د. خلايلي في المشفى
د. غالب خلايلي
يصادف اليوم 20 تشرين الأول 2024 ذكرى مرور أربعين عاماً على دخولي اختصاص طب الأطفال بدمشق. وأتحدث عن المخاضات التي أوصلتني وزملائي إلى ذلك اليوم، على أن أترك ذكريات الاختصاص إلى جزء ثان، مع أطيب تحية لكل زميل مخلص في الظروف الصعبة في أي مكان من هذا العالم.
***
يمرّ طالب الطب بمخاضات يسيرة أوعسيرة حتى يصبحَ طبيباً. وهذه المخاضات، وإن كانت تقلُّ مع الزمن، إلا أنها لا تتوقّف عن الضغط عليه و(عصره)، سواء أكان خرّيجاً جديداً، أم متقدّماً في صنعة الطب.
في البدء يفرح الطالب فرحاً طفولياً وهو يدخل إلى كليّةٍ ينظر الناس إليها نظرةً خاصة (في بلادنا على الخصوص، دون مبرر منطقي)، فيشعر بالزهو وهو يحمل المعطف الأبيض في الطريق، كي تحقّقَ حالة الزهو هذه له مكسباً معنويا ما (مثل رفقة طالبة جميلة من إحدى الكليات، أو صبيّة غضّة تطلّ عليه من ذات شرفة)، أو حتى مجرّد الشعور بالفخر أمام الأهل والمعارف.
لكنّ كلَّ هذا الزهو يزول عند الدخول شيئاً فشيئاً في عالم الطب، وعند أول اختبار بسيط، حتى من شخص ساذج قد يقابله صدفة، أو من جارٍ يراه حاملاً كتبه ومعطفه في الذهاب والإياب، أو من بعض أهله المزهوّين به.
كنتُ في أول سنتي الثانية يوم استدعاني جيراني لأشهد على حالة رجلٍ مسنّ! تأملتُه طويلاً وصرتُ في حيص بيص! فأنا لا أملك حتى سمّاعة، ولم أستخدمْها بعدُ مرّةً واحدة، كما لا أعرف من الطب سوى معطفي وأجزاء من مادّتي التشريح والجنين العويصتين، اللتين لن تسعفاني الآن في موقفي الحرج، كما لن يسعفَني ما رأيتُه من مشاهد دراميّة لممثّلين يخطئون أخطاء فادحة وهم يمثّلون دور الطبيب، دون أن يتكلفوا بسؤال مختص في هذا المجال.
تقدّمتُ قليلاً في السنة الثالثة، وصار علم الأدوية أحد المواد النظرية المقرّرة في كتابٍ موسوعيّ، وكان أن سألني أحدهم في مجلس عزاء عن أحسن علاجٍ للسلّ الرئوي الذي يعاني عمّه منه، فرجوتُه أن يمهلني ريثما أراجع الموضوع، وكان أن غصتُ في وحلٍ لا أعرف كيف أخرج منه، لجهلي بالسلّ وأدويته المعقدة.
الشاهد أنني كنتُ في المرحلة الجنينية، وما زالت أمامي مراحل كثيرة من التطّور قبل الخوض في بحر الطب، لهذا قررتُ – باجتهادٍ شخصي – الاستعجال واللجوء إلى مستشفىً يقبل حضور أمثالي من معدومي الخبرة، ودون أوراق ثبوتية (عدا المعطف الأبيض!).
شجعني على ذلك زميلٌ متواضع (صار ذا شأنٍ لاحقاً، وبات يصعب الكلام معه) يسكن قرب المستشفى الذي اشتُهر عند بعض العامة باسم غير جميل قبل أن ينفض عنه غبار الإهمال!.
هناك، بدأنا شيئاً فشيئاً نقارب المرضى، مع زميل خمسيني كبير (هكذا كنا نرى الخمسيني الأشيب، خاصة قبل عهد “التصغير” بصباغة الشعر) كان يسأل أي مريض بضعة أسئلة، ليقول بعدها: عندك إنفلونزا!.
