رفيق الحريري..ماذا وراء قتله؟
د. الياس ميشال الشويري
تعتبر العلاقة بين لبنان وإسرائيل واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا في السياسة الإقليمية للشرق الأوسط، إذ يمتد تاريخها إلى عقود من التوترات، الحروب، والمواجهات العسكرية التي تركت آثارًا عميقة على كلا البلدين، لكنها كانت أكثر تدميرًا للبنية التحتية والاقتصادية للبنان. هذه العلاقة المتوترة تشكلت ضمن سياق أوسع للصراعات الإقليمية والدولية التي يشهدها الشرق الأوسط، بدءًا من الصراع العربي الإسرائيلي وحتى التدخلات الإقليمية والعالمية المتواصلة. وقد تأثرت بشكل مباشر بالعوامل الجيوسياسية والاقتصادية التي حاولت إسرائيل من خلالها تحقيق مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، في حين كان لبنان عرضة لموجات متعددة من النزاعات التي أثرت على استقراره السياسي والاقتصادي.
مر لبنان بتجارب متكررة من الحروب مع إسرائيل، أبرزها حرب 1982 والاجتياحات المتتالية للأراضي اللبنانية التي أدت إلى تدمير البنية التحتية، وتأجيج الانقسامات السياسية الداخلية، وإضعاف قدراته الدفاعية والاقتصادية. رغم ذلك، كانت هذه العلاقة ليست فقط على المستوى العسكري، بل انعكست أيضًا على السياسة الإقليمية للبنان ودوره في التوازنات الإقليمية. أدى استمرار هذه التوترات إلى إضعاف فرص التنمية والاستقرار في لبنان، الذي وجد نفسه مرارًا وتكرارًا مضطرًا لإعادة الإعمار بعد كل حرب أو نزاع.
في هذا السياق، برز دور رفيق الحريري كواحد من أهم الشخصيات التي سعت لإعادة بناء لبنان بعد حربه الأهلية الطويلة، حيث قدم رؤية تنموية تهدف إلى استعادة مكانة لبنان الاقتصادية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي. لقد استطاع الحريري جذب استثمارات دولية ضخمة للمساهمة في إعادة إعمار البلاد، وخاصة في مشروع “سوليدير” الذي أعاد بناء وسط بيروت المدمر، محاولاً وضع لبنان على خارطة النمو الاقتصادي مجددًا. كما لعب دورًا محوريًا في إعادة تشكيل العلاقات الدولية للبنان، مما ساهم في استقرار البلاد لفترة معينة رغم التوترات المستمرة مع إسرائيل.
إلا أن اغتيال رفيق الحريري في عام 2005 مثل نقطة تحول مأساوية في تاريخ لبنان، ليس فقط بسبب خسارة شخصية قيادية مؤثرة، ولكن أيضًا لأنه أطلق مرحلة جديدة من الفوضى السياسية والانقسامات الداخلية التي تعمقت في السنوات اللاحقة. منذ ذلك الحين، ازداد الوضع السياسي في لبنان تعقيدًا، في ظل غياب قيادة ذات رؤية شاملة وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وبالتالي، تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على تعقيدات العلاقة بين لبنان وإسرائيل، وتأثيرها المستمر على المشهد السياسي والاقتصادي اللبناني. كما تهدف إلى استكشاف دور رفيق الحريري في إعادة بناء لبنان وتوجيهه نحو مرحلة جديدة من الاستقرار، وتحليل التداعيات التي خلفها اغتياله على البلاد. من خلال هذا الاستعراض، سنستطيع فهم كيف أن العلاقة مع إسرائيل والاستراتيجيات الجيوسياسية الإقليمية قد أسهمت في تشكيل الحاضر اللبناني، وما إذا كان لبنان قادرًا على تجاوز هذه التحديات لتحقيق مستقبل مستقر ومزدهر.
- الخلفية التاريخية
تعود جذور الصراع بين لبنان وإسرائيل إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تم تقسيم فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل. في عام 1948، شهد لبنان أول تدفق للاجئين الفلسطينيين، ممّا أدى إلى تغيرات ديموغرافية واجتماعية في البلاد.
