غير مهتمة باليوم الأسود !
د. غالب خلايلي
لا أدري لماذا صار المال شريان الحياة الوحيد عند معظم الخليقة. أنا لا أدّعي لحظة واحدة أنه غير مهم، لكني أجزم أن إعطاءَه كل الأهمية خطأ مدمر. ولا أدري من أين جاءنا هذا المثل القاسي: (معك قرش بتسوى قرش)، ولا إلى أي زمن سوف يستمر، وإلى أي دركٍ سوف يهبط بنا!
شخصياً، أرى المال (خادما جّيدا لكنه سيد رديء) كما قال المثل، ولم أكن في أي يوم متلافاً، فكنتُ صغيراً آكل همّ المكافح الذي جناه (أي والدي)، وأحتفظ بقروشه القليلة إلى وقتِ حاجتها، وكانت تصل إلى ليرات في الأعياد (ما أهمها في تلك الأيام!)، فلا أنفقها في الشهوات، إذ كان البيت يؤمن جُلّ ما هو مطلوب. وحينما كبرتُ، لم أتأثّر بكِبَرِ المبلغ في جيبي أبداً، فقراري واحدٌ أياً كان المبلغ، والقاعدة: هي أنّ ما هو ضروري أنفق عليه بقدر استطاعتي، وإلا فليبق (القرش الأبيض لليوم الأسود).
كثيرون لا يفهمون معنى الحكمة السابقة، وينفقون أكثر حتّى من طاقة رواتبهم ومن يساعدهم من الأهل والأصدقاء، على مبدأ (أنفق ما في الجيب، يأتِك ما في الغيب) الذي صبح (أنفق ما في الجيب، واستلف مش عيب)! وقد أتى الغيب على أناس على منفقين بغير حساب، فصاروا بعد عقود من كبار المفلسين أو ربما المحتالين والمرضى النفسيين.
كنت إذا ما صرفتُ مبلغاً، بعد المحاكمة والتفكير، أراجع نفسي وأسأل: هل كنتُ على حق؟ وهل المُشترى سينفعني بقدر ثمنه على الأقل؟
لن أتحدّث عما اشتريت، لأن الحاجات مثل القدرات هي أمور نسبية بين البشر، لكني كنت دائماً أقارن الوقت بالمادة أيهما أثمن؟ ولا شك أن الوقت هو الأثمن باستمرار، فعلى هذا أفضل للمرء أن يشتري ما ينفعه وينفع عائلته مع الوقت بدلاً من إضاعة المال في غير موضعه. مثلا: إذا اشترى المرء آلة موسيقية (ولو غالية بعض الشيء) وتعلّم لغة جديدة لعُدّ ذلك استثماراً مهمّاً للمال والوقت. وإذا كانت إمكانياته تسمح بشراء سيارة جيدة فذلك أفضل من شراء سيارة مهترئة مع غياب الخبرة الميكانيكية، لأنها ستكلّف لاحقاً أكثر بكثير من سيارة جيدة تخدم صاحبها. مثل هذا السلوك أفضل بكثير من سلوك آخرين ينفقون الكثير على الملابس والسّهر والهواتف والتدخين والتجميل (ليته كذلك!) وأي شيء، ويستكثرون دفع مبلغ بسيط لمدرّس مجتهد (لا يعادل خلال سنة ثمن فستان أو عشاء فاخر)، يعلّم طفلهم علماً يمكن أن يحسّن مستقبله.
إن الاستثمار في العلم لا يعادله حتى الاستثمار في الذهب.
بمثل هذه الفلسفة علمتُ أولادي، فلم أشترِ ما لا ينفع، إذ لا ينفع المرءَ أحدٌ، بعد التجربة المرّة، سوى رب العالمين، حينما يحتاج مالاً لتعليمٍ أو لمرضِ عزيز.
لم أشترِ يوماً هاتفاً غالياً، ولا بدّلته كلما ظهر جديد. كان أولادي متأكدين من أن ذلك ليس بخلاً، فيما كان أغلب مَن حولي يبدّلون هواتفهم كما يبدّلون جراباتهم، إن كان بعضهم يبدّلها (!)، لا بل إن بعضهم لا يملكُ قوتَ يومه فيستدين (وقد يحتال أو يسرق) من أجل شراء جهاز غالٍ له وربما لأفراد عائلته. يأتيني القنوط والأسى وأنا أرى أناساً لا يعملون ولا ينتجون، ثم يلبسون أفخم الملابس، ويتباهون (بالماركات) ويحملون أحدث (الموبايلات)، وثمن الواحد منها يعادل مصروف عائلة لسنة أو أكثر. وحينما تراجعُهم بأدبٍ يبرّرون، أو يبرّر من حولهم ممّن لم يلدغهم أفعوان الحياة بعد، هذه الفعال الشنيعة بالقول: هؤلاء شبّان، يحبّون أن يعيشوا حياتهم، ويتباهوا بمظهرهم أمام أقرانهم!
يا للفضيحة مرتين!. لو تعب هؤلاء بأموالهم لما فعلوا ذلك. والله إني أتعجب أشد التعجب وأنا أرى كيف يتحوّل تباهي المرء من رجولته وعمله وإبداعه وشهامته إلى لباسه وهاتفه!
