طبيب يتباهى بعضلاته.. لا بشهاداته
د. الياس ميشال الشويري
يُعدّ التعلّق بالألقاب الأكاديمية والمهنية من الظواهر الاجتماعية التي باتت تتغلغل في المجتمع اللبناني، حيث تحول هذا التعلّق إلى ظاهرة ثقافية تعكس حاجة الأفراد للشعور بالاحترام والتقدير، وأحيانًا لتعويض نقص داخلي أو اجتماعي. ورغم أن الألقاب قد تعبّر عن إنجازات تعليمية ومهنية، فإن البعض يستخدمها وسيلة للتباهي والتفاخر دون تحقيق إنجازات حقيقية تتناسب مع الألقاب المعلنة. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الظاهرة من مختلف جوانبها، موضحًا كيف تحولت الألقاب من وسيلة لتحديد المكانة المهنية إلى وسيلة لاستعراض المكانة الاجتماعية، وكيفية تأثير ذلك على نسيج المجتمع اللبناني.
1- مفهوم الألقاب الأكاديمية والمهنية وأصل الظاهرة.
الألقاب الأكاديمية والمهنية مثل “الدكتور” و”المهندس” و”الأستاذ” كانت في الأصل وسيلة لتحديد مكانة الشخص العلمية أو المهنية، واعترافاً بجهوده في التحصيل العلمي أو الخبرات المتراكمة. إلّا أن هذه الألقاب تطوّرت في العديد من المجتمعات لتصبح رموزًا اجتماعية تُكسب صاحبها مكانة واحترامًا، بغض النظر عن الكفاءة أو المهارات الحقيقية.
تجذّر هذه الظاهرة يرتبط بتحولات ثقافية عميقة؛ ففي الماضي كان المجتمع اللبناني يقدّر العلم والعمل في حد ذاتهما دون الحاجة لتكريس الألقاب. أما اليوم، فقد باتت الألقاب وسيلة للتمييز الاجتماعي، خاصة في ظلّ ارتفاع معدل البطالة وازدياد التنافس على فرص العمل، ما يجعل البعض يتشبث بالألقاب كوسيلة لتحقيق التفوّق الاجتماعي وإثبات الذات. ويظهر ذلك جلياً في العديد من البلدان العربية ومنها لبنان، حيث تنتشر ظاهرة المبالغة في استخدام الألقاب كعلامة للمكانة الاجتماعية.
2- التباهي بالألقاب بين الشعور بالنقص والسعي للمكانة.
يظهر التمسّك الشديد بالألقاب بشكل أكبر لدى الأفراد الذين نشأوا في بيئات تفتقر إلى فرص متكافئة لتحقيق التقدير الاجتماعي، ممّا قد يُشعر البعض بنقص داخلي يدفعهم للبحث عن أي وسيلة للتعويض. الألقاب هنا تُستخدم كوسيلة لسد هذا النقص الداخلي ولإثبات الذات، خصوصًا في حالات “حديثي النعمة” الذين يفتقرون للتجربة والمكانة الحقيقية.
هذا التمسّك يمكن رؤيته في حوادث الحياة اليومية؛ فكثيراً ما نجد أشخاصاً يُصرّون على مناداتهم بألقابهم الأكاديمية أو المهنية، وينزعجون إذا لم يُخاطبوا بها. كما أن البعض قد يلجأ للزج بألقابهم في الأحاديث العامة كتأكيد على أهميتهم، في محاولة للظهور بمظهر الشخص المثقّف أو المهّم. وفي حالات عديدة، يكون الغرض من التمسّك بالألقاب مجرّد تغطية على غياب الكفاءة أو الخبرة، حيث يظهر هذا التناقض بوضوح عند ممارسة العمل الفعلي، ممّا يبرز الفرق بين الاستحقاق الحقيقي وبين مجرد امتلاك لقب لا يدعمه مضمون حقيقي.
3- الأمثلة التاريخية للإنجازات بلا ألقاب – الجذور العربية الحقيقية.
