تمثال الشهداء في بيروت
د. الياس ميشال الشويري
الشهادة هي واحدة من المفاهيم الإنسانية التي تطورت عبر العصور، وتداخلت مع العديد من المجالات الحياتية والدينية والسياسية والثقافية. بمرور الوقت، أصبحت الشهادة رمزًا متعدد الأوجه يحمل معاني مختلفة في سياقات متنوّعة، تتراوح بين الدلالة الدينية الروحية والنضال الوطني والسياسي. في عصرنا الحديث، باتت هذه الفكرة أكثر تعقيدًا بفعل التكنولوجيا والإعلام والسياسة، مما أتاح لها تأثيراً أوسع، كما أضاف إليها بُعداً جديداً يتجاوز الأطر التقليدية.
1-البُعد الزمني والجغرافي للشهادة.
عبر التاريخ، ظلّ مفهوم الشهادة حيًّا ومؤثرًا، لكن دلالاته تغيّرت وفقًا للسياقات الزمنية والجغرافية. في العصور القديمة، كانت الشهادة تتعلق غالبًا بالتضحية من أجل المعتقدات الدينية أو الدفاع عن الوطن. نرى هذا في الحضارات الكبرى مثل الحضارة الرومانية، حيث ضحّى العديد من المسيحيين الأوائل بحياتهم في سبيل الحفاظ على إيمانهم، مما جعلهم رموزًا للإخلاص والإيمان. وفي الحضارات الإسلامية، كان مفهوم الشهادة مرتبطاً بالجهاد والدفاع عن الدين والعدالة، حيث يعتقد الشهيد أن مصيره الجنة.
مع مرور الوقت، وظهور حركات التحرّر الوطني في القرنين التاسع عشر والعشرين، تطوّرت الشهادة لتشمل البُعد الوطني والسياسي. في هذه الفترة، ظهر الشهداء كرموز للنضال ضد الاستعمار والاحتلال، مثل شهداء حرب الجزائر أو فلسطين. أصبح “الشهيد” ليس فقط الشخص الذي يدافع عن الدين، بل أيضًا الذي يضحي بحياته في سبيل استقلال بلده أو حريته.
–البُعد الجغرافي للشهادة. مفهوم الشهادة لا يقتصر على ثقافة أو دين واحد. بل نراه ينتقل بين الحضارات والمجتمعات المختلفة. ففي آسيا، نرى الفكرة ذاتها تتكرّر في المجتمعات الهندوسية والبوذية، حيث كان المحاربون الذين يموتون في المعارك يُنظر إليهم على أنهم يجسدون أسمى قيم التضحية والوفاء. حتى في الثقافات الغربية، نجد أن الجنود الذين سقطوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية يُحتفل بهم كـ”شهداء” في سبيل الدفاع عن الحرية والديمقراطية.
هذه التعددية في الفهم تُظهر أن الشهادة هي فكرة كونية تشترك فيها جميع المجتمعات، على الرغم من اختلاف الدوافع والخلفيات.
2- التقاطعات بين الشهادة والدين والسياسة.
في الماضي، كانت الشهادة ترتبط في الغالب بالجانب الديني، حيث كان يُنظر إلى الشهيد كمن يُضحي بحياته من أجل الإيمان أو قضية دينية. ولكن مع تقدّم الزمن وتطور الحركات الوطنية والاشتراكية والقومية، دخلت الشهادة في صلب الحراك السياسي.
في السياق الإسلامي، تحوّلت الشهادة من مجرد تضحية فردية من أجل الإيمان إلى قضية وطنية جامعة، كما نراه في الثورات والحروب. على سبيل المثال، في فلسطين، يُعتبر من يموتون في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي “شهداء” بغض النظر عن انتمائهم الديني، حيث يُحتفى بهم كرموز للمقاومة والصمود. هذا يُظهر كيف تداخلت الشهادة الدينية مع الشهادة السياسية وأصبح من الصعب فصل الجانبين.
–الشهادة في الخطاب السياسي. أصبحت الشهادة جزءًا من الأدبيات السياسية في القرن العشرين. حركات المقاومة والتحرر في أماكن مثل الجزائر، فلسطين، لبنان، وحتى في أمريكا اللاتينية، استغلت فكرة الشهادة لتعزيز مشروعية نضالها. الشهيد هنا لم يكن فقط من يقاتل في المعركة، بل من يتحدى الظلم أو الاحتلال. هذه التوظيفات السياسية للشهادة تبرز مدى التداخل بين الدين والسياسة في تشكيل الهويات الوطنية.
في لبنان، شهداء الحرب الأهلية ومن ماتوا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي أصبحوا رموزًا لتماسك المجتمع، حتى لو كانت هوياتهم الطائفية والسياسية مختلفة. الشهادة هنا تعبر عن تضحية أكبر تتجاوز الفروقات الفردية.
3- تأثير التكنولوجيا ووسائل الإعلام على مفهوم الشهادة.
