على الله تعود
د. غالب خلايلي
عتب علي قرائي الجدد أنني زائد الجدّ (يعني: حاطط العُقدة وماشي)، فضحكت (رغم صعوبة الضحك اليوم، لتشنّج عضلات الفكّين حتى الضزز)، وقلت: هذا عائد إلى طبيعة الموضوعات التي ِأكتبها يا سادتي، فخذوا هذا المثل الضاحك من عهد مضى، على الله يعود.
***
سألني (صاحبٌ) ناشفُ الوجه والطبع: ما لي لا أرى منك جُبناً ولا زيتَ زيتونٍ ولا عسلاً؟ كلّ الناس يسافرون ويعودون بـ (تنكات) منه، إلا أنتَ تسافر وتعود خاليَ الوفاض!..
تشنّجت أعضاء جهازي الهضمي كاملةً، وصمتُّ قليلا أتفكّر بأحوال البلاد والعباد، ثم قلتُ راسماً نصف ابتسامةٍ غامضة بطريقة ليوناردو دافنشي (في الجيوكندة -الموناليزا):
اسمع أولاً قصة تنكة الجبن.
ففي السنوات الأولى من اغترابنا، قبل نحو ثلاثة عقود، لم نفكّر بجلب شيء من الوطن الأول، اللهمّ إلا بعض المجفّفات كالملوخيّة والبامية، وقليل من صابون الغار والزعتر. ثم تطوّر الأمر لاحقاً إلى قليلٍ من الجبن ومربى التين أو المشمش (لعلكم تتذكّرون قطرميز المعقود الذي أصر المفتش في مطار الحريري قبل سنتين على رميه في المهملات). أما السبب الرئيس في (زهدنا) بمنتجات الوطن، فليس طعمَها بالتأكيد، لأنها في منتهى اللذّة التي لا يضاهيها صنفٌ منافس، إنما يكمن السبب في طريقة السفر، إذ لم نكن نسلك طريق البرّ (وأنا أمقتُ المسافات الطويلة، ناهيك عن حساسيتي من فكرة السفر وتعقيداتها)، ومن ثم لا يمكن تحميل الأغراض بطريقة أهل البر، وأغلبهم يحمّل سيارته المتواضعة فوق طاقتها سعياً إلى التوفير، يظنها شاحنةً بستّ عجلات، فإذا بها تنخّ في الطريق القاسي، وتنكسر، وتبوس الأرض، ناهيك عن الانكسار النفسي في الطريق أو عند الحدود.
بقي صاحبي مكشّراً، فتابعت بسرور: لكنّنا يا سيدي قرّرنا – ذات مرّة – السّعي إلى (الرّفاه) بإرسال سيّارتنا براً، وليتنا ما فعلنا. أما الأسباب فهي مجموعةُ العوائق التي تبدأ منذ لحظة الانطلاق ولا تنتهي حتى بالعودة. فعدا عن الكلفة التي تفوق كلفة استئجار سيارة محلّية (دعك الآن من طمع صاحبها وتداعي أجزائها ومشاكلها الخبيئة)، وعدا عن المعاملة الطويلة المعقّدة، يأتي الأصعب ألا وهو اختيار مكتب النقل من غابة المكاتب المنتشرة، ومفاوضته على السعر، والأهم الوقت. في البداية كل شيء سمن وعسل و”ماء زمزم!” (بسْ تعال)، لكن ما إن تدفع الأجرة حتى تصيرَ رهناً لحارقي الأعصاب، فلا تدري – لعشرين يوماً أو أكثر – بأي أرض صارت سيارتك، حتى يفرجَها الله عليك بخبرٍ من الحدود، وهناك لا بد من وجودك أو وجود شخص من طرفك يحمل وكالةً ليستلم السيارة، بعد منّة إضافية من وكيل التسفير الذي يخبرك (ليشلّحك مبلغاً إضافياً) أنه بذل جهداً خارقاً كي يحفظ سيارتك تحت شجرة ظليلة، تبحث عنها بمنظار في الصحراء، فتظن أنه نسي تلك الشجرة في بيته.
ها قد وصلتِ السيارة ذات اللوحة اللافتة للأنظار بعد عناء، واحتلّت أمام بيتك – بعد لأيٍ – موقفاً محجوزاً لأحد جيرانك دون وجه حقّ (إذ لا حقّ لغائب) وقد اعتاد غيابك، وصار يرى وجودك غير محبب ولا شرعياً. وصلتْ السيارة مشطّبةً من هنا، مبعّجةً من هناك، لا بأس، إذ تدرأ بتشوّهاتها أعينَ الحسّاد! ومع أن جزءاً مهماً من الإجازة طار، فقد فرحتَ بها أي فرح، ومنّيتَ النفسَ والعيونَ الرانية حولك بمشاوير وسفرات ممتعة، تدور بها على كيفك، دون أن (تأكل) همّ الوقت.
