لوحة تمثل طريقة دراسة كاتب الموضوع
د. غالب خلايلي
أعرجُ اليوم في الجزء الثالث من الذكريات على طعام مستشفى الأطفال الجامعي بدمشق، علّني أفتح شهيّة القراءة عند القرّاء الكرام، ثم على أسلوب الدراسة، والبحث العلمي، ومشاريع ما بعد التخرّج، وأنتهي بنظرة عامة إلى الطب. جدير بالذكر أن ذكرياتي تنسحب على جيل عاصر التجربة ذاتها، وأنها تنتهي في العام 1988، أما الآراء الحديثة بما يخص الطب ومستقبله فلا علاقة لها بوضع الطبّ في سورية العزيزة، وإنما بمجمل البلدان والعالم.
طعام المستشفى وتجربة الإشراف على المطعم:
لستُ مولعاً بجلد النفس، ولهذا أقول بصدق: إن طعام مستشفى الأطفال الجامعي كان من الأرقى والأغنى، ومطبخه ضاهى أحسن الفنادق. نحو ألفٍ ونيف من الوجبات كانت تجهز يومياً للأطباء المقيمين والمرضى، لا بل كان المستشفى يعتني بأمزجة المقيمين، فيقدم لكل منهم شهرياً نصف كيلو من القهوة الفاخرة، ولما لم أكن مولعاً بها، تخلّيت عن نصيبي في السنة الأولى للزملاء، فكانت فرحتُهم عارمة، حتى أدمنتُها في السنة الثانية بعد شهريّ تدريب مُضنيين في دار التوليد الجديدة 1986، لشدّة العمل فيها (ولادات كثيرة، وقيصريات طيلة الليل!) وللوحدة (ما من طبيب أطفال غيري، إلا ما ندر) ولصعوبة تدبير أمور الطعام وقتها (على المقيم أن يتدبّر الطبخ وحده، بزادٍ يومي من اللحم المفروم والبيض، يمكن قليُه في مخزن ملاصق، إذ لم يكن المطبخ جاهزاً، وعندما راجعتُ رئيس الدار الأستاذ م ك لعدة شؤون منها الطعام، علّل لي الأمر بصعوبة إيجاد “عشّي Chef” بالراتب المطروح، وما وجد لي حلاً سوى أن يأتي لي بالطعام من بيته!). وقد أخبرني زملاء عن مطعم في المستشفى القديم الملاصق (مستشفى الغرباء الشهير)، لكن الوصول إليه صعبٌ ووعرٌ باجتياز حديقة مهملة مسوّرة، فما عرفت إليه الطريق، مع انشغالي، ولو مرّة.
تجربة مهمّة لي لا بد أن أشير إليها وهي أنني صرتُ مشرفَ التغذية والمطبخ طيلة السنة الثانية 1986 في مستشفى الأطفال، وقد كانت سهلة نوعاً ما بخصوص أطفالنا المرضى، لأنها مدروسة ومتوازنة، والأطفال لا يشتكون، أما وجه الصعوبة فالأطباء أنفسهم. لقد وضعتُ لهم برنامجاً غنياً نصفَ شهري لثلاث وجبات يومياً (لا تتكرّر معظم الوجبات إلا كل أسبوعين، خلاف المألوف وهو الأسبوع)، وذلك حقّاً صعب، ناهيك عن الفواكه الموسمية رغم شحّها في السوق أيام الحصار الظالمة، ومع ذلك كان هناك من يشتكي ولا يعجبه العجب، لأصلَ إلى النتيجة المتوقعة: “إرضاء الناس، ولو ببذل صادق الجهد، غاية لا تدرك”.
