الطاعة العمياء
د. الياس ميشال الشويري
تعتبر مقولة محمد حسنين هيكل “لا أريد أن أكون ضمن هؤلاء الذين تنحني هاماتهم أمام الحكام في قصورهم، وترتفع هاماتهم أمام الحكام في قبورهم” من أعمق الأقوال التي تناولت العلاقة بين الحكام والمحكومين في العالم العربي. هذه المقولة تعكس رؤية نقدية حادة لظاهرة التبعية، التي تنشأ من صمت الشعب أمام فساد الحكام وتخليهم عن مسؤولياتهم الوطنية. في هذا المقال، سنتناول هذه المقولة في سياق لبنان، الذي يعد نموذجاً حيّاً لتجسّد هذه الظاهرة بوضوح عبر تاريخه المعاصر، وسنناقش كيف أن هذه الفكرة تكشف عن العديد من القضايا السياسية والاجتماعية التي يعاني منها لبنان اليوم.
1- المقولة في سياقها التاريخي.
تعود المقولة إلى فترة كان فيها العالم العربي يعاني من حالة من الهيمنة السياسية والعسكرية، حيث كانت شعوب المنطقة تُظهر التبجيل والاحترام للأنظمة السياسية الحاكمة، رغم انعدام الكرامة الإنسانية وتدهور مستويات المعيشة. هيكل، الصحفي الكبير والمفكر السياسي، الذي عاصر العديد من الأنظمة في العالم العربي، كان يشهد تطور هذه الظاهرة في مصر والعالم العربي بشكل عام، حيث كان الحكام في قصورهم يعيشون في رفاهية بينما كان الشعب يعاني من الفقر والتهميش.
في سياق لبنان، كان للأنظمة السياسية المختلفة دور كبير في خلق هذه الثقافة. لبنان، الذي مرّ بحروب أهلية وصراعات سياسية طائفية، شهد في كل مرحلة تغييرات في الحكام الذين تمسكوا بالسلطة لفترات طويلة، ما ساهم في تفشي الفساد وسوء الإدارة. فبعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، جاء اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب لكنه لم يعالج جذر الفساد والتبعية السياسية.
2- ثقافة التبعية في لبنان.
لطالما كانت الثقافة السياسية في لبنان قائمة على احترام وتقديس “الزعيم“، الذي يعتبر رمزًا للسلطة والنفوذ. هذه الظاهرة تجد جذورها في النظام الطائفي الذي يوزع السلطة بين الطوائف، ما يجعل كل طائفة تشعر بالولاء لزعيمها، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة. هذه الظاهرة تساهم في تعزيز التبعية، حيث يتم تجاهل المطالبة بالحقوق الأساسية أو المحاسبة على الفساد، بينما يتم التركيز على تعزيز مكانة “الزعيم” في الحياة السياسية.
منذ اتفاق الطائف، بات النظام السياسي اللبناني يعتمد بشكل كبير على تحالفات بين الأحزاب الطائفية والسياسية. هؤلاء الحكام لا يتورعون عن استغلال مناصبهم لتحقيق مصالحهم الشخصية، بينما ينحني الشعب أمامهم مُقدّسًا إياهم. وعندما يرحلون، حتى وإن كانوا قد أضرّوا بوطنهم، يُحتفل بذكراهم بشكل يتناقض مع الأضرار التي تسببوا بها.
بلا تعليق
3- التبعية بعد وفاة الحكام – السياسة اللبنانية في قبورهم.
تجسد المقولة “ترتفع هاماتهم أمام الحكام في قبورهم” واقعًا مؤلمًا في لبنان، حيث يُحيي اللبنانيون ذكرى القادة الذين حكموا البلاد بفساد دون التأثير الحقيقي على تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. عند وفاة هؤلاء الحكام، يبدأ التقديس، وتنقلب الصورة من الانتقاد إلى التمجيد. وهذا يخلق حالة من التناقض الشديد بين الصورة الواقعية لهؤلاء الحكام أثناء حياتهم وما يُكتب عنهم بعد وفاتهم.
4- تجليات هذه المقولة في الواقع اللبناني المعاصر.
في لبنان اليوم، تتجسد المقولة في أسوأ صورها. السياسة اللبنانية ليست مجرد صراع على السلطة بل هي أيضًا صراع على النفوذ الشخصي والطائفي. بينما يعاني الشعب اللبناني من انهيار اقتصادي غير مسبوق، تواصل الطبقات السياسية استغلال مناصبها لتحقيق مكاسب خاصة لها، في حين يظل المواطن اللبناني مُعاقًا في دائرة من الفقر والبطالة.
عبيد للزعيم و لو كان تمثالا!
في الفترة الأخيرة، خلال احتجاجات 17 تشرين الأول 2019، خرج الشعب اللبناني إلى الشوارع مطالبًا بالتحول إلى نظام سياسي يضع حدًا للفساد والتبعية. هذه المظاهرات كانت رد فعل على “الهيبة” المزيفة للطبقة السياسية التي كانت تُعتبر غير قابلة للمس بالمجتمع اللبناني. ومع ذلك، سرعان ما تم قمع هذه الحركات الشعبية من قبل نفس الطبقات السياسية التي تسعى للحفاظ على مواقعها، ما يعكس عمق المشكلة التي تناولها هيكل في مقولته.
5- الحاجة إلى بناء ثقافة سياسية جديدة.
المقولة تطرح تحديًا حقيقيًا للمجتمع اللبناني، وهو ضرورة التخلص من ثقافة التبعية السياسية التي طالما كانت سائدة. لبنان بحاجة إلى نظام سياسي يضمن المشاركة الفاعلة لجميع المواطنين في اتخاذ القرارات، ويعزز من مبدأ المحاسبة والمساءلة. من خلال إرساء أسس دولة القانون التي تستند إلى العدالة والمساواة، يمكن للمجتمع اللبناني أن يتجاوز ثقافة “الزعيم” المعبود إلى ثقافة المواطنة الحقيقية.
إضافة إلى ذلك، يجب أن يتم تعزيز الوعي السياسي والتعليم المدني بين المواطنين لكي يكونوا أكثر قدرة على مواجهة الضغوط السياسية والاقتصادية، وألا يظلوا أسرى للزعامة التقليدية.
بامر حذائك
6- الخاتمة.
إن المقولة التي أطلقها محمد حسنين هيكل تعكس مأساة الشعوب العربية التي تعيش تحت رحمة حكام لا يهتمون بمصالح شعوبهم، بل يسعون إلى تعزيز سلطتهم بأي ثمن. وفي لبنان، تتجسّد هذه المقولة بوضوح، حيث يعيش الشعب اللبناني حالة من التبعية المستمرة التي لا تنتهي حتى بعد وفاة الحكام. ولكن، في نفس الوقت، تمثل هذه المقولة دعوة للتغيير، ولإعادة النظر في العلاقة بين الحكام والمحكومين، وتبني ثقافة سياسية جديدة تضمن الكرامة والعدالة لجميع اللبنانيين.