رعب قد يدوم والعمر
د. غالب خلايلي
وعدت في مقالي السابق بإلقاء الضوء على مشكلة الضرب في المدارس التي بات بعضهم يصنّفها “أماكنَ غير آمنة”. إن الخوض في هذه المسألة (تربوياً، ودينياً، واجتماعياً حسب الموروث السائد)عويصٌ عسير. وعندما راجعت “الأدب العنفي” فوجئتُ بالكمّ الهائل منه في كل البلدان تقريباً، قديماً وحديثاً.
والحقّ أن عدداً من كبار الزملاء في العالم العربي وخارجه أبدَوا ملاحظاتٍ قيّمة حول هذا الموضوع:
- طبيب أطفال من مصر العزيزة، تقاعد منذ سنوات، أثلج صدري عندما نفى تماماً أنه تعرّض للضرب كل حياته، وأكد أنه ضدّ الضرب بالمطلق. كم هذا جميل في زمن زميلنا.
- ومثله جمالاً زمن زميلتنا الشامية المجايلة لنا في طب التخدير والتي قالت إنها لم تتعرّض للضرب في حياتها، ونفت وجوده مع أي أشكال أخرى من العنف.
- زملاء أكّدوا مثلي وجود الضرب (التربوي!) من ضربة العصا أو لطم الخد باليد أو اللّكم أو صفع القفا أو الركل، فيما أكدت زميلة درست في الجزائر أن العصا لم تفارق المعلّمة الفرنسية، ضربت بها الطالبات مراراً على راحات أيديهن عندما أخطأن في جدول الضرب. زميلة أكّدت أن المعلمات القديمات كن يضربن، وأن بعض البنات عوقبن أيضاً بقص الشعر أو شده، وبمشية البطّة والزحف ووضع الرأس تحت الماء البارد في عز البرد إذا وجدت ملاحظة على التسريحة أو المكياج. والأدهى عقوبة اكتشاف طالبة تدخّن، فبدلا من استيعاب حالتها المضطربة، هدّدت مع الضرب (تخويفاً) بقص اللسان. وعندما سألت زوجتي التي تعلّمت في كبريات مدارس الشام في السبعينيات والثمانينيات الماضية، أكّدت لي أن العصا كانت دائماً حاضرة، وكذا الضرب بالمسطرة على الراحتين، وتعنيف البنات من قبل بعض المدرّسات أو المدرّبات.
- زميل طبيب قلب كبير في أميركا رأى أن الضرب (بشروط) أو التهديد به خاصة في مادة الحساب، يخلق حالة من الشدة التالية للرض Post- traumatic Stress تجعل الطالب لا ينسى، فليست طريقة (يا روحي، ويا عيني..) نافعة دوماً.
- أما زميلنا الجراح والأستاذ الجامعي القدير فقد قلب ظهر المِجَنّ: اليوم العصا ترفع بشكل أو بآخر في وجه المدرس، وطالب اليوم يتصرّف بما يعدّه جيلنا وقاحةً أو قلّة تربية، وأكد أن قاعة المحاضرات صارت أشبه بمقهى مع أمزجة مختلفة تمنّى معها عودة العصا، أو وجود مثل (مخفر أبي نادر في ضيعة ضايعة).
- وصادف أن سألت بالأمس أمّاً أربعينية جاءت عيادتي عن الضرب في زمنها، فأكّدت لي حدوثه المتكرر من قبل مدرسات عربيات، بمسطرةٍ قاسية ذات حافة معدنية حادة، حتى إن راحة يدها جرحت، لكنها خافت أن تخبر أهلها بسبب تهديد المدرّسة، كما ضربت مدرّسة الموسيقى ذات يوم رأس طالبة بمضرب الطبل ففجّته وأغمي على البنت.
- والضرب إما فردي أو جماعي، عندما يقرر المدرّس أو المدرّسة معاقبة صف بأكمله، حيث يفتح الجميع أيديهم، لينالوا ضربة مسطرة أو عصا، يمكن أن تخفّف (لتصبح ضربة تمثيلية) عند المجتهد. كل هذا عدا ما نسمع عنه في التلفاز أو وسائل التواصل عن ضرب وحشي مرعب يقوم به معلّمون لا بد أنهم مختلّون نفسياً.
