الوزراء سيّان إذا اجتمعوا أو لم يجتمعوا
د. الياس ميشال الشويري
يعد مجلس الوزراء اللبناني الهيئة التنفيذية الأساسية للدولة، وهو المسؤول عن تنفيذ السياسات العامة وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان. إلا أن أداء هذا المجلس كان محط انتقادات واسعة في السنوات الأخيرة، سواء من قبل الشعب اللبناني أو من المجتمع الدولي، نتيجة غياب الفاعلية وتأخر الاستجابة للأزمات المتفاقمة. فلبنان يعاني من أزمات متعددة الأبعاد، تبدأ بالركود الاقتصادي ولا تنتهي بالأزمة السياسية والاجتماعية، وكل ذلك في ظل غياب قيادة حكومية فعالة.
يستعرض هذا البحث بعمق المشكلات البنيوية والسياسية والاقتصادية التي تواجه مجلس الوزراء اللبناني، مع تحليل للآثار السلبية الناتجة عن هذا الأداء الضعيف على المجتمع اللبناني بشكل عام.
1 – هيكلية مجلس الوزراء اللبناني: تكبيل الفاعلية السياسية.
-الطائفية والمحاصصة: قيود تقليدية في قلب النظام السياسي. ينقسم النظام السياسي اللبناني بشكل فريد إلى حصص طائفية تمنح كل طائفة مجموعة معينة من المناصب الحكومية. هذا الهيكل الذي أُسس بعد اتفاق الطائف في العام 1989، كان يهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية وتعزيز التوازن بين الطوائف. ومع ذلك، تحول إلى عامل مثبّط للفعالية الحكومية، حيث أصبح تشكيل الحكومات عملية شاقة تتطلب توافقات معقدة بين الأحزاب السياسية والطوائف.
النتيجة هي حكومات تضمّ أعضاءها بناءً على انتماءاتهم الطائفية والسياسية بدلاً من كفاءاتهم. هذه المحاصصة الطائفية تولّد حكومات غير متجانسة تفتقر إلى الرؤية الموحدة، ما يؤدي إلى شلل في اتخاذ القرارات الحيوية. كل قرار يجب أن يحظى بموافقة واسعة من الأطراف المختلفة، مما يعني أن القضايا الأساسية المتعلقة بالاقتصاد أو الصحة أو التعليم قد تُهمل لصالح تسويات سياسية.
-الفساد المتأصل في المؤسسات الحكومية. يعتبر الفساد من أبرز العقبات التي تعيق عمل مجلس الوزراء اللبناني. بحسب تقارير متعددة لمنظمات دولية مثل “منظمة الشفافية الدولية“، يعتبر لبنان من بين الدول الأكثر فساداً في المنطقة. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل متجذرة في النظام السياسي منذ عقود. الأحزاب السياسية الكبرى تستخدم نفوذها لتعيين أفراد في المناصب الحكومية ليس استناداً إلى مؤهلاتهم، بل وفقاً لاعتبارات المحسوبية والولاء.
هذه الحالة تؤدي إلى تفشّي الفساد في قطاعات حيوية مثل الكهرباء، المياه، والبنية التحتية. فمثلاً، يعتبر قطاع الكهرباء في لبنان من أكثر القطاعات فساداً، حيث تتضارب المصالح بين الأحزاب الكبرى وتتأخر مشاريع الإصلاح الطارئة لعقود. مجلس الوزراء يفتقر إلى الإرادة السياسية لإصلاح هذه القطاعات بسبب الضغط من النخب السياسية الفاسدة التي تستفيد من الوضع الراهن.
2- الأزمة السياسية والشلل الحكومي.
-الصراعات السياسية الداخلية. لا يمكن فهم تعثر مجلس الوزراء اللبناني دون النظر إلى السياق الأوسع للصراعات السياسية الداخلية التي تتخلله. فالأحزاب السياسية، التي تمثل طوائفها، تتنافس بشكل دائم على السلطة والنفوذ، مما يجعل من الصعب تحقيق توافق على السياسات العامة. حتى القضايا البسيطة التي قد تتطلب قرارات سريعة تصبح ساحات صراع، حيث يسعى كل طرف إلى تعظيم مكاسبه السياسية على حساب الحلول الفعالة.
تاريخياً، شهد لبنان عدة فترات من الشلل الحكومي الممتد بسبب عدم الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة أو بسبب انسحاب أحد الأطراف من الحكومة. هذا الشلل يعطل ليس فقط القرارات الاقتصادية والإصلاحات، بل أيضاً الخدمات الأساسية للمواطنين.
-التدخلات الخارجية. إلى جانب الصراعات الداخلية، يواجه مجلس الوزراء اللبناني تأثيرات كبيرة من التدخلات الخارجية. بسبب موقع لبنان الجغرافي والسياسي، تتنافس العديد من القوى الإقليمية والدولية على التأثير في السياسات الداخلية للبنان. هذه التدخلات، سواء من دول إقليمية مثل إيران والسعودية أو من القوى الدولية الكبرى، تعقد الأوضاع السياسية وتعرقل عمل الحكومة. غالباً ما تكون القرارات الحكومية مرهونة برضا القوى الخارجية، مما يضعف السيادة الوطنية ويعقد العملية السياسية الداخلية.
