف ومتى يكون، خاصةً وأنّ منهم منْ قرّرَ – دون ندمٍ – الاغترابَ الأبدي، ما لم ينقطع الحبل في أي وقت من الرحلة.
الغربة محطّةٌ قبل الهجرة
يعدّ كثيرون أيام غربتِهم محطةٌ مؤقتة – مهما طالتْ – سعياً إلى الهجرة. هؤلاء يرون أنهم بعد تعب السنين يبقون (مكانك راوح)، إذ لم ينجزوا شيئاً ذا بال مع تعسّر شروط الحياة. لم يبنُوا بيتاً في الوطن (ولربما هُدم في حرب)، وليسوا قادرين على تدريس أبنائهم في الجامعات، ولا يستطيعون حتى أن يحظَوا بأوقات عائلية هامّة بسبب طول العمل، وصعوبة التنقل في الزحام. الذّهاب إلى مدينة مجاورة قد يأخذ عدّة ساعات، وكذا يأخذ وقت العودة. حبال الود تتقطع بين المغترب ومجتمعه بل حتى أقرب الناس إليه الذين يكبرون بعيدا عنه. المرض والعلاج والتأمين الصحي وحدها قصة (لاسيما مع تقدم العمر ونضوب الموارد). وهكذا ترى الموظف يخرج فجراً ليعود منهكاً في الليل، وغالباً ما يعود الأولاد وحدهم، فيما الأبوان منشغلان.
باختصار: هي عيشة ضنكى، لأناسٍ ربما يحملون شهادات عالية، فما بالك بالصغار؟
والساعون (حتى قبل الحروب) إلى ما وراء البحار (كندا، أميركا، أستراليا، نيوزيلاندة) أو إلى إحدى الدول الأوربية (ألمانيا، السويد…) كثيرون.. والأسباب متعدّدة، لكن أهمّها عند المتعب العيش، وأهمها عند المرتاح الحصول على جواز سفرٍ (محترم)، فلا يعاني الأمرّين في الحلّ والترحال، وتأمين شيخوخة كريمة أو شيء منها، مع العلم أن الوصول إلى تلك الديار ليس سهلاً، لا مادياً ولا معنوياً، إذ يشعر معه المرء باقتلاع جذوره نهائياً، لكن هل يخشى الغريق البلل؟
إخفاء معالم الزمن والطلاق البائن
في كل مرّة يجتمع فيها زملاء اغتربوا زمناً طويلاً، نرى آثار الزمن تحتفر الوجوهَ والقلوب، ونرى نضال رفقاء الدرب وسعيهم الحثيث إلى إخفاء آثار الزمن. صبغة الشعر هي أول الغيث، إذ لا يقتنع المرء (أو هكذا يوهم نفسه) أنه كبر، ولو صار جدّاً في الغربة. لا تسل عن آخر الغيث (بوتكس وغيره) الذي أحمد الله أن ناره التي اتقّدت في مجتمع الذكور (لا الرجال) لم تضطرم بعد. نرى زملاء كانت لهم آمال كبيرة في العودة إلى الوطن والاستقرار، وإذا ببعضهم يطلّقَ الوطنَ طلاقاً بائناً، إذ لم يتغلب على مشاعر الغربة فيه.
الضفّة الأُخرى أحلى.. وما أقسى الزمن!
يقول المثل: “ما في الضفة الأخرى من النهر أجمل”. قالها لي صديقٌ في الوطن الجميل، كان أكبر سناً وتجربةً، ثم توفّاه الله لاحقاً بأزمةٍ قلبية أثناء جدلٍ عقيمٍ سقيم شاع أمره مع بعض أغبياء في عصرنا الموبوء. وأضاف، رحمه الله: “هنا، لا تستطيع حتّى أن تأخذ إجازة، أو تطبعَ كتاباً. بارك الله لكم في غربتكم”.
وهذا هو واقع الحال: كلّ يرى نفسه غارقاً في الواجبات والهموم، وينسى أن يعيش روعة الظلال ومساكب الجمال، أينما عاش، إذ إنه لا يراها أو لا يبحث عنها، إلا في الضفّة الأخرى، مع أنها موجودة في ضفته.
وأنا أقول لكل القراء: لا تخلو وردةٌ من عطر، ولا أرضٌ من جمال، فالجمالُ ينبع من الذات، وأروعُ المتع هي ما كانت في العقل، وما على المرء سوى أن يعرفَ كيف يتنعّم بها.
وأقول: لو عرفتُم المجهولَ، لاخترتُم الواقعَ، فلا شيء في هذه الدنيا بلا ثمن.
وإلى اللقاء في بانوراما أدبية عن العزلة والغربة.
العين في 7 تشرين الأول 2024