ليس كلُّ الأساتذة في العالم أساتذةً بالمعنى الأكاديمي المعروف، وليسوا، كلّهم، مربّي أجيال أفاضلَ، إذ يعاني بعضهم نقصاً خطيراً في الكفاءات، كما يعاني نفرٌ آخر اضطراباتٍ نفسيةً مختلفة الشدة (حتى الجنون) وأخرى اجتماعية، تزداد كثيراً أيام فقدان السلم الأهلي. هذا صحيح في كل زمان ومكان، على الرغم من تقدّم العلوم اليوم، وتقدّم علم النفس وإعداد المدرسين وأساليب التدريس، لكن هل يخضع كل الأساتذة لمقاييس العصر؟ وهل يعطى من حقّق الشروط كلّها حقّه واحترامه، فيتشجع طلاب العلم على اختيار مهنة التدريس؟
في الزمان الذي تعلّمنا به (ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) لم يكن الضرب ممنوعاً، إذ كان أحد الأساليب السائدة، لكنه كان أخفّ بكثير من عصر الأجيال السابقة، والتي كان الأهل يأتون فيها بأولادهم إلى المعلّم، ويقولون له بكل الاحترام: “لك اللحم ولنا العظم“. الحمد لله انتهى ذلك النوع من الضرب، ولكن أتى ما هو أسوأ منه، بسبب التراخي والواسطة وسطوة المال في العلاقات، وفي التدريس، فالدنيا لصاحب النفوذ ولمن يدفع المال، لا لمن يدفع البلاء والأذى، إلا في البلاد التي يسيطر فيها القانون.
ذكرت سابقاً، وأنا الطالب المجتهد الصامت، أنني ضُربتُ مرّات، لكن نصيبي أقلّ بكثير مقارنةً بغيري ممن يشاغب، أو يكسل، أو يرتكب أخطاء. كان الضرب الرئيس على راحتيّ اليدين (والأسوأ على ظهر الكف)، باستخدام مسطرة أو عصاً دقيقة (لكنْ لاسِعة) أو غليظة مدببة. كان بعض الأساتذة يحتفظون بعصيّ مختلفة الأحجام والأداء، ويسمّونها أسماء غريبة مثل (خميسة، وعزيزة)، كما كان بعضهم يضرِب أخمصي القدمين (الفلقة)، فيما كان بعض (المربّين) يطلبون من الطالب الانحناء فوق المقعد، ليضربوه على قفاه، إذ يتحمّل شحم الإليتين غضب الأساتذة وعلاجهم “التربوي”، دون أن يترك علاماتٍ مهمة (قيل: هي الطريقة الإنجليزية). غير أن بعضهم لم يشفِه شيء، ليضرب التلاميذ ضرباً مبرّحاً في أي مكان تطاله أيديهم، وأرجلهم أحياناً، ويقلبون الصف إلى حلبة ملاكمة، لكماً في أي مكان، وصقعاً على الخدّين، وضرباً على القفا (صفع، عصا..)، لكنني – والحمد الله – لم أنل أي عقاب بعد الصف السادس إلا مرة واحدة. هذه قصة رويتها لكم، عندما كنت في الصف التاسع، في شتاء 1973 البارد. لكمة (الأستاذ) الحاقدة على حجاج العين شوّهت منظري، ولو كان عصر الفيسبوك حاضراً لصرتُ قصّةً عالمية Trend تستدعي تدخل جمعيات حقوق الإنسان، التي من عجب لا نسمع لها صوتاً اليوم. العجيب أيضاً أنني علمتُ بعد عقود أن الأستاذ نفسه هجم على أخي الأصغر بسبع سنوات بالعصا (وهو الدكتور في تاريخ الشرق القديم اليوم) ولاحقه بين المقاعد، ولكن أخي كان (أشطر) إذ هرب من النافذة واحتمى بأستاذ صديق.
