احتفاء بالاستقلال
د. الياس ميشال الشويري
السيادة، كتعريف عام، هي الحق الكامل للدولة في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية دون تدخّل خارجي. في لبنان، اكتسب هذا المفهوم أهمية استثنائية بسبب تعقيداته السياسية والطائفية. ورغم أن السيادة تشكّل أساس الشرعية الوطنية، إلا أن الواقع اللبناني يظهر أن هذا المصطلح قد تحوّل إلى أداة للمزايدات السياسية. ففي كل حدث داخلي أو خارجي، يتجدّد الجدل حول معنى السيادة وحدودها، مع انقسام داخلي حول تعريفها وتطبيقاتها. لكن، ما هو مفهوم السيادة فعليًا؟ وما مظاهر خرقها؟ وكيف يمكن للبنان أن يرسّخ سيادته وسط تعقيداته؟
1- مفهوم السيادة – نظرة عامة.
- تعريف السيادة نظريًا. السيادة مفهوم أساسي في العلوم السياسية والقانون الدولي. يُعرّف بأنها قدرة الدولة على ممارسة سلطتها العليا داخل حدودها، دون خضوعها لأي قوة خارجية. هذا المفهوم بدأ مع ظهور الدولة القومية الحديثة في أوروبا خلال القرن السادس عشر. أبرز عناصر السيادة تشمل:
-السيادة الداخلية: التي تعني قدرة الدولة على فرض قوانينها وإدارتها لشؤونها دون تحديات داخلية.
-السيادة الخارجية: والتي تعني استقلالية الدولة في علاقاتها الدولية ورفض أي تدخّل خارجي في قراراتها.
السيادة لا تعني العزلة؛ إذ يمكن للدول أن تدخل في علاقات تعاون مع الآخرين شريطة أن تكون هذه العلاقات طوعية وغير مفروضة.
- أنواع خرق السيادة.
-التدخلات العسكرية: كالاحتلال المباشر أو إقامة قواعد عسكرية دون موافقة الدولة.
-التدخلات السياسية: مثل دعم فصيل معين أو فرض أجندة سياسية عبر العقوبات أو الضغوط الدولية.
-التدخلات الاقتصادية: عبر فرض شروط قاسية في اتفاقيات القروض والمساعدات، ممّا يقيّد قرارات الدولة.
- السيادة في العصر الحديث. مع تزايد العولمة، أصبح مفهوم السيادة أكثر تعقيدًا. بعض الدول تواجه تحديات كبيرة للحفاظ على سيادتها بسبب ارتباطاتها الاقتصادية أو السياسية مع قوى كبرى. في هذا السياق، لبنان يمثّل حالة فريدة حيث يتداخل البعد الداخلي مع التأثيرات الخارجية بشكل حاد.
2- تاريخ السيادة في لبنان – مسار طويل من التحديات.
- الاستقلال وتأسيس مفهوم السيادة. عام 1943، نال لبنان استقلاله عن فرنسا، ليبدأ مسارًا طويلًا نحو بناء دولته المستقلة. ركّزت مرحلة ما بعد الاستقلال على تعزيز سيادة لبنان عبر تأكيد سيطرته على أراضيه وتحقيق استقلالية قراره السياسي. إلا أن هذه الجهود كانت تعترضها تحديات عديدة أبرزها التوترات الطائفية وتداعيات الصراع العربي الإسرائيلي.
- الحرب الأهلية: انهيار السيادة الداخلية والخارجية. اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، ممّا أدّى إلى انهيار مفهوم السيادة اللبنانية. أصبحت أراضي البلاد مسرحًا لتدخلات خارجية متعددة من سوريا وإسرائيل وغيرهما. كما سيطرت الميليشيات على مناطق واسعة من البلاد، ممّا حوّل السيادة إلى مفهوم نظري بحت.
- مرحلة ما بعد الطائف (1989): استعادة جزئية للسيادة. اتفاق الطائف أنهى الحرب الأهلية وأسهم في إعادة بناء الدولة، إلا أن السيادة اللبنانية بقيت مشروطة بتأثيرات خارجية. استمرت الوصاية السورية حتى عام 2005، كما شهد لبنان تدخلات دولية وإقليمية متكررة أثرت على قراراته السيادية.