كنا ندهش أشد الدهشة كيف يستطيع أن يشخّص المرض ذاته لكل مريض!. لكنّ الإيجابي في الموضوع هو أننا استطعنا تطبيق صفحات الاستجواب (وملخّصها في جيوبنا) ولو بشكلٍ خجول أمام براعم التمريض الغضة التي تتفتح للتوّ، وكذا أمام المرضى وأهليهم الذين عرفوا حالنا ودارَوا وضعنا مشكورين، وتعلّمنا عدة أمور عملية على يد ممرّض طويل الخبرة، مثل خياطة الجروح، وإعطاء الحقن العضلية ثم الوريدية، وإن صادفتْنا قصصٌ مفاجئة لم ينبّهْنا إليها أحد. مثلاً كان المريض يشعر بالدوار عند الحقن السريع لبعض الأدوية بالوريد، لهذا كان لا بدّ من إعطائها بعد التمديد بصبرٍ ورويّة. كان إعطاء المصل المضاد للكزاز ضيافةً حتميةً لكل من أصيب بجرح (إصابة عمل، حادث سيارة، ضربة سكين..)، على أن يكون مستلقياً، خشية هبوط الضغط والدوار، خاصة عند الخوف أو رؤية الدم. وفي ذات مرة طلبتُ من شخصٍ قويّ العضلات أن يتسطّح لإعطائه الحقنة تحت الجلد، فرفض قائلاً: أنا لا أخاف. لكن الإبرة ما كادت تلامس جلده حتى اصفرّ ووقع على الأرض مثل عمود رخام. أمرٌ غير جيد أيضاً أن مندوبي بعض شركات الأدوية استغلوا نقص علمنا بعرض أدويتهم (السحرية)، فنصدق كل ما يقولون. ولا تسلْ عن هول التعامل مع الأطفال والرضع، تبعاً لما تعلّمناه لاحقاً.
***
ها قد انتهى عهد الدروس الجافة، وبدأت الدروس السريرية في المستشفيات التي لم تكن تقبل بنا حتى متفرّجين. صرنا نحضر بدءاً من السنة الرابعة الدروس في المستشفى الكبير (المواساة، أول طريق المزة)، نتوزع فئاتٍ على الغرف، فيُحضر مريض إلى كل غرفة بإشراف أستاذ، ويكلّف طالبٌ بالاستجواب، لتناقش بعدها الحالة. لكن ذلك لم يكن كافياً برأيي (خاصة أن الحضور كيفي غير مسجّلٍ وقتها)، فرحتُ أزور أجنحة المرضى في أي وقت متاح بعد انتهاء الواجبات النظرية عصراً (في كلية الطب التي تبعد مشيَ ثلث ساعة)، لأمرّ على مختلف الاختصاصات (الداخلية والجراحة في المواساة، والأطفال في المستشفى القريب المجاور، وأمراض النساء والتوليد والجلدية في مشافي الجامعة القديمة). أذكر أنني كنت أبقى حتى منتصف الليل أحياناً، وأنا بين سرير وسرير، أقرأ الملفات، وأفحص المرضى، حتى صار بعضهم يشكّ في أنني طبيب الجناح. وبسبب ذلك كوّنت صداقاتٍ مهمة مع زملاء وأساتذة كبار، كما لاحقتني عداوة بعض أساتذةٍ رفضتُ الدوام في مشافيهم الخاصة.
