ثمة أصابع إتهام موجّهة لمصرف لبنان في ما خصّ البيانات
د. الياس ميشال الشويري
في لبنان، يُعَدُّ الكذب والرياء من السمات المترسّخة في الثقافة السياسية والاجتماعية، حيث أصبحا من الأدوات الأساسية التي يعتمد عليها الأفراد والجماعات للهروب من المسؤولية وتحقيق المكاسب الشخصية والمصلحية. هذا السلوك ليس محصورًا في الطبقة السياسية فحسب، بل يشمل مؤسسات الدولة، القطاع الاقتصادي، وحتى الحياة الاجتماعية. من خلال هذه الأدوات، يتمّ التلاعب بالحقائق وتشويه الواقع، مما يساهم في تعميق الأزمات الاقتصادية والسياسية، ويؤدي إلى تفكّك القيم المجتمعية.
1- الكذب والرياء في السياسة اللبنانية.
- الخداع السياسي وفشل القيادة. منذ عقود، تتسم السياسة اللبنانية بالخداع السياسي حيث يُستخدم الكذب للتلاعب بالجماهير. السياسيون غالبًا ما يقدمون وعودًا كبيرة لتحقيق مكاسب انتخابية دون أن تكون لديهم النية الفعلية لتحقيقها. هذا الأسلوب السياسي يعتمد على تقديم روايات زائفة حول السياسات الحكومية، مثل مكافحة الفساد أو تحسين الخدمات العامة، فيما تكون الحقيقة عكس ذلك. على سبيل المثال، غالبًا ما يُعِدّ السياسيون خططًا “إصلاحية” لا تُطبق أبدًا، في حين يتم الاستمرار في السياسات التي تُديم الفساد والمحسوبية.
- الرياء في توزيع السلطة والمحاصصة. يُعد الرياء أيضًا عنصرًا أساسيًا في نظام المحاصصة الطائفي الذي يحكم لبنان. على الرغم من أن هذا النظام يروج لمبدأ التوازن بين الطوائف، إلا أن الواقع هو أن توزيع المناصب يعتمد على الرياء السياسي بين قادة الطوائف. يتظاهر هؤلاء القادة بالاهتمام بمصالح طوائفهم، بينما هم في الحقيقة يعملون لتعزيز مواقعهم الشخصية ومصالحهم المادية. الرياء يظهر في كل مرة يتم فيها إبرام صفقات سياسية خلف الأبواب المغلقة، في حين يتم الترويج لهذه الصفقات على أنها تصب في مصلحة الشعب.
2- الكذب والرياء في الاقتصاد اللبناني.
- التلاعب بالأرقام المالية. الكذب المالي هو جزء أساسي من إدارة الاقتصاد في لبنان. المؤسسات الحكومية تقوم بتقديم تقارير زائفة عن وضع الاقتصاد، مما يؤدي إلى خلق وَهْم زائف حول استقرار الاقتصاد الوطني. على سبيل المثال، قبل انهيار النظام المصرفي في العام 2019، كانت البنوك والحكومة تقدّم تقارير مضللة حول سلامة القطاع المصرفي، في حين كانت الأموال تُنهب والمودعون يفقدون ثرواتهم. هذا التلاعب بالأرقام يُستخدم للتهرب من الاعتراف بالحقيقة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها البلد.
- الرياء في إدارة المؤسسات العامة. المؤسسات العامة في لبنان تُدار بشكل يسيطر عليه الرياء والفساد. المسؤولون يظهرون في وسائل الإعلام ويتحدثون عن خطط إصلاحية لتحسين أداء هذه المؤسسات، بينما في الواقع تستمر هذه المؤسسات في العمل بطرق غير فعالة وتكون مرتعًا للمحسوبية والفساد. يتم تعيين أشخاص غير مؤهلين في مناصب مهمة بناءً على الولاء السياسي أو الطائفي، وليس على أساس الكفاءة، مما يؤدي إلى تدني مستوى الخدمات العامة.
3- الكذب والرياء في العلاقات الاجتماعية اللبنانية.
- الرياء الاجتماعي وأثره على العلاقات. الرياء ليس مقتصرًا على السياسة والاقتصاد، بل يتغلغل في الحياة الاجتماعية اللبنانية أيضًا. يظهر الرياء في العلاقات بين الأفراد، حيث يميل البعض إلى التظاهر بالولاء أو الاحترام، بينما يخفي مشاعر الحسد أو الضغينة. هذه الظاهرة تؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وتخلق جوًا من عدم الثقة بين الأفراد. في المجتمع اللبناني، قد يظهر شخص بمظهر المتدين أو الوطني، بينما هو في الحقيقة يسعى لتحقيق مصالحه الشخصية على حساب الآخرين.
