الماء بالغالونات
د. الياس ميشال الشويري
الغباء، في معناه الأساسي، هو ضعف في الذكاء والفهم والشعور، وقد يكون نتيجة عوامل فطرية أو مكتسبة. عندما يُسقط هذا المفهوم على السياسة، يتجلّى كأداة لتفسير الفشل المستمر في إدارة الشؤون العامة، حيث تصبح القرارات المتخذة تعبيرًا عن قصور في الحكمة وبعد النظر. في لبنان، يبدو هذا المفهوم وكأنه المفتاح لفهم السياسات التي قادت البلد إلى الهاوية. فمنذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا، حكم لبنان مجموعة من السياسيين، أكثرهم من الفاسدين، الذين فشلوا في تحويل المأساة إلى فرصة لإعادة بناء الدولة، بل عمّقوا الأزمات وأدخلوا البلاد في متاهات جديدة.
1- الغباء السياسي وتجلياته في الحكم اللبناني.
السياسة اللبنانية مثال صارخ على الغباء السياسي المنهجي. فبعد انتهاء الحرب الأهلية، كان الأمل معقودًا على قادة البلاد لإطلاق مرحلة جديدة من الاستقرار والبناء. إلا أن الذين استلموا زمام الأمور، فيما عدا البعض، كالرئيس رفيق الحريري، ممن أعادوا بناء ما تهدّم، لم يفلحوا في إحداث أي تغيير جذري. بدلاً من ذلك، اعتمدوا على حلول ترقيعية غير مدروسة تفاقمت معها الأزمات بدلاً من حلها. أصبح الغباء السياسي هنا مرادفًا لغياب الرؤية الاستراتيجية، حيث تركزت الجهود على مصالح ضيقة تتعلّق بالمحاصصة الطائفية والولاءات الشخصية، مما جعل الدولة عاجزة عن مواجهة التحديات الحقيقية.
القرارات التي تصدر عن المنظومة السياسية في لبنان تُظهر بوضوح هذا الغباء. فمن إقرار موازنات عاجزة إلى قوانين لا تستند إلى أي رؤية تنموية، يبدو أن معظم السياسات تهدف فقط إلى شراء الوقت أو تهدئة الشارع دون تقديم أي حلول حقيقية. ومن أمثلة ذلك، تعاطي الدولة مع الأزمة الاقتصادية الحالية، حيث تُركت المؤسسات تنهار، وأُهمل المواطنون في مواجهة الفقر والبطالة والتضخم، بينما استمرت المنظومة السياسية الفاسدة في استنزاف موارد الدولة لصالحها.
2- هيمنة العقول المتحجرة على المشهد السياسي.
الغباء السياسي في لبنان ليس وليد اليوم، بل هو نتيجة لتراكمات تاريخية أدّت إلى تشكيل منظومة من العقول المتحجرة التي تتحكّم بمفاصل الحكم. هذه العقول لا تعترف بالفشل ولا تقبل بالنقد أو التغيير، ما أدى إلى تكرار نفس الأخطاء لعقود. غياب الوحدة في القرار السياسي، واعتماد كل زعيم على رؤية فردية متصلبة، ساهم في تعميق الأزمات بدلاً من حلها.
في لبنان، كل زعيم سياسي، اذا جاز التعبير، يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ويتجاهل آراء الآخرين، حتى لو أثبت الواقع فشل وجهة نظره. هذه العقلية المغلقة أفرزت حكومات عاجزة عن اتخاذ قرارات جريئة أو تنفيذ إصلاحات جدية. وبدلاً من أن تكون السياسات مبنية على مصلحة عامة، أصبحت تُصمّم لخدمة النخب الحاكمة الفاسدة فقط. القوانين التي تصدر في لبنان غالبًا ما تكون هزيلة، تعكس توازنات طائفية هشة بدلًا من معالجة المشكلات الحقيقية.

3- عواقب الغباء السياسي على العلاقة بين الدولة والمواطن.
الغباء السياسي لم يؤثّر فقط على أداء الدولة، بل تسبب أيضًا في تدهور العلاقة بين المواطنين والنظام السياسي الفاسد. أصبحت الجماهير ترى في الطبقة الحاكمة الفاسدة مجموعة من الفاشلين الذين يسعون فقط للحفاظ على مواقعهم، دون النظر إلى القضايا التي تهم البلد. هذا الإدراك الشعبي زاد من حالة اليأس والإحباط، ما انعكس في انخفاض معدلات المشاركة السياسية، وارتفاع نسب الهجرة، وانعدام الثقة بأي مبادرة إصلاحية.
