سيكار ودولارات وفساد
د. الياس ميشال الشويري
تُعد الألقاب الرسمية والشرَفيّة جزءًا محوريًا من المشهد السياسي والاجتماعي في لبنان، حيث تُمنح لأصحاب المناصب العليا لإضفاء هالة من الهيبة والمكانة على دورهم في إدارة شؤون البلاد. غير أن هذه الألقاب، التي من المفترض أن تعكس كفاءة ومقدرة أصحابها، قد باتت على مدار السنين رموزًا فارغة، تنفصل غالبًا عن الأداء العملي والقدرة الحقيقية على معالجة الأزمات. فقد عانى لبنان من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متعاقبة، بينما بقي دور حاملي الألقاب محصورًا في دائرة النفوذ والمحسوبية دون تقديم حلول جذرية للمشكلات التي تواجه المواطنين.
في هذا المقال، نتناول تأثير الألقاب في النظام الطائفي اللبناني ومدى انعكاسها على الأداء السياسي، وعلاقتها المتشابكة مع الفساد والمحسوبية، والتي أدت إلى تآكل ثقة المواطنين بالمؤسسات الرسمية. سنسلط الضوء على كيفية تقييد النظام الطائفي لقدرة حاملي الألقاب على إحداث تغيير حقيقي، ودور الألقاب في تعزيز الهيمنة الطائفية على حساب الكفاءة. وختامًا، نطرح الحاجة إلى إعادة النظر في هذه الرموز ودورها الحقيقي، بغية الوصول إلى نظام يقوم على الكفاءة والمساءلة، بما يساهم في تحقيق مستقبل أفضل للبنان.
1- الألقاب والرمزية في النظام الطائفي اللبناني.
يعتبر النظام الطائفي في لبنان حجر الأساس الذي يُبنى عليه التوزيع السياسي والاجتماعي في الدولة، حيث يترجم ذلك إلى توزيع للسلطة وفق ألقاب رفيعة لكل طائفة. فمثلاً، يُطلق على رئيس الجمهورية لقب “فخامة”، في حين يُمنح رئيس الوزراء لقب “دولة”، وأعضاء الحكومة لقب “معالي”. هذه الألقاب تعبر عن مكانة الشخص، ليس فقط بوصفه ممثلاً للدولة، بل كرمز للطائفة التي ينتمي إليها، وهي أداة تعزز شرعية الفرد داخل طائفته.
غير أن التوازن الطائفي، بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية أو تحفيز التعاون، غالبًا ما يؤدي إلى تقسيم الولاءات، إذ ينظر المواطنون إلى السياسيين على أنهم “زعماء طوائف” بدلًا من قادة دولة، ما يعزز الانقسام بين المجموعات الدينية والطائفية. ومع تصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية، باتت الألقاب رمزًا للجمود بدلًا من التغيير، إذ يبدو أن حاملي هذه الألقاب لا يملكون الإرادة الكافية لتجاوز الانتماءات الطائفية وتحقيق إنجازات تعود بالنفع على الجميع.
2- انفصال الألقاب عن الأداء العملي.
ترافق الألقاب في لبنان نوع من الهيبة، لكنها للأسف لا تُترجم غالبًا إلى نتائج ملموسة. فمع تعاقب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم الفساد، يظهر جليًا أن أصحاب هذه الألقاب لا يقدمون ما يتوافق مع مسؤولياتهم. يُلاحظ أن الأزمات الجوهرية، كأزمة الكهرباء المتفاقمة وندرة المياه وارتفاع نسبة البطالة، ما زالت قائمة رغم وعود حاملي الألقاب بتحسين الأوضاع.
هذا الفشل المستمر يعمق الفجوة بين الشعب والطبقة السياسية، فالألقاب التي كان يُنظر إليها باعتبارها رمزًا للقدرة والكفاءة أصبحت عبئًا ورمزًا للجمود. ما يزيد الوضع سوءًا هو تمسك السياسيين بهذه الألقاب حتى مع عدم تقديمهم حلولًا حقيقية للأزمات، ما يكرس ثقافة الاعتماد على الشكليات بدلًا من النتائج.
3- الألقاب كوسيلة للفساد والمحسوبية.
