د. الياس ميشال الشويري
السلام هو أحد المقومات الأساسية التي تقوم عليها الحياة البشرية المتحضرة. عبر التاريخ، سعى البشر إلى تحقيق السلام كوسيلة للتعايش السلمي والتطور الجماعي. بدون سلام، تترسخ النزاعات التي تقوض أساسات المجتمعات وتعيق التقدم. لذلك، يعتبر السلام أحد القيم الأساسية التي تسعى إليها الأديان، الفلسفات، والقوانين الوضعية لتحقيق التعايش السلمي بين الأفراد والأمم.
العبارة “طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون” مقتبسة من إنجيل متى (9:5) ضمن العظة على الجبل. هذه العبارة ليست مجرّد دعوة إلى السلام، بل هي اعتراف بأن الساعين إلى السلام يشبهون الله في أخلاقهم وسلوكهم. فالسعي إلى السلام ليس فقط لإنهاء النزاعات، بل هو أيضًا طريق لتحقيق المحبة، التفاهم، والاحترام المتبادل. الدعوة للسعي إلى السلام تعني تبنّي نهج عملي وروحي يسهم في صنع عالم أفضل.
1- مفهوم السلام في الأديان السماوية.
- السلام في المسيحية: في المسيحية، السلام هو مفهوم مركزي ومحوري. يعتبر السيد المسيح نفسه رسول سلام، وأحد أبرز تعليماته هي “أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متى 44:5)، ممّا يعكس قيمًا رفيعة تقوم على التسامح والمغفرة. يؤكّد الكتاب المقدّس على التالي: “فلَيسَ اللهُ إِلهَ البَلْبَلة، بل إِلهُ السَّلام” (1 كورنثوس 33:14). بالتالي، يُنظر إلى المؤمنين في المسيحية على أنهم سفراء للسلام، وعليهم السعي لتحقيقه على المستوى الشخصي والاجتماعي، مع تجنّب العنف والظلم.
- السلام في الإسلام: الإسلام يحمل في جوهره رسالة سلام. يدعو القرآن الكريم إلى السلم في أكثر من موضع، مثل الآية: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا” (الأنفال 61). إضافة إلى ذلك، يعتبر نشر السلم والتسامح من واجبات المسلم، سواء كان ذلك في العلاقات بين الأفراد أو بين الأمم. كما أن نبي الإسلام محمّد وصف المسلم بأنه من سَلِمَ الناسُ من لسانه ويده، ممّا يعكس التزام الإسلام العميق بالسلام على مستوى الفرد والمجتمع.
- السلام في اليهودية: في اليهودية، يعتبر السلام مفهومًا أساسيًا في الحياة الدينية والاجتماعية. يُشار إلى الله في النصوص الدينية اليهودية بـ”إله السلام”، ويوصي التلمود بأن يكون الفرد مساهمًا في صنع السلام بين الناس. كما يحتل السلام مكانة كبيرة في الصلوات اليهودية مثل صلاة “شالوم“، التي تُعبّر عن رغبة اليهود في تحقيق سلام شامل ودائم. تُعد السلامة الشخصية والاجتماعية جزءًا لا يتجزأ من الحياة الدينية اليومية في اليهودية.
2- السلام من منظور فلسفي.
- فلسفة السلام: العديد من الفلاسفة عبر التاريخ تناولوا مفهوم السلام كفضيلة إنسانية وأخلاقية. الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، في مقالته الشهيرة “مشروع السلام الدائم“، وضع مبادئ لتحقيق السلام العالمي من خلال التعاون بين الدول وحل النزاعات بالوسائل السلمية. كانط يؤمن بأن السلام الدائم ليس مجرد غياب للحروب، بل هو حالة من العلاقات الإيجابية التي تعتمد على العدالة والاحترام المتبادل بين الأمم. أما الفيلسوف اليوناني أفلاطون فقد تحدث عن السلام في إطار النظام الاجتماعي العادل. في كتابه “الجمهورية“، ناقش أفلاطون أن السلام الحقيقي يمكن تحقيقه فقط عندما تكون العدالة هي القاعدة الأساسية التي تحكم المجتمع. إذ لا يمكن تحقيق السلام في ظل الظلم والاستبداد.
- السلام كفضيلة إنسانية: في الفلسفة الأخلاقية، يُنظر إلى السلام كفضيلة تسعى إلى الحفاظ على التوازن والتفاهم بين الأفراد والمجتمعات. الساعي إلى السلام هو شخص يسعى لتحقيق الرفاهية للجميع من خلال نشر العدالة والمساواة. الفيلسوف الهندي المهاتما غاندي، على سبيل المثال، كان يدعو إلى مفهوم “اللاعنف” كطريقة لتحقيق السلام من خلال المقاومة السلمية ضد الظلم والاضطهاد.