لهذا لا عجب أن بتنا نرى أناساً كثيرين بلا شهامة ولا كرامة ولا مروءة ولا رجولة. ولا عجب أيضاً أن يقل العمل المنتج والإبداع.
آه، كم يدفع الناس في بلادنا ثمناً كبيراً لهواتف غالية لا تلبث أن تصبح برخص التراب بعد أقل من سنة! لكنه المجتمع المادي (المتخلّف؟) الذي نحسب له حساباً كبيراً يفوق إمكانياتنا، لأن هذا المجتمع لا ينظر إلى قيمة الأشياء بل إلى سعرها (وماركتها)، ولا يقيّم المرء بما فيه من خصال كريمة، بل بما يلبس ويحمل من هواتف ويركب من سيارات.
لقد خرّبت المادية المقيتة حياتنا، فبدلا من أن يأتي العريس بخاتم بسيط، بات عليه أن (ينتحر) من أجل تأمين الطلبات. وبدلاً من أن ينظر الأهل إلى أخلاق العريس وشهامته وعلمه، باتوا ينظرون إلى القشور التي تغلّفه. وبعدئذ يتعجّب الناس لماذا كل هذا الكذب في إعطاء بيانات الغنى الكاذب من غير بيّنات، ولماذا كل هذا الطلاق؟
هذه الحياة الاستهلاكية غير المنتجة (الفاسدة) خرّبت بيوت كثيرين، بل طالت دولاً صغيرة (وقعت رهينة للبنك الدولي) وأخرى كبيرة جداً، فلم تعد حياتهم تستوي إلا بالإنفاق العالي، حتى لو لم تكن الإمكانيات المادية جيدة. ترى الزوجة لا تعمل، ولا تنظّف بيتها، ولا تعرف الطبخ، ثم تريد كل ّشيء جاهزاً من المطاعم، ولا تقبل إلا بأغلى الأحذية والملابس والعطور، وتبقى تنوح أمام زوجها المسكين كي يستدين أو يسرق. وإذا وافق شنٌّ طبقة، ترى الزوج على الشاكلة ذاتها، فإذا به يبتدع الحيل من أجل ابتزاز الآخرين.
وفي هذه الحياة القاسية يرى المرء محتاجين أو من يدّعون الحاجة. الصنف الأول صامتٌ يعضّ على الجرح، والثاني كاذب محتال، من أجل الابتزاز، ويترفّع عن قبول أي مساعدة عينية. يريد المال فقط. ومع أن (القول للأعور أعور) مناسبٌ في تلك الحال، إلا أن المرء الكريم يستحي ويسكت. ومع تكرار صور الابتزاز يكره المرءُ كلّ من كانوا على هذه الشاكلة، أو كانوا من المدمنين على الصرف، المعتمدين على غيرهم بلا وجه حق، وخاصةً من يُسمَّون (رفّاسي النعمة)، الذين لا يتذكرون الآخرين ما داموا في نعيم، فينفقون حتى يفلسوا، ثم يبكون ويشتمون من أحسنَ إليهم طول الزمان إن أبدى لهم أدنى ملاحظة محقّة، ويعدونه (وحشاً). وهنا تذكر قول الإمام علي كرم الله وجهه: “ما ترك الحق لي صاحباً”.
حدثني صديق عزيز عن زميل له في الدكتوراة في باريس، كان يشتري خبز (السمّون) الأبيض، فيخرج لبّه ويمسح به حذاءه، ويأكل الباقي بعد صنع شطيرة! وتمر الأيام، فإذا برامي اللبّ يبحث عن الخبز في صناديق القمامة أيام الحرب الأهلية الطويلة في بلده. وحدثني آخر عن ضيقه ذرعاً بقريب متطلب، إذ اشترى ذات عيدٍ بضع علب حلوى، وخص قريبه بعلبةٍ منها، فإذا به يردها بأنفة: هذه (الزبالة) لا نأكل منها!. هذه ليست قصصاً نادرة في مجتمع يجحد النعمة، مثلما يجحد موجدَها ومعطيَها.
واليوم، مع تقطع السبل في الظروف الصعبة، وظهور آفاتٍ كامنة ما كانت لتظهر لولا شظف العيش وسوء الزمان، لا يبقى شيء مفيد ومهم سوى المال، تعطيه لناكر الجميل فيقال عنك: إنسان، وتمنعه فتوصف بالوحش. هل أقول: إنه بات بإمكان المرء أن يطبق معادلةً جديدة للعلاقات البشرية الأسّ فيها هو المصلحة المادية؟
هل يمكن أن نفسر كل الخراب الذي طال بلادنا لولا الوحش المادي المنطلق من عقاله في غياب الأخلاق؟
قيل لنا في الماضي: لا تقدّم سمكاً لمحتاج، بل علّمه كيف يصطاد السمك.
واليوم نرى كثيرين، وهم في تمام الصحة والعافية والقدرة العقلية والعضلية، لا يريدون سوى الاصطياد في الماء العكر، والويل لمن يقول كلمة حق.
لكن للدنيا كلمتها وللحق سلطانه.
العين في 8 كانون الأول 2024