هل يرتبط ضبط الصف بالإيذاء الجسدي؟
الحقيقة أن ذلك أشدّ ارتباطاً بشخصية المعلّم القوية، والإدارة الحازمة والبيت المتعاون وسيادة القانون. أتذكر أمثلة مشرقة كثيرة منها أستاذنا الرائع (هشام مبيض) الذي علّمنا الفيزياء 1977-1978 وقد غضب مرة واحدة خلال سنتين من شقاوة بعض التلاميذ، فكيف غضب؟ مشى إلى آخر الصف، ووقف صامتأً متجهّماً ويداه خلف ظهره، مما شدّ نظر الجميع! عندها نطق بكلمة واحدة وبصوت أحدّ من المعتاد: بس! لم ينطق غيرها، وصمت الطلاب وكأن على رؤوسهم الطير. المؤسف أن الطلاب ذاتهم كانوا يقلبون الدنيا فوضىً وضحكاً بوجود مدرّس ضعيف الشخصية.
وللإدارة الحازمة والبيت المتعاون دورهما. أذكر أن كلمة “لا تعد إلى المدرسة إلا وأبوك معك” كانت كافية لانقطاع حيل التلميذ، فمعظم الآباء لم يكونوا متساهلين، ولا يقصّر كثير منهم في العقوبة الجسدية، لثقته بالمدرسة، حتى قبل معرفة السبب. الثقة عملة غالية.
مؤسفٌ جداً أن يستغلّ طلابنا طيبة المدرس وقلّة خبرته، ليتصرفوا حسب الظروف (ما يحيل إلى أهمية العقاب، الذي لا يكون بالضرورة جسديا)، ومؤسف أيضاً أن بعض المدرّسين ذوو عقول صغيرة، وأمثال هؤلاء يزدادون، بسبب سوء الزمن. مؤسف ألا يستوعب بعض المدرّسين التلامذة الصغار، الذين يبقون صغاراً حتى في المرحلة الثانوية، لأنهم يخضعون لتبدلات هرمونية تؤثر في أجسامهم وعقولهم وردود أفعالهم، فهم – وإن أبدَوا بعض التبرّم أو الردود المفاجئة بالكلام، فالأغلب أنهم لا يقصدون الإساءة، ومن ثم يحسُنُ استيعابهم، وفهم ظروفهم لمساعدتهم، بدلاً من تسفيههم ببشِع الكلام أمام الزملاء، أو ضربهم، الذي لا بد أن يترك عواقب نفسية (ربما أبدية)، أو يكون مدعاة لترك المدرسة.
مراجعة سريعة لمشكلة الضرب عالمياً:
- وفق دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، أيلول عام 2014: يتعرض نحو مليار طفل حول العالم، أو 6 من كل 10 أطفال في سن 2-14 عاما، للعقوبة البدنية من أولياء أمورهم ومقدمي الرعاية لهم بشكل منتظم. تناولت الدراسة 190 دولة حول العالم منها بلاد العرب.
- في مقالها (العنف درس مستمر في المدارس المصرية والقوانين عاجزة) كتبت الصحفية أمينة خيري يوم 21 أكتوبر 2022) مقالاً غنياً أكدت فيه على نقطتين:
- حيرة المجتمع المصري حول الضرب كوسيلة تأديبية في المدرسة: فملايين الأجداد والجدات والآباء والأمهات تلقّوا قدراً من الضرب في المدارس. منهم من يبرر الضرب بكون المعلم في عصور مضت أقربَ ما يكون إلى الأب أو الأم، ومن حقه أن يضرب الصغير أو المراهق بغرض التقويم. ومنهم من يفضل ألا يتعرّض صغاره للضرب، الذي يكون أحياناً شراً لا بد منه لضمان التربية السليمة والتنشئة المنضبطة. ومنهم من يعترض قلباً وقالباً. وقد أكد المجلس القومي للطفولة والأمومة تعرض الطفل المصري للعنف في البيت والمدرسة والنادي الرياضي، وأن نسبة الأطفال من 1- 14 سنة الذين يتعرضون للعنف من الأب أو الأم أو المعلم تصل إلى نحو 93 %، ونحو 65 % من المراهقين في سن 13 و14 سنة يتعرضون للضرب بعصاً أو بحزام. وخلصت دراسته إلى قبول مجتمعي للعنف وسيلةً للتربية من قبل الأب والأم والمعلم، وأن العنف يساعد في تكوين شخص قوي وسوي!