3- خرق السيادة اللبنانية – مظاهر متعددة.
- التدخلات الإقليمية والدولية. الدور السوري: من عام 1976 وحتى 2005، شكلت الوصاية السورية أبرز مظاهر خرق السيادة اللبنانية، حيث سيطرت دمشق على القرار السياسي والأمني في البلاد.
-الدور الإيراني والسعودي: يمثّل الصراع بين إيران والسعودية انعكاسًا للتدخلات الإقليمية في لبنان، حيث يدعم كل طرف قوى داخلية تخدم مصالحه.
-التدخلات الدولية: العقوبات الأمريكية والأوروبية على بعض الشخصيات والأطراف السياسية تؤكّد استمرار التأثير الدولي على لبنان.
- السلاح خارج سلطة الدولة. وجود جماعات مسلحة مثل “حزب الله” يُعتبر من أبرز التحديات التي تواجه السيادة اللبنانية. رغم أن الحزب يؤكّد على دوره كجزء من محور المقاومة، إلا أن استقلالية قراره الأمني والعسكري تُضعف مفهوم الدولة الواحدة.
- التبعية الاقتصادية. الاعتماد المفرط على المساعدات والقروض الدولية يجعل السيادة الاقتصادية للبنان موضع تساؤل. صندوق النقد الدولي والدول المانحة يشترطون إصلاحات داخلية مقابل الدعم المالي، ممّا يقيّد قرارات الدولة.
4- السيادة في الخطاب السياسي اللبناني.
- سيادة مطّاطية بين الأطراف. السيادة في لبنان ليست مفهومًا موحدًا بل أداة تُستخدم لتبرير مواقف متناقضة. كل طرف سياسي يفسّر السيادة بما يخدم مصالحه الخاصة، ممّا يؤدي إلى غياب رؤية وطنية موحدة.
- الشعارات الفارغة والتناقضات. يكثر استخدام مصطلح السيادة في الخطاب السياسي اللبناني كشعار دون مضمون حقيقي. الأطراف التي تدعو إلى سيادة لبنان أحيانًا تتبنّى مواقف تضعف هذا المبدأ، مثل الاعتماد على الدعم الخارجي أو تبرير التدخلات الخارجية إذا كانت تصب في مصلحتها.
- تأثير الانقسام الطائفي على السيادة. الانقسام الطائفي يُضعف من قدرة لبنان على تطبيق سيادة حقيقية. كل طائفة لديها تحالفات خارجية تؤثر على توجهاتها السياسية، ممّا يجعل القرار الوطني رهينة لهذه العلاقات.
5- تعزيز السيادة اللبنانية – خطوات نحو الاستقلالية.
- بناء الدولة القوية. لا يمكن تحقيق السيادة دون مؤسسات دولة قوية قادرة على فرض القانون وحماية الحقوق. يجب أن تكون السلطة الأمنية والعسكرية حكرًا على الدولة دون أي استثناءات.
- تحقيق الوحدة الداخلية. الوحدة الداخلية شرط أساسي لترسيخ السيادة. تقليل الانقسامات الطائفية والسياسية وتعزيز الهوية الوطنية المشتركة يمكن أن يحد من التدخلات الخارجية.
- تبنّي سياسة الحياد الإيجابي وتعزيز العلاقات الدولية. في ظل الواقع اللبناني المتشابك، يصبح الحياد الإيجابي خيارًا استراتيجيًا يتيح للبنان النأي بنفسه عن الصراعات الإقليمية والدولية التي تُثقل كاهله. الحياد الإيجابي لا يعني العزلة أو الابتعاد عن التفاعلات الدولية، بل يشير إلى اعتماد نهج يوازن بين مصالح الدولة الداخلية والخارجية دون الانحياز لأي محور سياسي أو عسكري.
- استقلال اقتصادي مستدام. تحقيق السيادة الاقتصادية يتطلب تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية وتعزيز الإنتاج المحلي. كما يجب مكافحة الفساد الذي يُضعف قدرة الدولة على استغلال مواردها بكفاءة.