قدمت الثقافة العربية بشكل عام واللبنانية بشكل خاص أمثلة بارزة لشخصيات عظيمة لم تكن بحاجة لألقاب لتأكيد مكانتها. فالعالم الموسوعي والفيلسوف أبو نصر الفارابي لم يعرف بلقب “دكتور”، وأيضًا العالم الجغرافي والإداري شمس الدين المقدسي لم يكن يحتاج للقبه ليتّم الاعتراف بمساهماته، بل كانت إنجازاتهم هي التي تُعطيهم القيمة والاحترام.
وفي سياق الحديث، نجد شخصيات لبنانية مثل جبران خليل جبران، الذي حاز مكانة أدبية عالمية عبر أعماله الرائدة دون أن يكون بحاجة إلى لقب رسمي. وكذلك سعيد عقل وعاصي الرحباني وشارل مالك، الذين أثرت إنجازاتهم على الثقافة والفكر في العالم العربي وخارجه. هذه الشخصيات لم تُعرّف بألقاب أكاديمية، لكنها كانت تُعرّف بإنجازاتها الكبيرة وإسهاماتها الفعلية.
يُظهر هذا الجانب أهمية التركيز على المحتوى والإنجازات بدلاً من الألقاب؛ فهؤلاء الأفراد تميزوا بفضل إسهاماتهم الفعلية، وشكلوا جزءًا من الهوية الثقافية والتاريخية للشعوب العربية واللبنانية دون الحاجة لأي لقب مضاف إلى أسمائهم.
4- سلبيات التعلّق بالألقاب وأثرها على المجتمع.
أدّى التعلّق المبالغ فيه بالألقاب إلى عدد من الآثار السلبية على المجتمع، ومنها:
ضعف الكفاءة العملية: عندما يُمنح الأفراد ألقاباً دون أن يمتلكوا المؤهلات والخبرة اللازمة، يُشكّل ذلك حاجزاً أمام تطورهم المهني، حيث يعتمد البعض على الألقاب بديلاً عن الكفاءة. وقد يعتقدون بأن حصولهم على اللقب يُغني عن تطوير مهاراتهم أو تحسين أدائهم، ممّا يؤثّر سلبًا على جودة العمل والإنجاز.
استنزاف الموارد: في المؤسسات، تُستخدم الألقاب وسيلة للتحفيز بدلًا من الترقيات الحقيقية، في محاولة لتهدئة طموحات الموظفين الطامحين لزيادة الرواتب. لكن، هذه السياسة قد تؤدّي إلى تقليل الدافع الفعلي لتحسين الأداء، وتُعزّز ثقافة الاهتمام بالشكل بدلًا من المضمون.
تشجيع الغش الأكاديمي وشراء الشهادات: أدى الهوس بالألقاب في بعض الأحيان إلى ظهور تجارة الشهادات الأكاديمية، حيث يسعى البعض للحصول على شهادات بطرق غير شرعية لتحقيق مكانة اجتماعية. هذا السلوك يُضعف مصداقية المؤسسات التعليمية ويساهم في نشر ثقافة التزييف. مثال على ذلك، رئيس إحدى الجامعات اللبنانية الذي حصل على شهاداته تزويراً، الأولى شهادة الماجستير التي منحها لذاته كون الجامعة تمتلكها العائلة والثانية شهادة الدكتوراه التي كتب أحدهم رسالة الدكتوراه له!
إضعاف قيم التواضع والعمل الجماعي: ينمو التمسّك بالألقاب ثقافة فردية متعجرفة، ممّا يجعل من الصعب بناء بيئة عمل قائمة على التعاون؛ يتراجع التواضع والقيم الجماعية في ظل ثقافة تتغذّى على الفردية والتمسّك بالشخصية النرجسية.
5- دور الأهل والمجتمع في تشكيل ظاهرة التعلق بالألقاب.