-الحرب العربية الإسرائيلية 1948: كان لبنان واحداً من الدول العربية التي شاركت في الحرب ضد إسرائيل بعد إعلان قيامها. أدت هذه الحرب إلى نزوح العديد من الفلسطينيين إلى لبنان، مما زاد من التعقيدات السياسية والاجتماعية في البلاد.
-الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990): ساهمت الحرب الأهلية في خلق بيئة مضطربة، مما سمح لإسرائيل بالتدخل في الشؤون اللبنانية. حيث احتلت إسرائيل أجزاء من لبنان عام 1982 في إطار ما عرف بحرب لبنان، مدعية أنها تهدف إلى القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية.
-الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان (1982-2000): استمر الاحتلال لمدة 18 عامًا، وشهد مقاومة شعبية، خاصة من حزب الله، الذي نشأ كقوة مقاومة خلال تلك الفترة.
-حرب تموز 2006: كانت هذه الحرب نتيجة التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، حيث شنّت إسرائيل هجومًا واسعًا على لبنان بعد اختطاف عناصر حزب الله لجنديين إسرائيليين. أسفرت الحرب عن دمار واسع في لبنان وتدهور اقتصادي حاد.
- السياسات الإسرائيلية تجاه لبنان
تعتبر السياسات الإسرائيلية تجاه لبنان متعددة الأبعاد وتعكس الاستراتيجية الأمنية التي تعتمدها إسرائيل.
استهداف البنية التحتية: تسعى إسرائيل إلى إضعاف حزب الله من خلال استهداف البنية التحتية الحيوية مثل الجسور والطرق والمطارات، مما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد اللبناني.
-السيطرة على الحدود: تسعى إسرائيل إلى تحقيق السيطرة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية من خلال إنشاء مناطق عازلة، وذلك بهدف منع تهريب الأسلحة إلى حزب الله.
-استغلال الفوضى: في ظل الفوضى السياسية والأمنية في لبنان، تحاول إسرائيل الاستفادة من الأوضاع المتوترة لإضعاف القوى المناهضة لها، مثل حزب الله.
- هل ترغب إسرائيل في احتلال لبنان؟
بناءً على المعطيات التاريخية، يبدو أن إسرائيل لم تعد تسعى إلى احتلال لبنان كما كان في السابق، بل تسعى إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية من خلال تدمير قدرات لبنان العسكرية والاقتصادية.
-استراتيجيات الاغتيالات: تستخدم إسرائيل استراتيجيات الاغتيالات ضد قادة حزب الله كجزء من سياستها لإضعاف الحزب، مما يبرز رغبتها في تدمير قدراته العسكرية.
-التصعيدات العسكرية: تتجلى هذه السياسة في التصعيدات العسكرية المتكررة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق ردع فعّال ضد أي هجمات من قبل حزب الله.
- دور رفيق الحريري في إعادة إعمار لبنان
-صعود رفيق الحريري. وُلد رفيق الحريري في 1 تشرين الثاني 1944 في مدينة صيدا بلبنان، في عائلة متواضعة. بدأ حياته المهنية في السعودية، حيث أسس شركة “سعودي أوجيه” التي أصبحت لاحقًا من أهم شركات البناء والإنشاءات في العالم العربي. توسعت أعمال الحريري في مجالات عدة مثل البناء، الاتصالات، التعليم، والخدمات. هذا النجاح الاقتصادي ساهم في صعوده السياسي.
-مسيرته السياسية. بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، دخل الحريري الساحة السياسية في التسعينات، وتولى رئاسة الوزراء عدة مرات، بدءًا من عام 1992 وحتى 2004. جاء إلى السياسة كزعيم مستقل محاولاً إعادة بناء لبنان من خلال سياسة تهدف إلى النهوض الاقتصادي عبر دعم البنية التحتية، وإعادة بناء المؤسسات المدمرة نتيجة الحرب. لعب الحريري دورًا رئيسيًا في إقرار اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية وأعاد تنظيم النظام السياسي اللبناني.
