جان بول سارتر
د. الياس ميشال الشويري
جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي والكاتب الوجودي، عُرف بتحليله العميق للمجتمع، والسياسة، والحروب. تعكس مقولته “يبدأ الحرب الأغنياء ويموت فيها الفقراء” الحقيقة المؤلمة للحروب والصراعات التي غالبًا ما تكون محركها مصالح النخب السياسية والاقتصادية، في حين أن العبء الأكبر من الخسائر تحملّه الطبقات الأكثر ضعفًا في المجتمع، أي الفقراء. في هذا البحث، سنحلل هذه المقولة ونسلط الضوء على كيفية انعكاسها على الواقع اللبناني الحالي، الذي يرزح تحت ثقل الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تفاقمت نتيجة لتاريخ طويل من النزاعات.
1-تحليل المقولة.
–دور النخب في إشعال الحروب. تشير مقولة سارتر إلى أن النخب الحاكمة، والتي غالبًا ما تكون من الطبقات الغنية والمستفيدة من الوضع القائم، هي التي تقرّر الدخول في الحروب، سواء لتحقيق مصالح اقتصادية، سياسية، أو سلطوية. هؤلاء الأغنياء غالبًا ما يكونون في مواقع صنع القرار، ولا يتحمّلون العواقب المادية أو الإنسانية التي تترتب على الحروب. بالنسبة لهم، الحرب وسيلة لتحقيق أهدافهم، ولكنهم نادرًا ما يتأثرون بشكل مباشر بنتائجها.
-الفقراء كوقود للحرب. على الجانب الآخر، يتحملّ الفقراء العبء الأكبر في الحروب. فهم الجنود الذين يُرسلون إلى جبهات القتال، وهم الذين يُفقدون حياتهم أو يعانون من الإصابات الجسدية والنفسية. كما أنهم الأكثر تأثرًا بالدمار الذي تتركه الحروب، سواء في شكل تدمير البنية التحتية، أو نقص في الخدمات الأساسية، أو انهيار الاقتصاد. الفقراء أيضًا هم من يعانون من غياب العدالة الاجتماعية التي تتفاقم في ظل الحروب.
–الحروب كأداة لتكريس الفوارق الاجتماعية. تُعد الحروب أداة لتكريس الفوارق الاجتماعية. فبينما تتزايد أرباح الأثرياء خلال الحروب من خلال العقود العسكرية أو الاستثمارات في الصناعات الحربية، يتدهور الوضع المعيشي للفقراء. الحرب تساهم في تعزيز اللامساواة، حيث يُحرم الفقراء من أبسط حقوقهم في الحياة الكريمة بسبب الأزمات الاقتصادية الناجمة عن النزاعات.
2- لبنان: واقع الحرب واللامساواة.
لبنان هو مثال حيّ لمقولة سارتر، حيث شهد على مدار تاريخه الحديث العديد من النزاعات والحروب التي تحمّل الفقراء أعباءها. من الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) إلى الصراعات الطائفية المستمرة، عاش اللبنانيون في ظل ظروف صعبة أدت إلى تفاقم الفقر واللامساواة.
–النخب السياسية واستغلال الصراع. في لبنان، تسيطر النخب السياسية والاقتصادية (الفاسدة بامتياز) على مفاصل السلطة. هذه النخب غالبًا ما تكون مسؤولة عن إشعال الصراعات، سواء من خلال تأجيج الانقسامات الطائفية أو استخدام الخطاب السياسي المتطرف لخدمة مصالحهم الشخصية. على مدار عقود، لم تتغير طبيعة هذه النخب بشكل جذري، واستمرت في الاحتفاظ بمواقعها بفضل الهيمنة السياسية والاقتصادية.