- تشجيع بعض رجال الدين للضرب بفهم مختلف فيما بينهم: على أن مداخلة مفتي مصر السابق علي جمعة أكثرها قبولا: “الإسلام هو دين الرحمة، وأولى الناس بالرحمة هم الأطفال. وفي مفاهيم الدين عن ضرب الصبي “أنه لا يجوز أن يكون بالسوط والعصا ونحوهما، بل باليد فقط، تعبيراً عن اللوم وإظهاراً للعتاب، ولا يجوز أن يكون بقصد الانتقام بل التأديب، على أن يتقي المَقاتِل، ويبتعد عن الأماكن الحساسة والأماكن الشريفة التي يُشعِر الضرب فيها بالمهانة “كالوجه والرأس والنحر والفرج والقفا”، منتقداً “خروج الضرب هذه الآونة عن المعاني التربوية، وتحوله إلى وسيلة للعقاب البدني المبرح، بل والانتقام أحياناً وهذا محرم بلا خلاف”.
- يقول الصحافي وائل لطفي إن “هذه الظاهرة الإجرامية (الضرب في المدارس) لها جذور عدة أخطرها السبب الاقتصادي، إذ يلجأ المعلمون إلى إجبار الطلاب على الدروس الخصوصية، وعقاب من لا يدفع ثمن الدرس الخصوصي بالضرب.
- في 18 نيسان 2024 دعا اتحاد أطباء الأطفال البريطانيين إلى حظر ضرب الأبناء على المؤخرة في إنجلترا وأيرلندا الشمالية، منتقدا القانون الحالي الذي عُدّ أنه “غامض وخطير” لأنه يسمح بإنزال عقوبات يصفها بـ”المعقولة” بالأطفال. وكانت أسكوتلندا قد أقرّت قانونا عام 2019 لحظر الضرب، فأصبحت السبّاقة إلى تجريم العقوبة البدنية للأطفال بين مكوّنات المملكة المتحدة الأربعة، وحَذَت ويلز حذوها عام 2022. كما لاحظ رئيس الكلية الملكية لحماية الطفل طبيب الأطفال أندرو رولاند أن “القوانين الحالية المتعلقة بالعقاب الجسدي تسهم في إيجاد منطقة رمادية قد تكون فيها بعض أشكال العقاب الجسدي قانونية في حين أن الأخرى ليست كذلك”. وقالت وزيرة الخزانة لورا تروت: ” إن أمر تربية الأطفال متروك للأهل”.
- ولنذكر أن السويد حظرت العقوبة البدنية للأطفال عام 1979، فيما تأخرت فرنسا إلى عام 2019، لتصبح الدولة رقم 56 التي تحظر هذا الشكل من العنف الجسدي.
هل من ضوء في آخر النفق؟
يفتح موضوعنا المعقّد البابَ واسعاً إلى مسألة اضطهاد الأطفال Child abuse and neglect التي قد تبدأ منذ الحمل (أم قاصر وأب مدمن أو جاهل) ولا تنتهي حتى مع البلوغ. الموضوع طويل، سبق أن كتبتُ عنه قبل ثلاثة عقود، ولعلني أستطيع الغوص فيه مرّة أخرى مع “تقدم” وسائل الاضطهاد مثلما عرفنا جميعا في الأعوام القليلة الماضية عن قصص التحوّل الجنسي وغيره.
وبالعودة إلى موضوعنا الرئيس، نرى أن العنف يروّع بعض أجزاء من العالم، فكيف يمكن ألا ينعكس ذلك في مرايانا؟ لكل هذا، كان الله في عوننا وعون الأهل كم عليهم أن يتحمّلوا من أوجاع ونفقات حتى يتعلّم أولادهم، وكان الله بعون التربويين الحقيقيين، الذين يشربون من الكأس ذاتها.
العين في 8 تشرين الثاني 2024
هوامش:
- https://www.independentarabia.com/node/384251/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%AF%D8%B1%D8%B3-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D8%AC%D8%B2%D8%A9
- https://www.aljazeera.net/health/2024/4/18/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A3%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88