د. غالب خلايلي
هذه التجربة الثانية لي في التهاب القصبات. كانت الأولى قبل خمسة وثلاثين عاماً. وأهم ما في التجربة أن لكل إنسان مناعتَه ومقاومتَه الخاصة به، وأن المرض لا بد أن يأخذ وقته.
***
إن أنسَ لا أنسَ ذلك الصباح الباكر من شتاء 1989، عندما كنت أتابع خديجاً منهكاً في قسم العناية بالخدّج SCBU في مستشفى العين. كانت نحو الخامسة والنصف صباحاً، عندما بدأتُ أشعر بالحمّى والدوار والغثيان، مع تعبٍ شديد مفاجئ جعنلي أستند فوق الحاضنة كيلا أقع. حثثتُ الممرّضاتِ مرّاتٍ لاستعجال قدوم زميلي المناوب كي ينقذَني ومريضي. لا أدري وقتها كيف لم أنهَرْ، وقد تأخّر الزميل حتى طلعت الشمس من خدر أمّها. كان لا بد أن يأتي إلى العمل بشكل طبيعي في السابعة والنصف، وبدا لي أنه مع سكرات النوم والدفء الجميل لم يستوعب ندائي، ولكنه عندما رآني أدرك ما أنا فيه، فتركني أراجع طبيب الداخلية، هذا الذي صوّر صدري وأخبرني بمفاجأة لم أتوقعها: التهاب رئة غير نموذجي (1). على أن (أجمل) ما في الأمر وقتَها أن رؤية الطبيب كانت أسهل بما لا يقاس من تعقيدات اليوم، وأنني أعطيت إجازة أسبوع ترحمني من جحيم قسم الأطفال الساخن ولادةً وقيصرياتٍ وعنايةً وإسعافاً ومرضىً في العنابر (الأجنحة) وغيرهم في العزل وفيما يسمى جناح المرضى المهمّين.
مرّت سنون طوال مرضتُ خلالها مراتٍ بـ (التهاب الحلق والجيوب) خاصة عندما كنت أقع فريسة إحباط شديد بعد كل زيارة للجان التفتيش. ويبدو مؤخراً أنني حسدتُ نفسي (أو هي عواقب زمن كوفيد كما أشار زملاء)، فغالباً ما ردّدتُ بأنني نادر السعال، رغم إحاطتي طيلة الوقت بأطفال وأهلهم يسعلون بلا هوادة، آخذ معهم كل الاحتياطات من وضع القناع وتهوية الغرف وغسل اليدين وتناول الأغذية المساعدة، وهو عين ما نصحني به زملائي الكرام من كل صوب، مباركين، أمام من لا يفكرون حتى في رد السلام.
***
قبل خمسة أيام، أي مساء الأربعاء التاسع من تشرين الأول 2024، ودون سابق ميعاد، انتشرت كهرباء مزعجة في البطن بشكل مفاجئ، ولم أدرِ لذلك سبباً. عرفتُ هذا الشعور السيّئ من قبل، مرافقاً لبعض الأمراض الإنتانية والشدّة الدوائية (دواء ليفوفلوكساسين الذي حدّثتكم يوماً ما عنه) وغير الدوائية (معلّق تلفزيوني سمج..)، وقد شبّهت الأمر وقتها بأن أعصاب البطن مثل أسلاك الكهرباء التي تفقد غلافها فتتفاعل بطريقة غير عادية لأيّ منبه خارجي (صراخ، زمّور..)، وما أكثر ما قيل: إن أعصاب البطن دماغ ثانٍ.
لكن لماذا يهاجمني ذلك اليوم؟ فأنا لست في شدّة ولا مرض، بل على العكس، كنت في غاية الرضا هذا الأسبوع وأنا أنشر مقالاتٍ أحببتُها، وردود الفعل نحوها كانت إيجابية. ترى أهي الأحداث التي تدمي قلب كل عاقل؟ أم هي شيء آخر آتٍ في الطريق؟ وكان أن حضرت محاضرة مسائية في فندق فخم بعد يوم نادر من الانشغال. المحاضر زميل يشكو الوحدة، لكنّه يتغلب عليها بالعمل المأجور طرداً من الفجر حتى آخر الليل، وبحضور الأنشطة العلمية، وكانت المحاضرة (كوننا أطباء أطفال بيض الرؤوس) برعاية شركة من شركات الحليب المجفف التي تتنافس فيما بينها على وصفاتنا وتجفيف صدور الأمهات، وهنّ أصلاً الراغبات، اللاحقات بالدعايات الخدّاعة في وسائل التواصل، المصدّقات لكل تخريفاتها.