–دور الإعلام في تشكيل صورة الشهيد. في العصر الحديث، لعب الإعلام دورًا رئيسيًا في تشكيل الوعي الجماعي حول مفهوم الشهادة. مع انتشار التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت صور وأسماء الشهداء جزءًا من الحياة اليومية، تُستخدم في نشرات الأخبار وفي الحملات السياسية والانتخابية، مما أضفى بُعداً جديداً على المفهوم. الإعلام يقوم بتعظيم دور الشهيد في تشكيل الرأي العام ويعمل على حشد الجماهير حوله.
صور الشهداء غالبًا ما تُعرض في مشاهد مؤثرة، يتمّ تكرارها عبر وسائل الإعلام لإثارة التعاطف وتحفيز الناس للانضمام إلى قضية معينة. في بعض الأحيان، تتحوّل صور الشهداء إلى أدوات سياسية تُستخدم لتحقيق أهداف معينة، مما يجعل الإعلام قوة مهمة في تحديد كيفية فهم الناس للشهادة ودورها في الصراعات المختلفة.
–وسائل التواصل الاجتماعي والشهادة.
وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت تمامًا كيفية نشر وتداول مفهوم الشهادة. خلال الثورات العربية، مثلاً، كان نشر صور الشهداء على فيسبوك وتويتر من أبرز الأدوات التي استخدمتها الحركات الاحتجاجية لحشد الدعم الشعبي والدولي. الشهيد لم يعد مجرد رمز محلي، بل أصبح يُشاهده ويحتفي به ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم. هذا الانتشار الرقمي أعطى مفهوم الشهادة بُعدًا جديدًا يتجاوز الحدود الجغرافية.
إلا أن هناك أيضًا جانبًا سلبيًا، حيث يمكن للتكنولوجيا أن تُستخدم لتشويه مفهوم الشهادة أو استغلاله. الجماعات المتطرفة تستخدم الإنترنت لترويج مفهوم ضيّق للشهادة، مما يزيد من تعقيد الفهم العام لهذه الفكرة.
4-الشهادة كرمز للهوية الثقافية والاجتماعية.
مفهوم الشهادة يتجاوز الفرد، ليصبح رمزًا جماعيًا يُستخدم لتعزيز الهوية الاجتماعية والثقافية. في العديد من الدول، يُنظر إلى الشهداء كأبطال يربطون الأجيال ببعضها البعض ويعززون التماسك المجتمعي. الشعوب تُخلد شهداءها عبر النصب التذكارية، الأعياد الوطنية، والأغاني والقصائد التي تمجد تضحياتهم. هذا النوع من التخليد يمنح الشهداء مكانة مركزية في سرديات الأمة.
–الشهادة كوسيلة لتعزيز الهوية الوطنية. في الدول التي شهدت صراعات تحررية، مثل الجزائر أو فلسطين، تُعتبر الشهادة جزءًا من الهوية الوطنية. الأطفال يتعلمون في المدارس عن تضحيات الشهداء كجزء من تاريخ بلادهم، وتُعتبر هذه الشخصيات مثالاً للقدوة والبطولة. هذا النوع من التعليم يُعزز القيم الوطنية ويمنح الشهداء مكانة استثنائية في الوعي الجماعي.
الشهادة أصبحت أيضًا رمزًا لتوحيد المجتمعات المتباينة. في لبنان، على سبيل المثال، الشهداء من مختلف الطوائف يُعتبرون رموزًا للوحدة الوطنية، مما يساعد على تجاوز الخلافات الطائفية والسياسية.
–الأدب والفن ودور الشهادة. الأدب والفن يُعدان وسيلتين هامتين في تخليد الشهداء وتعزيز مفهوم الشهادة. العديد من الشعراء والفنانين تناولوا الشهداء كرموز للإلهام والتضحية. في الأدب العربي، قصائد مثل تلك التي كتبها محمود درويش، تستلهم من الشهداء معاني المقاومة والصمود. في السينما والمسرح، يتم تصوير الشهداء على أنهم أبطال خالدون في الذاكرة الجماعية.
5- الخاتمة.
فكرة الشهادة تمثّل ظاهرة متعددة الأبعاد تتراوح بين الدين والسياسة والثقافة. هذا المفهوم، الذي نشأ في العصور القديمة وظل يتطوّر عبر الزمن، أصبح أكثر تعقيدًا في العصر الحديث بفعل التأثيرات التكنولوجية والسياسية. الإعلام والتكنولوجيا أضافا بُعدًا جديدًا للشهادة، ممّا أتاح لها الانتشار بشكل أسرع وأوسع، لكن هذا الانتشار صاحبه استغلال وتشويه أحيانًا. مع كل هذا التعقيد، تبقى الشهادة رمزًا قويًا للتضحية والبطولة، يتجاوز الأفراد ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية الجماعية للمجتمعات.