تُعتبر الألقاب في لبنان أداة تُستخدم للنفوذ والتحكم في السلطة، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الفساد والمحسوبية. السياسيون الذين يحملون ألقابًا رفيعة يكوّنون شبكات نفوذ تُمكنهم من تحقيق مصالحهم الشخصية والفئوية على حساب الصالح العام. وبمرور الوقت، أصبح توظيف الألقاب جزءًا من شبكة محسوبية معقدة تُدعم بالولاءات الطائفية والعائلية بدلًا من الكفاءة.
ظاهرة المحسوبية هذه تزيد من انتشار الفساد المالي والإداري، حيث أن توزيع المناصب لا يعتمد على الكفاءة أو النزاهة، بل على الولاءات السياسية والطائفية. وتعد فضائح الفساد المتتالية وعدم وجود أي محاسبة واضحة دليلاً على ذلك، إذ يُظهر الواقع أن اللقب لا يرتبط بالقدرة على تقديم الفائدة، بل بالقدرة على التحكم بالمصالح وتوسيع دائرة النفوذ، ما ينعكس سلبًا على الاقتصاد وعلى حياة المواطنين اليومية.
4- تآكل ثقة المواطنين بأصحاب الألقاب.
أدى العجز المستمر لأصحاب الألقاب عن معالجة الأزمات إلى فقدان الثقة بين المواطنين والقيادات السياسية. المواطن اللبناني، الذي يعاني من ضغوط معيشية يومية، بدأ يدرك أن الألقاب لا تمثل قيمة في ظل غياب الإنجازات الفعلية. بل أصبح العديد من اللبنانيين ينظرون إلى الألقاب كرموز فارغة، ويرون فيها جزءًا من المشكلة، حيث إنها تعزز النظام القائم على المحسوبية والفساد بدلًا من تحسين الأوضاع الحياتية.
وتعتبر الأزمة الاقتصادية المتصاعدة التي تواجه البلاد مثالًا واضحًا على هذا الأمر. رغم تعاقب الحكومات وتغيير الشخصيات، لم تتحسن الأوضاع، وبقيت المشكلات مستمرة، ما زاد من حدة الاستياء الشعبي وعمّق فجوة الثقة بين الشعب والطبقة الحاكمة.
5- تأثير النظام الطائفي في تقييد الألقاب.
الألقاب تعمل ضمن نظام طائفي معقد يُقيد حركة الإصلاح ويحد من إمكانيات التغيير. إذ تحاول كل طائفة الحفاظ على موقعها داخل النظام السياسي، وهو ما يعوق أي مبادرات تهدف إلى تغيير جذري. الألقاب تصبح بالتالي وسيلة لتوزيع السلطة بين الطوائف بدلًا من أن تكون معبرة عن كفاءة الفرد وقدرته على التغيير.
هذا النظام يتجلّى بوضوح في المناصب الرئاسية والوزارية، حيث يتمّ تحديد الألقاب وتوزيعها وفق توازنات دقيقة، ما يجعل من الصعب على من يتقلّد هذه الألقاب أن يتخذ قرارات قد تزعزع هذا التوازن. على سبيل المثال، رئيس الجمهورية الحامل للقب “فخامة” يواجه قيودًا تمنعه من اتخاذ خطوات جذرية دون أن يُحسَب له حسابات طائفية وسياسية قد تعيق عمله، ما يجعله في كثير من الأحيان أسيرًا لهذه التفاهمات بدلاً من أن يكون قائدًا قادرًا على إحداث تغيير حقيقي.
6- الخاتمة.
الألقاب في لبنان تعكس أحد أوجه النظام الطائفي الذي يعزّز من الفساد والمحسوبية. وعلى الرغم من الهيبة التي تحملها، فإنها تبقى رموزًا خالية من المضمون العملي في غياب الإنجازات الفعلية والعمل الجاد. المواطن اللبناني بات يدرك أن هذه الألقاب لا تعني شيئًا إذا لم يرافقها أداء فعلي ومسؤولية حقيقية، بل إنها تُكرّس نظامًا يفضل الشكليات على الجوهر.
لذلك، يصبح من الضروري إعادة النظر في مفهوم الألقاب وأهميتها، وتجاوز ثقافة الاحتفاء بالرموز الشكلية لصالح نظام يُعلي من شأن الكفاءة والمساءلة. التحوّل نحو مجتمع يعتمد على الكفاءة والإنجازات بدلاً من التفاخر بالألقاب هو السبيل للخروج من الأزمات المتراكمة وبناء مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة في لبنان.