ولأن ليل المستشفى طويل، وعدد الساهرين فيه كبير، ومنهم من لا يذهب إلى بيته، خاصة من كان أهله في محافظات بعيدة، كان الزملاء ينتدبون طبيباً يملك سيّارة ليجلبَ من “بوز الجدي” الشهير قِدْر فولٍ بالزيت، فإذا هو وجبة كبرى يقبل عليها الجميع بشهيّة، وفي ليالٍ أخرى يبدأ تسخين وجبات اصطلح عليها اسم (وجبة X)، يتركها جانباً زميلٌ لليل، كيلا تعاد إلى المطبخ، لتبدأ حفلة عشاء شهيّ.. ألا ما أجمل تلك الأيام الغنية التي لم يكن يحاسب فيها أحد على عدد السعرات الحرارية، وما يجب أن يأكل المرء أو لا يأكل.

دراسة كيفيّة حرّة..
من خلال العمل المضني، على المقيم أن يدرسَ ويطّلعَ على خفايا العلم، فهو لم يعد ذلك الطالب الذي تُقدِّم له والدته إبريق الشاي الخمير مع شطائر الجبن الساخنة وهو يتأمل كتبه الجاهزة (وما كنتُ من هذا النوع، فقد كانت المرحومة والدتي مسافرةً مع نصف العائلة طيلة سنوات الطبّ والاختصاص)، بل عليه أن يغوصَ في أمّهات الكتب حتى يحصلَ على دُررِها. كنتُ أنا من النوع الأخير، إذ لم يكن لدينا كتابٌ مقرّر، بل كان طبّ الأطفال كلُّه كتاباً مفتوحاً مرجعُه الملك كتاب Nelson الشهير (عديل كتاب Harrison في الطب الباطني)، الذي اصطلح عليه اسم (إنجيل طب الأطفال)، وإن لم يكن سهلاً هضمُه وامتثاله كاملاً خلال سنوات ثلاث. كان الكتاب يتجدّد كل أربع سنوات، ووقتها لم يملك أيّ منا النسخة الجديدة، فثمن النسخة يكاد يعادل معاش أحدنا الشهري، لذا كان الحلّ بتصوير جماعي له، ولغيره من المراجع، وقد انتعشت سوقه أيامنا (إذ لم يكن الحاسوب ولا الشبكة العنكبوتية معروفَيْن) ليأتي سميكاً ثقيلا في أجزاء، لكنه يفي بالأمر، مع التأكيد على أن دراستنا كلّها باللغة العربية الغنية، التي يصعب على كثيرين أن يستوعبوا غناها، وهم لم يحرّكوا ساكناً، كيف وهم لا يؤمنون حتى بأنفسهم؟!
كانت مكتبة المستشفى الغنية بالكتب والرسائل الجامعية موئلي، إذ لم أقتنع في الموضوعات المهمة إلا بقراءة مصادر أوسعَ وتلخيصها، عربيةً وإنجليزية، وكأنني بصدد إصدار موسوعة لا عبور جسر. أتذكر أن عددا من زملائنا الأكبر قيد التخرج كلفوني بترجمة أبحاث لرسائلهم، ففعلت ذلك بحب. بعض الزملاء اجتهدوا وترجموا مراجع أخرى لدراستهم، وأذكر زميلاً عنيداً لم ينم الليل سنتين وهو يترجم نلسون مالئاً الدفاتر، وكانت حركة الاستعارة قائمةً لنقل المعلومات، فليس كل الأطباء ضالعين بالترجمة.
لكن هل كان ذلك مهمّاً لعبور الامتحانات؟ الحقّ أن سعةَ الاطلاع مهمّة للمعرفة، لكن تبقى للامتحانات العالمية أسرارُها التي لم أدركْها إلا بعد تخرّجي. كان بعض الزملاء يقرؤون كتباً أجنبية لنماذج امتحانات كثيرة، على طريقة الخيارات المتعدّدة MCQs التي لا أستسيغها، لأنها تعتمد على مفاتيح دونها يصعب الحل، لكنها، وإن جلبت علامات عالية، لا يمكن أن تكشف فهم الطالب واطلاعه. كل من جرّب الطريقتين الفرنسية (السردية) والأميركية (الخيارات) في الامتحانات يفهمني. وقد كانت الأخيرة طريقة امتحان البورد العربي (المجلس العربي للاختصاصات الطبية) الناشئ حديثاً دون أدنى رعايةٍ في جهتنا (خلاف دول كالعراق ولبنان)، وكان ذلك سبباً في فشل معظم طلاب الدفعة الأولى رغم كل الخبرة الطبية المنقولة هرمياً.