كان الجو البارد (المُكندش) في المحاضرة بارداً فوق ما أحتمل. رجوتُ لو كان معي غطاء أو دثار أو سترة، ولكنّني لم أبرد من قبل في مثل هذه الأجواء (المنعّمة)!. لعلها بوادر الخريف، لا خريفي أنا الذي تصالحت معه، لكن خريفنا الصحراوي، الحارّ في النهار، المتلطّف بنا قليلا في الليل.
مرّت الأمور على خير، وتعشّينا بأدبٍ ملتزم رغم توفّر ما لذّ وطاب لمن أراد، فخريف العمر لم يعد يسمح بعشاء دسم ثقيل، إذ إن بعده ما بعده من تعب الليل. حقيقة إنه التزام صعبٌ لا يصل المرء إليه بسهولة.
هدأت الحال قليلا بعد الإياب، وإن بقي بطني قابلاً للاستفزاز لأي طارئ. وتمشيت وأم العيال في الليل نحو ساعة بدا فيها ألم العضلات فوق المعتاد، فهو ملازم لدورة (الرطوبة، الحر، المكيّف) لكنه مقبول، لأذكركم بقولي المعهود: ما أجمل ألا يشعر المرء بأعضائه، تلك التي إن شعر بها تذكّره بعطب ما فيها.
وجاء موعد النوم. الأمور إلى حد ما جيدة، لولا سعالٌ حاد كلما أخذت نفساً عميقاً، فكان لا بد لي من التنفّس المقنّن كي أستطيع النوم.
***
صباح اليوم التالي (الخميس 10 تشرين) استيقظت مبكراً كالعادة على أضغاث أحلام كريهة مزعجة يسببها ضغط المثانة في الليل، والتي لا علاج لها سوى الاستيقاظ والتضحية بالنوم الذي ما زال يداعب الجفون. كأس من الحليب الحار صار عادةً عندي أستطيع بعده العودة إلى النوم (الذي يؤخّرني أحياناً عن عيادتي)، لكنّ بعض الواجبات التي أعددتُ نفسي لها جعلتني لا أعود إلى الفراش. وهكذا هيأت نفسي للذهاب إلى العيادة دون إنجاز شيء سوى شراء نظّارات رخيصة للقراءة من محل ياباني قريب، وعيني على مراقب المواقف قبل مرور عشر دقائق يصطادني بعدها إن تأخرت.
وصلتُ العيادة نحو العاشرة والربع وأنا أشعر بانحطاط قواي وألم مبهم في العضلات. لا شيء آخر يدل على مرض، حتى جاءني سعال منتج فيه بعض لون أصفر، فعرفت – مع صعوبة أخذ نفس عميق ورائحة مختلفة للنفس – أنني التهبت. التهبت قصباتي وما عاد من الحكمة تأخير العلاج لولا أمٌّ أتت بعد انتهاء الدوام بطفلين أحدهما متعب، ومكثت فوق ما ينبغي لأن السائق ذهب ولم يعد، فكان أن تأخرتُ في بدء دوائي، على أمل أن يعطي ثماره بسرعة، فمرضي إذا استفحل مشكلة.
نمتُ ساعتي العصر واستيقظت مرتاحاً إلى حد ما.. وبعد تبخيرة الماء الحار مع القرنفل وكأس من الشاي الأخضر تنشطت وذهبت إلى العيادة. لم يحدث أن غبتُ عن عملي ما استطعت إلى ذلك سبيلا. لكن رغم مكابدة الألم، وانحطاط القوة، بقيت وحدي أسلّي نفسي بمراجعة مقالات سابقة، حتى كاد الدوام ينتهي، فإذا برجل من بلاد الشام يستنجد بي هاتفياً وأنا على أهبة الخروج، فكان أن ترفّقت بولده الرضيع المحموم ليلة خميس يصعب أن يجد فيها طبيبا غير مغالٍ، خاصة وأنه لا يحمل بطاقة تأمين، إذ سيكلفه الأمر بقرة جحا في أي مستشفى، وهو لا يملك من البقرة سوى الرسن.
عدت إلى البيت في العاشرة والنصف ليلاً، وقد أقامت أَودي حبة باراسيتامول تناولتها قبل نحو ساعة، فاستطعت شراء بعض الحاجيات للبيت منها قليل من البرتقال والجوز. وعلى صخب أخبار صارت اعتلالاً يومياً مفروضاً، تناولت عشاء خفيفا من اللبن والثوم، ونصف شطيرة ساخنة من الخبز الأسمر مع الجبن وزيت الزيتون والنعناع، كانت نفسي تطلبها طلبَ مدخّن انقطع عن سجائره وخرم. الحمد لله لم أفقد شهيتي، لكنني متعبٌ ولن أكون قادراً على مشوار المشي الليلي.