3- أهمية السعي إلى السلام في المجتمع.
- السلام والتماسك الاجتماعي: السلام هو الركيزة الأساسية التي تضمن استقرار المجتمعات وتماسكها. في ظلّ السلام، تنشأ بيئة تُتيح للأفراد التعاون والتطور بشكل سلمي. يساعد السلام على حلّ النزاعات بطريقة ودية ويساهم في بناء جسور التفاهم بين الثقافات المختلفة. على المستوى المحلي، يؤدي السعي إلى السلام إلى تقليل معدلات الجريمة، تعزيز العدالة الاجتماعية، وتحقيق المساواة بين الأفراد.
- أدوار الأفراد والمؤسسات في نشر السلام: نشر السلام لا يقتصر على الحكومات والمؤسسات الكبرى، بل هو مسؤولية كل فرد في المجتمع. يمكن للأفراد أن يسهموا في بناء السلام من خلال تعزيز قيم التسامح، الحوار، والمصالحة. كما تلعب المؤسسات غير الحكومية والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة واليونسكو دورًا محوريًا في تعزيز السلام العالمي، من خلال مبادرات مثل حل النزاعات بالوسائل السلمية، وإعادة بناء الدول بعد النزاعات.
4- تحديات السعي إلى السلام.
- الصراعات السياسية والحروب: من أكبر التحديات التي تواجه الساعين إلى السلام هي الصراعات السياسية والحروب التي تنشأ غالبًا نتيجة للمصالح الاقتصادية أو الأيديولوجية. هذه النزاعات تصعب من مهمة تحقيق السلام، خاصة عندما تكون الأطراف المتنازعة غير مستعدة للتفاوض أو التنازل. مثال على ذلك هو الصراع في الشرق الأوسط، حيث تعقدت عملية السلام على مر العقود نتيجة لتداخل المصالح الإقليمية والدولية.
- التحديات النفسية والاجتماعية: على مستوى الفرد، يواجه الساعون إلى السلام تحديات نفسية واجتماعية كبيرة، مثل الضغوط من المجتمع، الخوف من العزلة، والتهديدات المباشرة من الجماعات التي تعارض التغيير. هؤلاء الأفراد قد يُواجهون بالرفض أو حتى العنف، لكنهم يظلون ثابتين على مبادئهم لأنهم يدركون أن السلام هو الطريق إلى حياة أفضل.
5- آثار السعي إلى السلام على الفرد والمجتمع.
- السلام الداخلي للفرد: السعي إلى السلام لا يتعلّق فقط بالعلاقات الخارجية، بل هو أيضًا عملية داخلية. من خلال ممارسة السلام الداخلي، يستطيع الفرد تحقيق توازن نفسي وعاطفي، مما يعزز من رفاهيته الشخصية. الشخص الساعي إلى السلام يكون أكثر تسامحًا وتفاهمًا، وأقل عرضة للقلق والتوتر. السلام الداخلي يعتبر الأساس الذي يقوم عليه السلام الخارجي، حيث أن الأفراد الذين يتمتعون بالسلام النفسي يكونون أكثر قدرة على نشر السلام في محيطهم.
- تأثير السلام على التقدّم الاجتماعي والاقتصادي: السلام يُعتبر شرطًا أساسيًا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. المجتمعات التي تعيش في سلام تحقق معدلات نمو أعلى، حيث تتيح البيئة السلمية فرصًا أكبر للاستثمار، التعليم، والتطور التكنولوجي. على سبيل المثال، الدول التي تتمتّع بالاستقرار السياسي والسلام الداخلي مثل الدول الإسكندنافية تحقّق مستويات عالية من الرخاء الاقتصادي والاجتماعي.
6- الخاتمة.
العمل من أجل السلام ليس مهمة مؤقتة، بل هو عملية مستمرة. على الرغم من التحديات التي قد تواجه الأفراد والمجتمعات في سعيهم لتحقيق السلام، إلا أن ثمار السلام تفوق بكثير العقبات التي تواجهه. السعي إلى السلام هو مسار يتطلّب شجاعة وصبرًا، لكنه يمنح المجتمعات الفرصة لتعيش في تآلف واستقرار.
في النهاية، يجب التأكيد على أهمية أن يتحمّل كل فرد مسؤولية السعي إلى السلام في محيطه الشخصي والمهني. من خلال الأفعال اليومية البسيطة، مثل التسامح والتفاهم مع الآخرين، يمكن للأفراد أن يسهموا في بناء عالم يسوده السلام والعدل.