وفرة.. ومغالاة في الاستقصاءات:
كان مستشفانا يشهد وفرةً في كل شيء، وكان بعض المقيمين يغالون، عن نقص دراية ومتابعة، في الاستقصاءات المخبرية والشعاعية. وفي ذات جلسة علمية (في الطابق الثالث) برئاسة كبير القوم الأستاذ سهيل بدورة، تحمّستُ على صغر مقامي وانتقدت كثرة التحاليل دون توجّه علمي نحو التشخيص أو كما يقال: من الهاء إلى الخاء (من الهيماتوكريت “الرُّسابة” إلى الخزعة). ذلك يشبه اصطياد العصفور بقذيفة مدفع، وكان أن أيّدني رحمه الله، وشرح أهمية الحفاظ على الموارد، تلك التي شحّت كثيراً بعد مرور عام، للحصار الدولي الذي أشرتُ إليه، حتى بات توفير مواد المختبر والأدوية الضرورية أمراً عسيراً بقي لأعوام إلى أن فُرِجت الأزمة، وتطوّر التصنيع الدوائي في سورية في عهد وزير الصحة أستاذنا إياد الشطي.
أمرٌ واحد أحب الإشارة إليه: ليت دراستنا امتدّت إلى أربع سنوات (كما قُرر لاحقا)، وليتنا أقحمنا في تدبير القصور التنفّسي والتنفّس الصناعي بدلاً من إرهاق طبيب التخدير المناوب، وهو أصلا طبيبُ كبار، فوجود مشرفةٍ واحدة بهذا الاختصاص (رحمها الله) لم يكن كافياً. كان طلب غازات الدم الشرياني عقدة كأداء في الليل، فما عدا صعوبة سحب الدم المؤلم من شريان دقيق، علينا مراجعة الطابق السادس من مبنى القلب المفتوح في حرم مستشفى المواساة القريب. على أنني تداركتُ العيب عندما عملتُ في مستشفى العين، إذ كان لا بد من خوض غمار الإنعاش التنفّسي بكل دقائقه عند مواليد لا يتنفّسون لسببٍ أو لآخر.
البحث العلمي.. والحصاد الكبير
كل ما بدأ لا بد أن ينتهي، ومن سار على الدرب وصل. ها هي ذي سنواتٌ غنية ثلاثٌ تنتهي بسرعة البرق بالحدث الأهم: مناقشة البحث العلمي الذي يُجرى عادة في السنة الأخيرة. بذلتُ جهداً استثنائياً في مرض نادر صعبٍ عند الأطفال (الذأب الحمامي SLE)، وكنت أول المناقشين في كانون الثاني 1988، استعداداً لأكون أوّل المسافرين. أعطيت علامة التسعين بحضور جمهور كبير، على رأسه الأستاذ بدورة، وكل الأساتذة والمشرفين (إدوار هواويني، عمر سلّوطة، عيسى الأسمر)، الذين أتذكّرهم اليوم كلّهم بالفضل الكبير. الطريف في الأمر أن النقد الرئيس الذي أطاح بعشر علامات – كما أذكر- كان اللغة!.
واليوم، عندما أنظر خلفاً إلى تلك الرحلة، أجد نفسي راضياً جداً، وأننا كنا بخير رغم التحدّيات الضخمة ونضوب الأدوية في العام الأخير، ومع ذلك جنينا خبرة مهمّة ساعدتنا في النجاح داخل البلد (لمن بقي) وخارجه، ولو نقصنا بعض التلميع. صحيح أن مستشفى الأطفال المتطوّر قائم منذ أعوام طويلة، وأجريتْ فيه مئات الأبحاث، إلا أنّ أياً منها لم يُذكر في المراجع الكبيرة، وتعليل هذا ذكرته في مقالات، والحقيقة أننا أقلّ دقة في أصول البحث، ناهيك عن أن العربيّة غير مقروءة عالمياً، ولهذا ذهب كثير من الجهود سُدى (1، 2).