بدأ الشواش في رأسي، وازداد الألم والصداع، فرحت إلى أدويتي المسكّنة، وخلدت إلى النوم بعد استنشاق البخار الساخن، ورجوت الله أن أنام بهدوء، لكن السعال عاودني بقوة ورأسي على المخدة. سعلت حتى نمت وأنا أشعر بشيء من حلاوة الدفء مغطىً باللحاف، فيما المكيف الذي يصعب الاستغناء عنه شغّال على أدنى درجة حرارة يتحمّلها هذا الجسد المنهك بأدوية إضافية فوق أدوية يومية لا غنى عنها.
صباح الجمعة 11 تشرين، استيقظت مرتاحاً نحو الثامنة كأنني غير الشخص الذي نام في الليل. أشعر كأنني صفحة البحر الهادئ بعد ليلة عاصفة. المخدة مبللة بالعرق مثل عادتها كل صباح، ولا أشعر بسوى تشنج بسيط في عضلة الساق اليسرى من التكييف. أطفأته وبقيت متحمّلاً غيابه الذي صار ممكناً مع تحسّن الجو. تنفسي طبيعي تماماً، وهدوء عجيب في الرأس الذي عاد الى “دوزانه”. قليل من سعال الدلع مقارنة بالليل.. أرجو أن يستمرّ هذا التحسن، ولا يكون سحابة صيف.
الديك يصيح في الخارج الذي يبدو ساكناً عدا حركة قليلة للسيارات. عادة ما يصيح الديك في الثالثة عصرا كأنه مضروب على رأسه، أو كأنه أخذ حبّة منومة كيلا يسمع نقيق (أو نقنقة) دجاجته، وبدا اليوم أنها في زيارة أمها، فما عاد للمنوّم حاجة. الأمر الجيد أنني معطل وباستطاعتي أخذ قسط آخر من النوم إذا احتجت، ولو صاح الديك، فبعد إغلاق الستائر يصبح صياحه مثل صياح أمم بائسة لا يسمعها أحد.
عند الظهيرة بدأت أشعر بسخونة الرأس والجسم. استنشقت البخار الحار وتناولت مسكنا ونمت راجيا أن أستيقظ بحالة أحسن لتلبية دعوة كريمة من صديق عزيز. ها قد انفضّ السامر وعدنا إلى البيت في المساء. بدأت أشعر ببعض ألم يزداد بالسعال المنتج قليلا، ويضغط الرأس بصداع عابر، فكان أن استنشقت البخار، وأجهزت على دلّة الزعتر والزنجبيل، وخرجت أتمشى في الهواء الطلق نحو ساعة.
وفي الليل بدأ موّال السعال الجارح حتى نمت، واستيقظت صباح السبت على سعال، وكأنني لم أتحسّن بالأمس ولا تناولت أي دواء، لكنني بقيت متوازناً في عيادتي، ونمت بعد غداء غني بالثوم والبصل واللبن الرائب، فاستيقظت في المساء بحال أحسن، وأنا أفكر بما يجري.
للمناعة دورها، ولا بد للمرض أن يأخذ حده..
في خبرتي الطبية وتجاربي عرفت نفسي ومرضاي: ما بدأ المرض فلا بد أن يكمل دورته مهما تدخلنا مبكراً من أجل العلاج. التدخل يقلل مدة المرض ويحمي من الاختلاطات الممكنة. دورنا الرئيس هو تشخيص الحالة بدقة، ومساعدة مناعة المريض حتى يتخلص بنفسه من المرض. للعوامل النفسية أثرها السيئ بالتأكيد، فهي تؤخر الشفاء، ولو نظرنا حولنا لوجدنا أننا نغرق في محيط من الشدائد. ومع ذلك، نحن بخير عميم والحمد لله، أمام حالات صعبة لا تكاد تجد شيئاً حولها من عوامل الاطمئنان.
أياماً بليالٍ مرّة.. ما بين السّبعة والعشرةْ.. يوجعُنا الفيروس الغازي: برديّةْ، قُشَعْريرةْ، حُمّى.. ينتفضُ الجسمُ من الألمِ.. يتوجّعُ في أحلامٍ ليست كالأحلام.. نتلوّى فيها حتى الفجر.. نتصبّبُ عرقاً في معركةِ مناعتنا.. تنتحرُ كرياتٌ بيضٌ.. تتقدّم لا تيأس أبداً.. فتراها حمّىً مزعجةً.. قيحاً وسعالاً لا يهدأ.. ونساعُدها بعزيمتنا، بالصبر المرّ وأدويةٍ.. ومقاومةٍ حتى نشفى.
دمتم بخير….
العين في 13 تشرين الأول 2024
هامش: (1) التهاب الرئة غير النموذجي Atypical Pneumonia يحدث بعوامل ممرضة غير المألوفة مثل الكلاميديا والميكوبلازما، وهي تنتقل غالباً من الأطفال المرضى، وتكون اقل حدة من الأنواع النموذجية.