على أن تلك الأيام، مع غناها التعليمي، لم تكن خالية من الهموم أو المشاكل، خاصة عند التعامل مع من لا يحبّ العطاء، أو ليس لديه ما يعطيه. أذكر مرّة أن زملاء في الطب الداخلي انزعجوا أشدّ الانزعاج بعدما رأوا خطوطاً وضعتُها تحت بعض العبارات، وأنا أدرس الملفّات (الحقيقة أن أحداً لم يعرفني أن ذلك ممنوع). ولم ينفعني حسن نواياي ولا شرحي أنني لا أسخر من كتابتهم (التي تشبه الهيروغليفية أحياناً)، فأصرّوا على حشري عند رئيس القسم، الأستاذ المشهور جداً (صاحب المحاضراتِ السرديّة عالية المستوى)، فكان أن نلتُ منه (علقةً ساخنة)، تبعاً لما نُقِل إليه، دون أن يستبينَ مني! ومع ذلك انتهت الأمور (بتهديد صوتي)، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
أتذكّر أنني عانيتُ كثيراً في فهم الأصوات القلبية، وتذكّرتُ عبارةً شهيرة قالها أستاذنا المخضرم ابن بلودان (موسى رزق) وهي أنّ (الأذن حمارة) العفوَ منكم، لأنها تحتاج إلى وقت طويل حتى تدركَ ما تسمع. ربما كان ذلك صحيحاً في أصوات القلب، ولهذا اشتريت شريط (كاسيت) أميركياً يشرحُ تلك الأصوات، ورحتُ أسمعه مراراً، مستخدماً كل قدرات التخيّل حتى ترسخ في ذاكرتي، ومع ذلك بقيت ألحظ اختلاف الأطباء الأكبر على صوتٍ سمعوه، حتى تأتي أذنٌ خبيرة لأستاذ كبير جادّ الملامح جداً لا يعرف الابتسام، تفصل بين هذا الصوت أو ذاك أمام حشد من الأطباء والطلاب، ليقولَ كلمته ويمشي، فيما يبقى الحشد منتظراً أن يتاحَ له سماع ما سمعه الأستاذ. كان ذلك مهماً جداً قبل تقدّم وسائط التشخيص القلبي التي كادت تشخّص علل وحدَها القلب دون أن تهلك الأذن في تفسير الأصوات.
أما بخصوص الأصوات الصدرية عند الكبار، فقد كانت أحجية، وكان الإمساك بسمّاعة الطبيب مثيراً للقلق الحقيقي عند الطلاب المبتدئين. أصوات الصدر كثيرة ما بين خراخر ناعمة وخشنة وموسيقية لن أوجع رأسكم بها. كنت طالباً في السنة الرابعة عام 1982. وقتها شاع أمر أستاذ جليل كبير السنّ نشيط (لا يلبس الصوف حتى في برد الشتاء)، يحضر يوماً كل أسبوع، ليعطي دروسه العملية الرائعة في أمراض الصدر. كان يشرح بطريقة ساحرة، وأرسم وراءه على دفترٍ اعتنيتُ به كثيراً، وما زلت حزيناً على ضياعه (سرقته؟). كان ذلك هو الأستاذ الدكتور بشير العظمة رحمه الله (1911-1992)، الذي لم أعلم شيئاً عنه وقتها (وهو أنه كان وزير صحة في عهد الوحدة، ورئيس الحكومة السورية في عهد ناظم القدسي 1962، ومؤلف كتاب (جيل الهزيمة).
ومع ذلك بقيت حائراً في أمر تلك الأصوات عند الأطفال ذوي الصدور الصغيرة التي سرعان ما تتعب، فكان مستشفى الأطفال الجامعي (الذي سأقضي فيه لاحقاً سنواتٍ تشكل محور حياتي) ملجئي.
وهنا لا بد من التأكيد على أنّ المعطاء معطاء، والشحيح شحيح، هكذا يولد البشر، ويظلون على ما فُطروا عليه. وقد وجدتُ في مستشفى الأطفال الكثير من العطف والمساعدة وقليلاً من الجفاء، فواظبتُ حتى تخرّجت طبيباً عاماً، ثم طبيباً مختصاً بأمراض الأطفال.. وما زلتُ أتعلم جديداً كل يوم بعد مرور عقود على تخرّجي.
أتذكّر كل ذلك اليوم في الذكرى الأربعين لدخولي إلى مستشفى الأطفال من أجل الاختصاص، موجهاً التحية القلبية الخالصة إلى كل من علّمني حرفاً، وإلى كل زميل مخلص في مهنته أينما كان، وأخص أولئك الذين يضحون بوقتهم ووقت أهليهم وربما بأنفسهم وهم يقدمون للناس خير ما عندهم بكل تفان وإخلاص، رغم صعوبة الظروف وقسوتها.
العين في 20 تشرين الأول 2024