في الأزمات المتتالية، مثل أزمة الكهرباء، انهيار القطاع الصحي، وانهيار الليرة، لجأت الدولة إلى حلول ترقيعية لم تفعل شيئًا سوى تعميق الهوة بينها وبين المواطنين. فالسياسات المعتمدة ليست فقط غير ناجحة، بل تبدو وكأنها مصممة لإدامة الوضع القائم الذي يخدم مصالح المنظومة الحاكمة الفاسدة. هذه السياسات الغبية دفعت المواطنين إلى الاعتقاد بأن الدولة ليست شريكًا في حل مشكلاتهم، بل جزء من المشكلة نفسها.
4- الخاتمة: الغباء السياسي وعقبات الإصلاح.
السياسة اللبنانية باتت مرآة تعكس غياب الكفاءة والحنكة في إدارة الأزمات المتعددة التي تواجه البلاد. هذا الغباء السياسي يظهر جليًا في القرارات الخاطئة التي تُتخذ دون دراسة أو تخطيط، وفي التردّد الواضح أمام التحديات الكبرى التي تستدعي حلولًا جذرية. أزمات مثل انهيار العملة الوطنية، تدهور قطاع الخدمات العامة، وأزمة اللاجئين السوريين، كلها أمثلة على الفشل السياسي في معالجتها بطرق استراتيجية.
بدلًا من البحث عن حلول شاملة ومستدامة، تتجه المنظومة السياسية الحقيرة إلى قرارات ترقيعية تُبنى على مصالح فئوية أو طائفية. هذا الأسلوب ليس فقط غير مجدٍ، بل يزيد من عمق الأزمات، مما يحوّل لبنان إلى دولة عاجزة تتخبّط في مشاكلها. غياب رؤية واضحة للإصلاح يؤدّي إلى ضياع الفرص، حيث يتحوّل كل ملف إلى أزمة مزمنة تنعكس سلبًا على حياة المواطنين اليومية.
الاعتماد على العقول المتحجرة يمثل أحد الأسباب الرئيسة لهذا الغباء السياسي. هذه العقول ترفض الاعتراف بالفشل أو التعلّم من الأخطاء، ممّا يؤدي إلى استمرارية الأزمات. النمط السائد في السياسة اللبنانية يعتمد على الحفاظ على المكاسب الشخصية والطائفية بدلًا من تبنّي إصلاحات حقيقية تخدم المصلحة الوطنية.

القيادات السياسية الفاسدة في لبنان تُبدي مقاومة شديدة لأي تغيير قد يهدّد مواقعها أو امتيازاتها. هذا الجمود الفكري يساهم في إدامة الأوضاع المتدهورة، حيث تُرفض كل المبادرات الإصلاحية التي لا تتماشى مع مصالح هذه النخب الفاسدة. النتيجة هي تراكم المشاكل دون حلول، وسط شعب يتحمل العبء الأكبر من تداعيات هذا التخبّط السياسي.
إحداث تغيير حقيقي في لبنان يتطلّب تجاوز هذا النمط التقليدي من القيادة واعتماد سياسات قائمة على الكفاءة والشفافية والمساءلة. الكفاءة تعني أن يتولّى إدارة الشأن العام أفراد يمتلكون الخبرة والرؤية اللازمة لإيجاد حلول مبتكرة ومستدامة. الشفافية تستوجب وضوح القرارات والسياسات، بحيث يعرف المواطنون أين تذهب الموارد وكيف تُدار شؤونهم. أما المساءلة، فهي الركيزة الأساسية لضمان أن تكون السلطة خاضعة للقانون والمحاسبة، بعيدًا عن الحصانات التي تكرّس الفساد والإفلات من العقاب.
لكن هذا التحوّل لن يحدث إلا إذا أدرك اللبنانيون حجم الخطر الذي تمثله المنظومة الفاسدة الحالية. على الشعب أن يرفض استمرار هذه المنظومة في التلاعب بمصيره، وأن يُطالب بإصلاحات جذرية تبدأ من تغيير النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية. التغيير الحقيقي يتطلّب حركة شعبية واعية، تعمل على تفكيك بنية النظام الفاشل وبناء دولة تقوم على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.