وجوم السنة الأخيرة
مع دخول النصف الثاني من السنة الأخيرة بدأ التفكير الجدّي عند معظم الزملاء بما بعد التخرّج، فكلّنا نتشابه منشأً ودراسةً، وما في فم أحدِنا ملعقةٌ من ذهب. وأنا (وما أنا إلا من غزيّة..) مثل زملائي كنت أفكّر مليّاً في الآتي، الذي يبدو أنه صعب (هكذا كنا نفكر!)، خاصة أنني ارتبطتُ عاطفياً بخطيبتي (زوجتي لاحقاً) مع ضبابية الرؤية للمستقبل. وكم فوجئتُ، ونحن نكاد نغادر المستشفى أن معظم الزملاء قد أتمّوا مراسلاتهم إلى الجامعات الفرنسية بصمتٍ. اكتشفتُ ذلك صدفةً من أحد الزملاء، فكان أن أعطاني بضعة عنوانات، وأنا الذي لا يعرف كلمة فرنسية مفيدة. كانت “الأم الحنون” تستقبل الأطباء من سورية (والأماكن التي كانت تستعمرها) بصدر ثقافيّ علميّ مفتوح كما يبدو خلافاً لدول أخرى. وكان أن سارعتُ إلى مراسلات بعضها مطبوع، والآخر بخطي دون أن أعرف معناه بدقة، وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما أتت الردود من الأساتذة الفرنسيين، أسرعَ حتى ممن أخفَوا مراسلاتِهم! والمميز في الأمر أن الأستاذ الذي راسلته برسالة مطبوعة ردّ بمثلها، ومن راسلته بخط اليد كتب لي بخط يده! يا له من احترام نادر!. كانت إحدى الرسائل فاتحةً للحصول على شهادتي وجواز سفر، وشاء القدر ألا أسافر إلى فرنسا، بل إلى النرويج ثم إلى الخليج.

طبّ الأطفال.. جميل وعظيم:
الطبّ بكل اختصاصاته مهنة حيوية جداً، وصعبةٌ بل ذات مخاطر، لكنها جميلة بإنسانيتها، وتتوقف على قرارات الأطباء مصائر بشر وأرواح عباد، ولهذا فإن جودة التعلّم والتدريب وحُسن الخُلُق أمور مهمّة لا يمكن التهاون بها. جرّاح الأعصاب يستأصل الورم الضاغط في الدماغ، ويتداخل على النزوف داخل القحف فيُكتب للمريض عمر جديد. والجراح العام يستأصل الزائدة الملتهبة قبل أن تنفجر في البطن، أو يكتشف مبكرا سرطاناً مما يُكسب سنواتٍ وحياة لعائل وعائلة. وطبيب القلب يقثطر الشرايين المتضيقة أو المسدودة قبل أن تضعف عضلة القلب أو تتوقف عن النبض، فيحيا هذا المدرس حياة طبيعية ويجزل العطاء. وطبيب التشريح المرضي يكتب تقرير العمر مؤكّداً أو نافياً السرطان، وخطؤه قد يقضي على المريض. وطبيب العيون قد يسبّب العمى الأبدي إن لم يكتشف الزّرَق أو أخطأ الدواء. وعلى تقرير طبيب الأشعة قد تتوقف حياة إنسان.
وطب الأطفال، الذي يجهل قيمته كثيرون لا يشذّ أبداً عن هذه القاعدة، إن لم يكن الأخطر، بسبب التعامل مع أجسام ناعمة لا يتجاوز وزن الواحد منها أحياناً 600 غ (مولود فائق الخداج)، ومع كائنات لا تتكلم، ومن هنا أهمية استجواب الأهل، الذين يعرفون أو لا يعرفون شيئا أحياناً تاركين المهمة للخدم مثلا. لقد لفت نظري وأنا طالب طب أن أساتذة الأطفال كانوا من الأقوى شخصيّة والأشدّ مراساً بين الأساتذة، حتى يصعب تصوّر أن هؤلاء الرجال الأشداء هم من يعالجون تلك الغرامات البسيطة من اللحم الطري. لا بد أن هناك اختلافاً بين ممارسة الطب وتدريس الطلاب.