3-الأزمة الاقتصادية والاجتماعية: انهيار على عدة مستويات.
-الانهيار الاقتصادي
في السنوات الأخيرة، واجه لبنان أزمة اقتصادية غير مسبوقة تُعتبر من أسوأ الأزمات في تاريخه الحديث. يعود جزء كبير من هذا الانهيار إلى سوء الإدارة الاقتصادية وغياب الإصلاحات الجوهرية. الفساد في المؤسسات العامة، وغياب الرقابة، والهدر المالي، إضافة إلى الدين العام المتصاعد وسرقة المال العام والخاص، ساهمت في تدهور الاقتصاد بشكل حاد.
تفاقمت الأزمة مع انهيار الليرة اللبنانية، حيث فقدت العملة الوطنية أكثر من 90% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى تضخم غير مسبوق وارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية. هذه الأزمة الاقتصادية أدت إلى تفاقم معدلات الفقر والبطالة، حيث يعيش أكثر من 80% من اللبنانيين تحت خط الفقر وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
– التدهور الاجتماعي. إلى جانب الأزمة الاقتصادية، يواجه لبنان أزمة اجتماعية حادة تتمثل في ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وانهيار الخدمات العامة الأساسية مثل الكهرباء والمياه والنظام الصحي. تدهور الخدمات الصحية بشكل خاص بات يُشكل تهديداً مباشراً على حياة المواطنين، خاصة في ظل جائحة كورونا التي أضافت تحدياً جديداً للنظام الصحي المتعثر أصلاً.
كما أن التعليم، الذي كان تاريخياً أحد نقاط القوة في لبنان، يعاني من تراجع كبير بسبب نقص التمويل والإضرابات المتكررة. الأطفال والشباب باتوا ضحايا للأزمة، مع ارتفاع معدلات التسرب المدرسي وهجرة الكفاءات بحثاً عن فرص أفضل في الخارج.
4- غياب الحلول وانعدام الثقة بين الحكومة والشعب
-فشل الإصلاحات الاقتصادية. على الرغم من التوصيات العديدة التي صدرت من منظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لم تتمكن الحكومات اللبنانية المتعاقبة من تنفيذ أي إصلاحات اقتصادية جذرية. الخلافات السياسية بين الأطراف المختلفة، إلى جانب الفساد المتفشي، أعاقت أي محاولات جادة للإصلاح. فالخطط الإصلاحية الاقتصادية تحتاج إلى توافق سياسي واسع، وهو ما لم يتحقق في لبنان بسبب الصراعات الطائفية والسياسية المستمرة.
-انهيار الثقة بين المواطنين والحكومة. نتيجة للأداء الضعيف والفشل المستمر في الاستجابة للأزمات، فقدت الحكومة اللبنانية ثقة الشعب بشكل شبه كامل. الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في 2019 كانت تعبيراً واضحاً عن هذا الغضب الشعبي. المتظاهرون طالبوا بتغيير شامل للنظام السياسي، وإنهاء الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ورغم أن الاحتجاجات أجبرت الحكومة على الاستقالة في نهاية المطاف، إلا أن الأوضاع لم تتحسن بسبب استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية.
5- مقترحات وحلول: الطريق إلى التعافي
-إصلاح النظام السياسي. أول خطوة نحو تحقيق التعافي في لبنان يجب أن تبدأ بإصلاح النظام السياسي. نظام المحاصصة الطائفية الذي أثبت فشله وفساده في العقود الأخيرة يحتاج إلى إعادة هيكلة، بحيث يتم بناء حكومة تعتمد على الكفاءة والقدرة على اتخاذ القرارات، وليس على الولاءات الطائفية. هذا يتطلب توافقاً وطنياً على المستوى الشعبي والنخبوي لكتابة عقد اجتماعي جديد يضمن تمثيلاً عادلاً وفعّالاً.
-مكافحة الفساد. تحتاج الحكومة اللبنانية إلى تبني سياسات صارمة لمكافحة الفساد. إنشاء هيئات رقابية مستقلة ومنحها الصلاحيات الكاملة للتحقيق في قضايا الفساد هو أمر بالغ الأهمية. بدون هذه الإصلاحات، سيظل الفساد يعوق التقدم وسيستمر استنزاف الموارد الوطنية.
-الإصلاحات الاقتصادية العاجلة. على الصعيد الاقتصادي، يحتاج لبنان إلى وضع خطة إنقاذ اقتصادي عاجلة تستند إلى التعاون مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذه الخطة يجب أن تشمل إصلاحات هيكلية في القطاعين المالي والمصرفي، بالإضافة إلى تخفيض الدين العام، واستعادة الثقة في النظام المصرفي.
6-الخاتمة
يواجه مجلس الوزراء اللبناني تحديات متعددة الأبعاد تعيق قدرته على تلبية احتياجات الشعب اللبناني والتصدي للأزمات المتفاقمة. فبين الصراعات السياسية الداخلية، والتدخلات الخارجية، والانهيار الاقتصادي، يجد لبنان نفسه في أزمة غير مسبوقة تتطلب جهوداً إصلاحية كبيرة لاستعادة الاستقرار وتحقيق التنمية المستدامة.