-استثماراته في الإعمار. من أهم إنجازات الحريري كانت إطلاقه مشاريع إعادة إعمار واسعة النطاق، أبرزها مشروع “سوليدير” الذي ساهم في إعادة بناء وسط بيروت. أعاد هذا المشروع الحياة إلى العاصمة، حيث تم تطوير البنية التحتية وإعادة بناء المباني التاريخية التي دمرتها الحرب. كانت رؤية الحريري تقوم على تحويل بيروت إلى مركز تجاري ومالي وسياحي في الشرق الأوسط. كما عمل على تحسين الخدمات العامة، بما في ذلك التعليم والصحة والكهرباء والمياه، مستفيدًا من دعمه الكبير من المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
- استشهاد الحريري وتأثيره على لبنان
-اغتيال الحريري. في 14 شباط 2005، تعرض رفيق الحريري للاغتيال في تفجير ضخم استهدف موكبه في بيروت، وهو الحدث الذي شكل نقطة تحول كبيرة في تاريخ لبنان. لم يكن الاغتيال مجرد استهداف لشخص الحريري، بل كان استهدافًا للرؤية التنموية والإصلاحية التي كان يقودها.
-الفراغ القيادي. بعد اغتيال الحريري، ظهرت تداعيات كبيرة على المستوى السياسي والاقتصادي. حدث فراغ قيادي كبير في لبنان، إذ لم يكن هناك قائد آخر يمتلك القدرة على توحيد القوى السياسية والاقتصادية كما فعل الحريري. هذا الفراغ زاد من انقسام القوى السياسية في لبنان، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الداخلية.
-انطلاق ثورة الأرز. أدى اغتيال الحريري إلى اندلاع “ثورة الأرز”، وهي موجة احتجاجات شعبية كبيرة طالبت بخروج القوات السورية من لبنان وإنهاء الوصاية السورية على القرار اللبناني. نجحت هذه الاحتجاجات في الضغط على الحكومة السورية لسحب قواتها، إلا أن الاضطرابات السياسية والأمنية زادت في لبنان منذ ذلك الحين.
-تدهور الوضع الاقتصادي. بعد اغتيال الحريري، شهدت مشاريع الإعمار التي أطلقها تراجعًا كبيرًا. تدهورت الأوضاع الاقتصادية في لبنان، حيث لم يتمكن القادة السياسيون من متابعة رؤية الحريري الاقتصادية. انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتباطأت عجلة النمو الاقتصادي، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
1-الفرق بين فترة الحريري واليوم
-تحقيق الاستقرار. خلال فترة حكم الحريري، كانت هناك جهود كبيرة لتحقيق الاستقرار السياسي في لبنان، وخاصة من خلال بناء علاقات دولية وإقليمية متينة. في المقابل، يعاني لبنان اليوم من أزمة سياسية خانقة، حيث تنقسم القوى السياسية وتعجز عن التوصل إلى توافق حول القضايا الأساسية.
-التوجه نحو الإعمار. تمكن الحريري من جذب استثمارات أجنبية وإقليمية ضخمة للمساهمة في إعادة إعمار لبنان. كان بيروت مركزًا اقتصاديًا واعدًا في الشرق الأوسط. في المقابل، تواجه الحكومة اللبنانية الحالية صعوبة في جذب الاستثمارات بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى ضعف البنية التحتية وتزايد الفساد.
-مكافحة الفساد. رغم أن فترة الحريري شهدت بعض المشاكل المتعلقة بالفساد، إلا أن محاولاته لتقليل الفساد من خلال تعزيز الشفافية وتحسين الإجراءات الإدارية كانت واضحة. اليوم، أصبح الفساد أكثر تجذرًا في مؤسسات الدولة، مما يعيق أي جهود لتحقيق الإصلاحات.
2-الواقع اللبناني اليوم، اقتصادياً وسياسياً.
-انهيار العملة. تواجه لبنان اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث. تعرضت الليرة اللبنانية لانهيار حاد، حيث فقدت قيمتها بشكل كبير مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين. هذا الانهيار نتج عن سنوات من السياسات المالية الخاطئة وسوء الإدارة والفساد.