للأهل دور أساسي في ترسيخ أهمية الألقاب الأكاديمية عند الأبناء، خاصة في الأسر التي لم تتاح لها الفرص التعليمية. يرى الأهل في تعليم أبنائهم ونجاحهم الأكاديمي وسيلة لتحقيق فخر خاص يُعوّض معاناتهم وتضحياتهم. ولذلك، فإن فخرهم بلقب “الدكتور” أو “الأستاذ” يرتبط بحرصهم على رؤية نجاح أبنائهم.
لكن في بعض الحالات، تتحوّل هذه الألقاب إلى عبء على الأبناء، حيث يترسّخ لديهم الشعور بأنهم بحاجة للتمسّك باللقب للحفاظ على مكانتهم أمام المجتمع، حتى إذا كانت إنجازاتهم الحقيقية ضئيلة. يظهر ذلك في بعض الحالات المتطرفة، حيث يشعر الأبناء بالخجل من أصولهم البسيطة، وينظرون للألقاب كطريقة للتنصّل من خلفياتهم المتواضعة.
هذا التأثير المتبادل بين طموحات الأهل والأبناء يساهم في ترسيخ ثقافة زائفة، حيث يصبح التقدير الاجتماعي مرتبطاً باللقب، بغض النظر عن تحقيق إنجازات فعلية أو إثراء المجتمع بمساهمات ملموسة.
6- الحلول المقترحة لتقليل التعلّق بالألقاب وتوجيه الطموح نحو الإنجاز الحقيقي.
تشجيع ثقافة الإنجاز والعمل الفعلي: يجب على المجتمعات والمؤسسات التعليمية تعزيز القيم التي تركّز على تطوير المهارات وتحقيق الإنجازات، بدلاً من التركيز على التباهي بالشهادات. من المهم توجيه الطلاب نحو تقدير قيمة العمل الجاد والنجاح القائم على الإنجاز الفعلي، وذلك عبر برامج تدريبية وتعليمية تركّز على التطبيق العملي بدلاً من الحصول على الألقاب فقط.
التركيز على الكفاءة في المؤسسات: ينبغي على المؤسسات العامة والخاصة التقليل من أهمية الألقاب الأكاديمية في تحديد الكفاءة، واعتماد معايير عملية تستند إلى المهارات والخبرات، وليس إلى الشهادات فقط. كما ينبغي منح فرص الترقية بناءً على الأداء الفعلي بدلاً من الألقاب الأكاديمية.
إعادة تعريف النجاح: على المجتمع العمل على إعادة تعريف مفهوم النجاح بشكل شامل، بحيث يصبح مرتبطًا بالإنجازات والقيم الإنسانية، مثل التعاون والابتكار، بدلاً من التباهي بالألقاب والمظاهر. يمكن تحقيق ذلك عبر حملات توعية تُبرز قيمة التواضع والإنجازات التي تخدم الصالح العام.
دعم التعليم الشامل والمستدام: يجب دعم نظام تعليمي شامل يهتم بتطوير المهارات الفكرية والعملية لدى الأفراد، ليكون التعليم مبنيًا على أساسيات بناء الشخصية وتنمية القدرات الحقيقية، وليس فقط لتحقيق الشهادات. يمكن تحقيق ذلك من خلال تطوير المناهج التعليمية وإدخال برامج مهنية تسعى لتوفير الخبرات العملية، بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل.
7- الخاتمة.
إن المعضلة التي يتناولها هذا المقال تعكس مشكلات أعمق في بنية المجتمع العربي بشكل عام واللبناني بشكل خاص وتطلعاته التي غالبًا ما تتداخل مع رموز سطحية على حساب المعنى الحقيقي للإنجاز. الألقاب، رغم أنها في الأصل وسيلة تعبّر عن مكانة الفرد الأكاديمية والمهنية، إلا أنها فقدت مضمونها لتصبح مجرد غطاء للمكانة الاجتماعية. بالتالي، فإن التوجّه نحو تقدير العمل الفعلي والإنجازات الواقعية هو الحل الأمثل، لبناء مجتمع يسعى للنهوض بعيدًا عن الاستعراض والمظاهر الخادعة.