طب الأطفال جميل مع كائنات بريئة نقية شفافة تحتاج إلى التفهم والمساعدة، ومن أكثر من طبيب الأطفال الحنون المتفهّم قدرةً على ذلك، لا ينغّص عمله سوى أهل قد ينكرون قيمة “حبة الأسبرين” الصغيرة التي يصل إليها بعد كفاح، فيستسهلها الأهل عندما تعطى بأمانة دون لف أو دوران. وفي طب الأطفال الوزن والآلة الحاسبة مهمان جدا. يكتسب الطبيب مع الأيام خبرة تغنيه عن مراجعة الأرقام التي حفظها عن ظهر قلب. ولنذكر أن ليست كل الأعمال تنجز بالمشارط، فارتفاع إحدى الشوارد (صوديوم، بوتاسيوم..) أو هبوطها قاتل، مثلما التجفاف والحُماض الشديدان وفرط السكر. إن التعامل مع هذه القضايا يتطلّب كل الحكمة والمعرفة والصبر في عمل أوركسترالي يقوده الطبيب (المايسترو) مع فريقه الطبي والتمريضي. يبذل أطباء الأطفال جهوداً كبيرة وهم يفكرون بهذه الحالة أو تلك، وعدد كبير منهم يُظلم بسبب عدم تقدير جهودهم، واستصغار شأن الأطفال، لذا نرى كثيرين يفرّون من هذا الاختصاص.
أمام صراخ مفزع لرضيع صغير، وما أكثر ما يصرخ الأطفال، يقف جيشٌ كامل عاجزاً عن التصرّف في بحر التشاخيص والتدابير، فيما يبحر طبيب الأطفال الحكيم بسفينته العامرة أو حتى بقاربه البسيط ليصل بمريضه إلى شط الأمان.
لا بد أن نذكر أن الطب ليس رحلة آمنةً دوماً، فالأطباء يتعرضون لضغوط نفسية شديدة تؤثر على حياتهم وأسرهم، كما قد يتعرضون لاستجوابات قضائية بحق أو بغيره قد تقضي على مستقبلهم، ناهيك عن تعرضهم لأمراض مهنية (التأثر بالأشعّة والتسرطن، والتأثر بالمواد الكيماوية كالفورمول وغيره، والعدوى الجرثومية بالدرن والتيفوئيد، والحُمَويّة Viral كالتهاب الكبد، والإيدز..).
رسالتي إلى باقي الزملاء في الاختصاصات المختلفة أن ينيروا لنا ظلمات اختصاصاتهم، فلا بد أن لديهم قصصاً بطولية في فروع التخدير مثلاً، والجراحة، والعيون، والتشريح المرضي، والأشعة، والمختبرات، وجراحة الفك والأسنان… هي قصص الحياة التي عشناها أو سوف نعيشها في ذات يوم.