-ارتفاع معدلات الفقر. تشير التقارير الدولية إلى أن حوالي 80% من السكان يعيشون اليوم تحت خط الفقر، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ لبنان. ترافق هذا الوضع مع زيادة معدلات البطالة وتراجع الخدمات العامة، مما أدى إلى حالة من الإحباط واليأس لدى الشعب اللبناني.
-الفساد المستشري. الفساد هو واحد من أهم التحديات التي تعيق نهوض لبنان. تشير التقارير إلى أن الفساد متجذر في جميع مؤسسات الدولة، من القطاع العام إلى القطاع الخاص. هذا الفساد يعطل كل محاولات الإصلاح ويقوض أي جهود للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
3-غياب شخصية من نوعية رفيق الحريري
-افتقار الرؤية. في ظل غياب شخصية قيادية مثل رفيق الحريري، يعاني لبنان من افتقار واضح للرؤية. لا يوجد اليوم زعيم يتمتع بالقدرة على توحيد القوى السياسية والاقتصادية حول رؤية مستقبلية واضحة، وهو ما كان يمثله الحريري خلال فترات حكمه.
-تآكل الثقة. تآكلت الثقة بين المواطن والدولة إلى حد كبير، حيث يشعر الكثير من اللبنانيين بأن القيادة الحالية لا تمثل مصالحهم ولا تعمل على تحسين أوضاعهم المعيشية. هذا الفقدان للثقة يشكل تحديًا كبيرًا لأي محاولات مستقبلية لتحقيق الإصلاحات.
-الصراع السياسي الداخلي. زادت التوترات السياسية الداخلية في لبنان بعد اغتيال الحريري، حيث أصبحت القوى السياسية أكثر انقسامًا. أدت هذه الانقسامات إلى تعطل الحكومة وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، مما زاد من حالة الفوضى السياسية في البلاد.
4-هل يمكن للبنان النهوض مجددًا؟ ما هي التحديات الرئيسية؟
-الإصلاحات الاقتصادية. لبنان بحاجة ماسة إلى إصلاحات جذرية في القطاع المالي والمصرفي. يجب على الحكومة اللبنانية معالجة المشاكل المتعلقة بالديون والفساد، واستعادة ثقة المجتمع الدولي من خلال تطبيق سياسات مالية مستدامة وإجراءات شفافة. تحسين النظام المصرفي والمالي سيكون خطوة حاسمة نحو استعادة الاستقرار الاقتصادي.
-مكافحة الفساد. مكافحة الفساد هي أحد أكبر التحديات التي تواجه لبنان. يجب على الحكومة اتخاذ خطوات فعالة وجادة لمكافحة الفساد في جميع مؤسسات الدولة. هذا يتطلب وجود قضاء مستقل، وقوانين صارمة لضمان الشفافية والمساءلة، بالإضافة إلى تعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة أداء الحكومة.
-استعادة الثقة. استعادة الثقة بين الحكومة والمواطنين تتطلب جهودًا كبيرة لتحسين الخدمات العامة، مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم. يجب على الحكومة اللبنانية تحسين بيئة العمل والاستثمار، وتوفير بيئة أمنية مستقرة لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية.
5-الدروس المستفادة من فترة الحريري
-بناء مؤسسات قوية. يحتاج لبنان إلى بناء مؤسسات قوية ونزيهة لضمان فعالية الإدارة الحكومية وتحقيق التنمية المستدامة. يجب أن تكون هذه المؤسسات مستقلة وغير خاضعة للضغوط السياسية، وتعمل وفق معايير الشفافية والمساءلة.
-تعزيز الشفافية. تعزيز الشفافية في جميع جوانب الحياة العامة هو أمر ضروري للحد من الفساد وتحسين الثقة بين المواطن والدولة. يجب أن يتم تعزيز القوانين التي تحارب الفساد وتفعيلها بشكل فعّال لضمان مساءلة المسؤولين.