6- الخاتمة.
السيادة اللبنانية هي مفهوم محوري في الخطاب السياسي الوطني، لكنها تواجه تحديات متشابكة ومعقدة تمتد من الداخل إلى الخارج، مما يجعل تحقيقها الكامل مهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة. هذه التحديات ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية تفاقمت على مدار عقود طويلة.
- التحديات الداخلية.
-ضعف الدولة المركزية: تعاني المؤسسات اللبنانية من غياب الفعالية نتيجة للفساد والانقسامات الطائفية، ممّا يضعف قدرتها على فرض سيطرتها على كامل أراضيها.
-تعدّد الولاءات: تشكل الولاءات الحزبية والطائفية المتناقضة عائقًا أمام تحقيق وحدة وطنية ضرورية لتعزيز السيادة.
-السلاح خارج سلطة الدولة: وجود جماعات مسلحة غير خاضعة لسيطرة الدولة يمثّل انتقاصًا مباشرًا للسيادة الداخلية.
- التحديات الخارجية.
-التدخلات الإقليمية: ارتباط القوى السياسية اللبنانية بمحاور خارجية يجعل القرار الوطني مرتهنًا لصراعات لا علاقة لها بمصالح لبنان.
-الضغوط الدولية: العلاقات اللبنانية مع القوى الكبرى ليست دائمًا متكافئة، حيث تفرض بعض الدول شروطًا على لبنان تقلّل من استقلالية قراره.
-الموقع الجغرافي: لبنان يقع في منطقة مليئة بالصراعات الإقليمية التي تجعله عرضة للتدخلات ولأن يكون ساحة لتصفية الحسابات.
- الطموح نحو سيادة حقيقية. رغم هذه التحديات، يبقى الطموح اللبناني إلى سيادة كاملة وفعالة قائمًا. السيادة ليست مجرّد شعار يُرفع في المناسبات الوطنية أو أداة للمزايدات السياسية، بل هي مطلب أساسي لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية. لتحقيق هذا الطموح، يجب أن تعمل الدولة اللبنانية، الدولة الحقّة وليس دولة الحثالة التي لم تجلب معها سوى الذل والبؤس والعار واليأس، على عدة مستويات:
-بناء دولة قوية: مؤسسات الدولة يجب أن تكون قادرة على فرض القانون ومكافحة الفساد، بما يضمن استقلالية القرار الوطني.
-تعزيز الوحدة الداخلية: السيادة لا تتحقّق دون توافق وطني مبني على المصالح المشتركة والولاء للدولة فوق كل اعتبار طائفي أو حزبي.
-تطوير سياسة خارجية متوازنة: لبنان بحاجة إلى انتهاج سياسة حياد إيجابي تتجنّب الانحياز لأي محور إقليمي أو دولي، مع الحفاظ على علاقات دبلوماسية متوازنة تحترم سيادته.
-تحقيق استقلال اقتصادي: لا يمكن لدولة أن تحقّق سيادتها دون اقتصاد قوي ومستدام يُقلّل من اعتمادها على المساعدات المشروطة.
- السيادة كشرط للتنمية. السيادة ليست ترفًا فكريًا أو مجرد مسألة رمزية، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه نهضة لبنان. بدون سيادة، يبقى البلد عُرضة للتدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية التي تعيق أي جهد لتحقيق التنمية المستدامة. لبنان بحاجة إلى استعادة سيادته من أجل توفير بيئة آمنة ومستقرة تشجّع على الاستثمار والتنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
في الختام، إن تحقيق السيادة اللبنانية يتطلّب إرادة سياسية حقيقية ووعيًا وطنيًا يتجاوز الحسابات الضيقة. الحل لا يكمن فقط في الخطابات والشعارات، بل في العمل الجاد لبناء دولة حديثة وقوية قادرة على حماية مصالحها. السيادة هي الشرط الأساسي لاستقرار لبنان وازدهاره، وهي الطريق الوحيد ليعود لبنان نموذجًا فريدًا للعيش المشترك في منطقة مليئة بالتحديات.