وأنت في أوج غبطتك، يأتيك الغضب سريعاً من حيث لا تحتسب، عندما تملأ سيارتك بالبنزين من محطة ما، فإذا بالسيارة ترجّ و(تنتع) مثل عربة يجرّها حمارٌ حَرونٌ أو بغلٌ شديد العناد، فلا تمشي حتى تتوقّف! ويا للنحس في هذا الوقت من الصيف، وأنت بعيد عن كل شيء تعرفه وتثق به. كل هذا لأنك لم تكن تعلم أن محطات البنزين أنواع، أغلبها غشّاش يخلط البنزين بالماء، وهو على الأرجح أهليٌّ خاص، والقليل منها أمينٌ لا يخلط البنزين بشيء، وأغلب الأمين حكومي (صدّق أو لا تصدق، أنتَ حر).
في تلك السنة الكبيسة (قبل سنوات الحرب البغيضة)، نَصَحَنا أحدُ المحبّين بتحميل “تنكة” جبن حموي ممتاز داخل السيارة في طريق عودتها، ما دامت ستعود خاليةً، وكانت تلك هي التنكة اليتيمة، إذ لم نحمّل غيرها على مدى عقود.
سألتُه بسذاجة: وهل تصل “التنكة” سالمةً في جو حار، بعد أن تقضي السيارة أياماً في الطرق الصحراوية؟
أجابني بثقة: ما دامت التنكة مختومة، فلا شرّ يصيبها!.(1)
ولا أدري كيف قبِل عقلي الطبّي الحكيم هذه الخرافة! ربما لأنني منّيتُ النفس بجبنٍ لذيذ يدوم أطول، والأرجح أنها كبوة الحـ… صان مع قلّة الخبرة بنقل الأجبان بين البلدان!
المهمّ عبرت تلك التنكة حدود أربعة بلدان، في صيف خمسيني خرافي: أسبوعين! لتُترك السيارة بعدها في طريق منعزل في إحدى المناطق الصناعية البعيدة (160 كم عن البيت)، تحت حرّ الشمس القاتل، أياماً أخرى. ومع ذلك قلنا: الحمد لله، إذ لم يضعها السائق (رؤوف) في مكان ممنوع، مثلما فعل السائق (شريف) في رحلة سابقة، لـ (تأكل) سيارتنا وقتَها مخالفةً مرورية دسمة فور تنزيلها في موقف المُعاقين في رابعة الصباح.
ها قد وصلنا إلى سيارتنا المجلّلة بالرّمل والغبار والسّخام الأسود بعد رحلة بحثٍ طويلة! بالكاد عرفناها! وعيونكم لا ترى ما رأينا، ولا أنوفكم تشمّ ما شممنا عندما فتحناها! كارثة! لأن تنكةَ الجبن فارت وجنّت، وشقّت طريقها إلى فرش السيارة، وكان لا بد من رمي المخلّفات على الفور، والعودة بالسيارة مفتوحةَ الشبابيك في جو كالذي وصفت يصعق حتى الجمل. وكان أن بقينا نحاول تنظيف السيارة ستة أشهر، كي تزولَ الرائحةُ العفنة منها.
صدقوني يا سادتي أنني حتى اليوم، لا أطيق سماع أمور كثيرة، أذكر لكم أبسطها: الصاحب الناشف الذي ما من صحبته بدّ، أو فكرة نقل سيارة في بلادنا، أو اسم أي شركة لنقل السيارات، خاصة تلك التي تتكنّى بالمعاني الجميلة الخادعة، ويتشبه راعيها بالرجال الصالحين الورعين وهو براء من أي دين.
وما لها يا سادتي (البقرة الضاحكة)، وكل الأبقار التي تضحك علينا، وعلى جبنتنا التي صارت بعد وقت من حرب مجنونةٍ خليطاً من مواد لا يعلمها إلا الله.
لكن، ولاطمئنان بالكم، أخبركم أن رحلة أيّ سيارة مُسالِمة برّاً صارت في العقد الماضي حلماً عزيز المنال، فتراكمت بضائع التجار في المخازن، وجفّت ثمار المزارعين في الحقول، وضاقت الدنيا من كل جانب، وصارت الكميات المنقولة جواً عزيزة وغالية جداً، لتذوي في متاجرها بسبب غلائها، إذ فضّل الناس عليها البضاعة الصينية، لا في الصناعات فحسب، بل حتى في الحمضيات والثوم والجزر (الذي لم يعد يقوي البصر).
فهل عرفتَ الآن يا صاحبي قصة تنكة الجبن؟
اضطرب وجه (صاحبي) كما لو أنه خسر الجائزة الكبرى في اليانصيب، وأومأ بالإيجاب الذي يشبه القولنج الكلوي (في حصاة حالبية نازلة مستعصية).. وهنا أفرجتُ عن نصف الابتسامة الباقية، واقترحتُ عليه أن أروي له قصّة إبريق الزيت، ثم قصة قنينة العسل، فما كان منه سوى أن عبس وتولّى فارّاً بجلده، فرحتُ أقهقه مثلما لم أفعل منذ زمن.
دمتم بخير.
العين 17 تشرين الأول 2024