- التهرّب من المسؤولية في المؤسسات التعليمية والدينية. المؤسسات التعليمية والدينية تلعب دورًا كبيرًا في نشر قيم الرياء. في النظام التعليمي، يلجأ البعض إلى الغش أو التحايل للحصول على درجات أو شهادات دون الالتزام الحقيقي بالتعلم. من ناحية أخرى، تلعب المؤسسات الدينية دورًا في تعزيز الرياء الأخلاقي، حيث يتم الترويج لقيم معينة في الخطابات، ولكن التطبيق الفعلي لهذه القيم نادرًا ما يكون موجودًا في الحياة اليومية.
4- نتائج الكذب والرياء على المجتمع اللبناني.
- انهيار الثقة في المؤسسات. الكذب والرياء يؤديان إلى انهيار الثقة في المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء. المواطن اللبناني فقد الثقة في قدرة مؤسسات الدولة على توفير الخدمات الأساسية أو حل الأزمات المستمرة. هذه الأزمة في الثقة تنعكس على جميع جوانب الحياة، من النظام السياسي إلى الاقتصاد، وحتى العلاقات الاجتماعية. يؤدي انهيار الثقة إلى إحباط عام لدى الشعب، مما يُصَعِّب من إمكانية بناء دولة حديثة تعتمد على النزاهة والكفاءة.
- تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية. الكذب المستمر والرياء يؤديان إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان. عدم مواجهة الحقيقة يجعل من المستحيل وضع حلول واقعية للأزمات. على سبيل المثال، التلاعب بالحقائق المتعلقة بالدين العام والاحتياطيات المالية أدى إلى تأخير الإصلاحات الضرورية، مما ساهم في انهيار النظام المصرفي والاقتصاد. كذلك، الرياء السياسي يجعل من الصعب تحقيق الإصلاحات السياسية المطلوبة، حيث يستمر القادة في التظاهر بالعمل من أجل الشعب، بينما يواصلون تقوية شبكات المحسوبية.
- تدهور القيم الأخلاقية. الكذب والرياء يؤثران على القيم الأخلاقية للمجتمع اللبناني. عندما يصبح الكذب سلوكًا مقبولًا وممارسة شائعة، تتفكك القيم التقليدية مثل الصدق والنزاهة. هذه التغيرات القيمية تُضعف الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية، وتُشجع على المزيد من الانتهازية والفساد. الأجيال الشابة التي تنشأ في مجتمع يعتمد على الرياء، قد تتبنى هذه القيم الضارة، مما يُعقد إمكانية إصلاح المجتمع على المدى البعيد.
5- مواجهة الكذب والرياء في لبنان.
- تعزيز الشفافية والمساءلة. من الضروري تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مؤسسات الدولة اللبنانية، حيث يجب على الحكومة أن تتبنى سياسات توفر المعلومات الحقيقية والدقيقة للجمهور. يجب أن يتم تطبيق قوانين صارمة تحاسب المسؤولين عن الكذب أو التلاعب بالحقائق، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي. كما يجب تعزيز دور القضاء المستقل لضمان محاسبة المذنبين بشكل عادل وشفاف.
- تمكين المجتمع المدني والإعلام المستقل. مؤسسات المجتمع المدني والإعلام المستقل يجب أن تكون في مقدمة الجهود الرامية إلى كشف الكذب والرياء في لبنان. هذه المؤسسات يجب أن تحظى بالدعم والحماية اللازمة لتكون قادرة على مراقبة أداء الحكومة والمؤسسات الأخرى وكشف التلاعب بالحقائق. الإعلام الحر يُعد أداة قوية في مواجهة الرياء السياسي والاقتصادي، من خلال تقديم تقارير وتحقيقات موضوعية تسلط الضوء على الواقع الفعلي.
- إصلاح النظام التعليمي. النظام التعليمي يجب أن يلعب دورًا في نشر قيم النزاهة والصدق بين الأجيال الجديدة. يجب تحديث المناهج التعليمية لتشمل مواد تُعزز من أخلاقيات المسؤولية الفردية والاجتماعية. كما يجب تشجيع الطلاب على التفكير النقدي والتحليلي لمواجهة التحديات والمشكلات بدلاً من التهرب منها بالكذب.
6- الخاتمة.
في لبنان، الكذب والرياء ليسا مجرد ممارسات عرضية، بل هما جزء لا يتجزأ من بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذه الأدوات تُستخدم لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، لكنها تؤدي في النهاية إلى تفكك المجتمع وتعميق الأزمات. لذلك، يجب اتخاذ خطوات حاسمة لتعزيز الشفافية والمساءلة، وتطوير الوعي المجتمعي حول أهمية الصدق وتحمل المسؤولية. بناء مستقبل أفضل للبنان يتطلب مواجهة هذه الظواهر بشكل جذري من خلال إصلاحات شاملة تعيد بناء الثقة وتعزز من النزاهة والكفاءة في جميع جوانب الحياة.