-جذب الاستثمارات. يجب على لبنان تحسين بيئة الأعمال وتوفير حوافز لجذب الاستثمارات الأجنبية، من خلال تسهيل الإجراءات البيروقراطية وتحسين البنية التحتية.
الخاتمة
لبنان اليوم يواجه مفترق طرق حاسم بين الانهيار والنهوض، وهو في مواجهة تحديات داخلية وخارجية قد تحدد مصيره في العقود القادمة. على الصعيد الداخلي، يعاني لبنان من انهيار اقتصادي حاد، أزمات سياسية عميقة، وفساد مستشرٍ في جميع مؤسسات الدولة. وعلى الصعيد الخارجي، تستمر العلاقات المعقدة مع إسرائيل، التي لم تعد تسعى فقط إلى المواجهة العسكرية أو الاحتلال المباشر، بل تتبع نهجًا يهدف إلى إضعاف وتدمير قدرات لبنان الاقتصادية والعسكرية والبنية التحتية بشكل غير مباشر. هذه الضغوط الخارجية تجعل مهمة النهوض أصعب، لكنها تبرز أهمية الوحدة الداخلية في مواجهة التحديات.
في الوقت ذاته، يمثل غياب شخصية قيادية ذات رؤية شاملة مثل رفيق الحريري عائقًا كبيرًا أمام إعادة بناء البلاد. فقد كان الحريري يتمتع بقدرة استثنائية على جذب الاستثمارات الخارجية، توحيد الأطراف السياسية المتباينة، والعمل على بناء دولة حديثة متصلة بالعالم الخارجي. غيابه ترك فراغًا قياديًا ملموسًا لم يتمكن أحد من ملئه حتى اليوم، الأمر الذي ساهم في تزايد حالة الفوضى والانقسام السياسي الداخلي.
لكن لا يزال هناك أمل. يمكن للبنان أن يستفيد من الدروس المستخلصة من فترة الحريري، حيث يتطلب النهوض الجماعي وجود إرادة سياسية قوية وشعبية لتحقيق الإصلاحات المنشودة. الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية ضرورة حتمية للتغلب على الفساد المستشري، وتحقيق الاستقرار المالي والمصرفي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس الشفافية والنزاهة. في هذا السياق، يتطلب استعادة ثقة المجتمع الدولي والمستثمرين الأجانب توفير بيئة اقتصادية مستقرة وآمنة، وهو ما يتطلب أيضًا تعزيز الاستقرار الأمني والسياسي.
وفي مواجهة هذه التحديات، يحتاج لبنان إلى قادة يتمتعون بالقدرة على تقديم رؤية متكاملة وشاملة للتنمية، تتضمن إعادة بناء المؤسسات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإيجاد حلول فعّالة للأزمة الاقتصادية. هذه الرؤية يجب أن تستند إلى وحدة وطنية صلبة، تقوم على تجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية، وتضع مصلحة البلاد فوق المصالح الفئوية أو الحزبية.
كما أن التعاون الإقليمي والدولي يعتبر ضرورة ملحة، إذ لا يمكن للبنان أن ينهض بمعزل عن العالم. فالتواصل مع المجتمع الدولي وتفعيل شراكات إقليمية ودولية يمكن أن يساهم في تقديم الدعم الاقتصادي والتنموي، وإعادة إدماج لبنان في الساحة الاقتصادية الدولية. إلى جانب ذلك، فإن تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية الكبرى يعد خطوة أساسية لضمان استقراره الداخلي وتوجيه الجهود نحو البناء الداخلي.
في النهاية، الطريق نحو النهوض طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلاً. إن النهوض بلبنان يتطلب جهودًا جماعية من جميع الأطراف، سواء من داخل الحكومة أو المجتمع المدني أو القطاع الخاص. يجب أن يعي الجميع أن مستقبل لبنان يعتمد على قدرتهم على التعاون وتحقيق الإصلاحات الضرورية. فقط من خلال هذا التعاون يمكن للبنان أن يتجاوز هذه المرحلة الصعبة ويستعيد مكانته كبلد قادر على التقدم والنمو والازدهار.