أحببتُ الطب.. وأرجو أن تكتمل السعادة:
في كتابه (جراحة القلب) المطبوع عام 1982 والموجّه إلى طلاب الطب كتب رائد جراحة القلب الأستاذ الدكتور سامي القباني (1937-2017) في صفحة الإهداء ما معناه: “إلى طلاب الطب في سورية الذين عليهم أن يعانوا الكثير من أجل الحصول على القليل”. كانت آمال الأستاذ وتطلّعاته حسب الأماكن التي درس بها (الجامعة الأميركية في بيروت، ثم أميركا) عالية، وبلادنا (التي تعاني وجوارها ما تعانيه) قلّما عرفت الهدوء منذ قديم الزمان، ومع ذلك يمكننا أن نلاحظ أن الأستاذ قباني أحبّ وطنه سورية والتزم به كل حياته، وقدّم له خير ما عنده، ناهيك عن إبداعه باللغة العربية طباً وأدباً، وهو الدارس للطب باللغة الإنجليزية. هذا وحده كان فخراً لنا أن ندرس الطب في جامعة دمشق العريقة، مع القباني ومع أساتذة عظام آخرين يشبهونه، وبالمجّان. أطباؤنا المبدعون ملؤوا العالم، ولم يتكلّف أحدٌ منهم إلا أقل القليل، فيما تكلّف دراسة الطب اليوم أرقاما فلكية في العالم، حتى باتت المسألة نكداً (وربما عائقاً) لمن لا يملك، واستثماراً لمن يملك، أكثر من كونها مهنة إنسانية، مما يتطلّب لاحقاً تعويض (الخسائر). هذا عين ما يسبّب القلق في مهنتنا الإنسانية التي تحوّلت بالتدريج إلى مادّية بحتة، في طمع كبير من قبل بعض المؤسسات العلاجية، يتماشى والطمع العام في كل مجال. أخلاق العالم في تراجع مع الأسف.
لقد أنفقتُ أوقاتاً طويلة وأنا أكتب عن مثالب الطب والحياة عموماً، وأنا أشهد التراجع الأخلاقي الكبير في مهنتنا وغير مهن (3 و4). لقد بتنا نحن الأطباء عبيد المادة والتقنية وشركات الأدوية والتأمين وأرباب العمل، وما عاد أكثرنا الرقم واحد أو الرقم الصعب، إلا بشقّ النفس والتضحية، حتى بتّ أشك أن خدمات الطب في وقت قريب، لن يحظى بها سوى المنعّمين.
رحم الله أياماً لم يكن يخشى المريض فيها أن يزور أي طبيب، لا لخوفٍ مادي ولا معنوي. كان الأطباء والعالم كله أرحم. اليوم يشك المرء حتى المقتدر في أنه سوف يُخدع أو يجرى له ما لا يلزم. لقد انتشرت العدوى المادية من العالم الأول إلى معظم البلدان، فرأى بعض الزملاء المرضى وبطاقاتهم التأمينية أبقاراً حلوبة لا بد من تصفيتها حتى آخر نقطة، وكم من أناس باعوا أملاكهم في سبيل علاج مرض صعب.
وأنا أرى اليوم الأطباء الجدد وملابسهم غير المناسبة وأخلاقياتهم المتواضعة (وهناك من يقتدون به مع الأسف) أتذكّر نظرات الأستاذ عنبري وخطابه القاسي بمحبّة خالصة، وأقول: ألا ليت الشباب يعود… وتفزعني فكرة أن هؤلاء سوف يعالجوننا ويعالجون الأجيال المقبلة.
ومع ذلك لا أفقد الأمل، فبذور الخير والحضارة العريقة مطمورة فينا، ولا بد أنها سوف تنتش وتنمو وتزهر ذات يوم، مع كل الاحترام والتقدير لكل زميلٍ يحترم مهنته ومريضه، في أقسى الظروف التي لا تغيب عن ناظر أحد منا.
هوامش:
- عودة الى العام 1988من البحث عن عمل إلى البحث العلمي 27 آذار 2024 http://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-year-1988-memories/
- كتبتُ رأيي هذا في المجلة الطبية العربية التي كان المرحوم أ.د. عدنان تكريتي رئيساً لتحريرها من عام 1963 إلى عام 2000، وذلك في العدد 120 (أيلول 1993).
- غالب خلايلي يروي معاناة جيل الأطباء السابق مع “غزوة” التكنولوجيا: لقد جرّدونا من أسلحتنا! 13 10 2022 http://taminwamasaref.com/ghaleb-khalayli-2022-2/
- الأغنياء يسرقون الفقراء والدواء نموذجا صارخاً 25 09 2023 http://taminwamasaref.com/indias-generic-medicines-benefit-millions-of-poor-people-worldwide/