–الفقراء كضحايا. الفقراء في لبنان هم الضحايا الحقيقيون لهذه الصراعات. الجنود الذين يتمّ تجنيدهم من الطبقات الشعبية، والأُسر التي تفقد أبناءها في النزاعات، والعمال الذين يعانون من تدهور الأوضاع الاقتصادية، كلها أمثلة على التأثير المدمّر للحرب على الفقراء. هؤلاء الفقراء هم الذين يعيشون في المناطق الأكثر تضررًا من الصراع، ويعانون من نقص في الخدمات الأساسية مثل التعليم، والرعاية الصحية، والكهرباء.
–الأزمات الاقتصادية وتفاقم الفقر. اليوم، يعاني لبنان من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تفاقمت بسبب عقود من الفساد والحروب. النخب السياسية في البلاد مسؤولة بشكل كبير عن هذه الأزمة، حيث فشلت في تحقيق إصلاحات اقتصادية جذرية، وبدلاً من ذلك استمرت في تأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية. وفي الوقت نفسه، يعاني الفقراء من انهيار العملة المحلية، وارتفاع نسب البطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة.
–الفساد والتفاوت الطبقي. تُعتبر النخب السياسية والاقتصادية اللبنانية مثالًا واضحًا على الاستفادة من الصراعات وتجاهل الفئات المهمشة. تُكرس ممارسات الفساد والمحسوبية هذا التفاوت الطبقي، حيث تحتفظ النخب بمواقعها المالية والسياسية، في حين يعيش الفقراء في دوامة من الأزمات الإنسانية. بدلاً من توفير فرص للتنمية أو العمل على تخفيف الفقر، تُستخدم موارد البلاد لمصلحة فئة قليلة على حساب الأكثرية.
3- الحلول الممكنة: نحو نظام أكثر عدالة.
لتجاوز هذه الحلقة المفرغة من النزاعات واللامساواة، يحتاج لبنان إلى إعادة هيكلة شاملة لنظامه السياسي والاقتصادي، مع التركيز على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. يجب أن يتضّمن ذلك خطوات جادة لمكافحة الفساد، وتقليص تأثير النخب السياسية والاقتصادية، والعمل على تحسين الظروف المعيشية للفقراء.
–تعزيز الشفافية ومحاربة الفساد. يُعد الفساد من أبرز أسباب الفقر وتفاقم الأزمات في لبنان. لذلك، يجب العمل على تعزيز الشفافية في المؤسسات الحكومية، وتفعيل دور القضاء المستقل في محاسبة المسؤولين الفاسدين. هذا يتطلب إرادة سياسية جادة ودعمًا شعبيًا للضغط من أجل الإصلاح.
–إعادة توجيه الموارد نحو التنمية. بدلاً من توجيه الموارد نحو دعم النزاعات أو خدمة مصالح النخب، يجب أن تُخصص هذه الموارد لتحقيق التنمية المستدامة. يمكن أن يكون الاستثمار في التعليم، الصحة، والبنية التحتية وسيلة لتحسين حياة الفقراء وخلق فرص عمل جديدة تساهم في تقليل الفقر.
–تعزيز العدالة الاجتماعية. من الضروري العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية في لبنان من خلال سياسات تعزز المساواة في الفرص والحقوق. يشمل ذلك تحسين الوصول إلى الخدمات الأساسية، وضمان حقوق العمال، وتوفير برامج دعم للفئات الأكثر ضعفًا، بما في ذلك الأسر التي تأثرت بالحروب.
4- الخاتمة
مقولة جان بول سارتر “يبدأ الحرب الأغنياء ويموت فيها الفقراء” تلقي الضوء على الحقيقة القاسية للصراعات التي تكرّس اللامساواة وتدمّر المجتمعات. لبنان، الذي عانى ويعاني من نزاعات متعددة، هو مثال حي على هذه الديناميكية. فبينما تستفيد النخب من الصراعات وتستمّر في حماية مصالحها، يتحمّل الفقراء العبء الأكبر من الدمار والأزمات. للخروج من هذه الحلقة المفرغة، يحتاج لبنان إلى تغيير جذري في نظامه السياسي والاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة لجميع فئاته.