د. الياس ميشال الشويري
في وطنٍ مزّقته الحروب وأثقلته الصراعات، تبدو العودة إلى الأرض بعد أشهرٍ من النزوح وكأنها ولادة جديدة على أطلال الماضي. لبنان، هذا الوطن الذي عانى من الدمار تلو الآخر، يجد نفسه مجدداً أمام مشهد مألوف: شعب نازح يعود إلى قراه المدمّرة، ليرمّم ما تبقّى من حياته. بتاريخ 27 تشرين الثاني 2024، وبعد أشهرٍ من النزوح، عاد النازحون إلى منازلهم في الضاحية والبقاع والجنوب، مثقلين بذكريات الألم ورائحة الموت، ليعيدوا بناء ما تهدّم ليس فقط من الحجارة بل من أرواحهم أيضاً. في هذا السياق، تطرح العودة أسئلة عديدة حول معنى الانتصار الحقيقي: هل هو البقاء والصمود، أم أنه مجرّد غطاء يخفي تحت رماده جراحاً لم تلتئم بعد؟
1- العودة إلى القرى بعد النزوح الطويل: الأمل وسط الركام.
في 27 تشرين الثاني 2024، كان المشهد مفعماً بالتناقضات، حيث هرع النازحون إلى قراهم التي تحولت إلى رماد، لكنهم عادوا مع ذلك. عودة النازحين لم تكن فقط استرجاعاً للمكان، بل محاولة لاسترجاع الزمن الذي سرقته الحروب. في تلك العودة، كان الحنين يتغلب على كل الخسائر، وكان البرد القارس أقل قسوة من الانتظار الطويل في مخيمات النزوح. البيوت التي سويت بالأرض لم تعد تحتضن دفء الذكريات، ومع ذلك، كان أهم ما يشغل العائدين هو أن يجدوا سقفاً يظلمهم، مهما يكن هشاً أو مهشّماً. العودة كانت أشبه بإعلان انتصار على النزوح، لا على الحرب.
2- ذكريات حرب لم تكن الأعظم: صدمة البدايات المؤلمة.
في العام 2006، كانت الأرض تهتز تحت أقدام الجميع، والجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية تحولّت إلى مسرح للدمار. لم يكن أصعب من اللحظة التي جُمّد فيها الزمن وتوقّف الحاضر عن التقدّم. في ذلك الحين، كتبت الحروف الأولى من الألم: “ليس أصعب من أن يكون في الفم كلام كثير ولا يعرف المرء من أين يبدأ”. كل شيء فقد بريقه، من الحقول الخضراء إلى الأزقة المأهولة، وكأن الوطن كله بات أسيراً لدموع أهله. السؤال الأهم حينها كان: ماذا بعد الرابع عشر من آب؟ هل سيستعيد الوطن نبض الحياة أم سيظلّ معلقاً بين الماضي والحاضر؟
3- النكبة تتكرر والناس لا يبالون: الصبر فوق الركام.
مرت السنون وكأنها لحظات عابرة، لكن النكبة لم تغب عن المشهد. مع كل حرب جديدة، كانت المباني تتهاوى، والجدران تضعف، لكن إرادة الناس ظلت أقوى. مشهد الأب الذي يقف وسط منزله المحطم يتفقد الغرف المنهارة والأم التي تجمع قطع الزجاج المتناثر كان يتكرر في كل بيت. لم يكن الزجاج المكسور ولا الأبواب المشلعة مصدر قلق، بل كان البيت بالنسبة لهم رمزاً للبقاء. يكفي أن يجدوا مكاناً يحتويهم، حتى لو كان مجرد غرفة واحدة بلا نوافذ، فالبيت ليس حجارة فقط، بل دفء الروح والأسرة.
4- إشارات النصر المتكررة ورائحة الموت: انتصارات ممزوجة بالدماء.
اللافتات والشعارات التي عُلّقت على عجل لم تستطع تغطية رائحة الموت التي كانت تفوح من كل زاوية. في 2006، كانت الشعارات تُمجّد “البيعة”، والآن تتحدث عن “هزيمة إسرائيل”. لكن ما الذي تغير؟ هل تغيرت حقيقة الألم؟ النصر الحقيقي لم يكن في الشعارات، بل في الصمود، لكن هذا الصمود كان ثمنه باهظاً. كان الناس يمشون بين الركام، يرفعون رايات النصر، بينما تُذكرهم رائحة الجثث بأن الموت كان هو المنتصر الوحيد.
5- ما معنى النصر حقاً؟: سؤال مؤجل بلا إجابة.
النصر كلمة يحملها العائدون على ألسنتهم، لكن هل توقفوا للحظة ليسألوا أنفسهم عن معناها؟ في كل زقاق معلّقة لافتة تقول “لبنان هزم إسرائيل”، لكن السؤال الأكثر إلحاحاً: هل النصر مجرد صمود؟ هل النصر أن تُهدم البيوت ثم نعود لنعيد بناءها فوق الركام؟ الأجوبة كانت تتكرر بلا تغيير، مقترنة بنفس الشعارات التي ملأتها الحروب السابقة. ربما النصر الحقيقي كان في البقاء، لكن بأي ثمن؟
6- الذكريات والألم في العودة: محاولة لملمة الماضي.
كل بيت عاد إليه أصحابه كان يحمل في داخله شواهد على حياة غادرت. السجاد على الشرفات، الأثاث المكسور، والجدران التي امتصت أصوات الانفجارات كلها شواهد على الألم المستمر. ومع ذلك، كان الناس يحاولون جمع ما تبقى من ذكريات، لأن الذكريات هي ما يبقيهم على قيد الأمل. المشي في هذه البيوت كان أشبه برحلة داخل الذاكرة، حيث يتجول العائدون بين الماضي والحاضر، يتساءلون عن المستقبل القريب والبعيد.
7- جلجلة لبنان المستمرة: نحمي ونبني أم نموت ونحزن؟
كل حرب في لبنان تحمل عنواناً جديداً، لكن نهايتها واحدة: الركام والدماء والشعارات الفارغة. “نحمي ونبني” شعار يتكرر منذ عقود، لكن البناء دائماً ما يكون على جثث الضحايا. الأرصفة الملطخة بالدماء، والإشارات الحمراء التي تذكرنا بمن فقدوا حياتهم كانت دليلاً على أن هذا “النصر” لم يكن سوى خسارة أخرى تضاف إلى قائمة طويلة من الهزائم المستترة خلف الشعارات.
8- الفرح الممزوج بالدماء والأسئلة المعلقة: إلى متى؟
أطفال يرفعون أسلحة بلاستيكية وشباب يطلقون النار في الهواء احتفالاً. كان الفرح يُترجم دائماً بالرصاص، وكأن الحياة لا تكتمل إلا بصوت الطلقات. لكن الأسئلة ظلت قائمة: ماذا عن الغد؟ ماذا عن الدولة؟ هل سنظلّ نعيش الانتصارات الهشّة والانكسارات المقنّعة؟ اللبنانيون يستحقون حياة أفضل من العيش في ظل انتصارات باهتة ووعود فارغة. ومع ذلك، يبدو أن قدرهم أن يعيشوا الانكسار بنكهة الانتصار، وأن يتساءلوا كل مرة: متى نستيقظ؟
9- الخاتمة.
ليس أصعب من أن نرسم الابتسامة وسط الدمار، وليس أكثر قسوة من أن نسمع هتافات الانتصار بينما رائحة الدماء لا تزال تفوح في الأرجاء. لكن في لبنان، تُفرض على الناس معادلات قاسية تجعلهم يحتفلون بالعودة إلى الركام وكأنه انتصار. في هذا المقال، حاولنا سبر أغوار مفهوم النصر في وطنٍ تعوّد أهله على الألم والانكسار بنكهة الانتصار. يبقى السؤال الأهم: هل ستظّل هذه الحلقة المفرغة تتكرّر؟ أم أن لبنان سيشهد يوماً انتصاراً حقيقياً يحمل معه السلام والاستقرار، بعيداً عن الشعارات التي لا تزيد الجراح إلا عمقاً؟ في النهاية، ربما لا يكون الانتصار الحقيقي إلا في كسر هذه الحلقة، والبحث عن حياة لا تُختصر بالعودة فوق الركام.