د. الياس ميشال الشويري
يُعتبر الدين في المجتمع اللبناني، كما في كثير من المجتمعات العربية، جزءاً أساسياً من الهويّات الثقافية والاجتماعية. لكن في الآونة الأخيرة، يلاحظ البعض أن خطباء ودعاة في المساجد يربطون فكرة دخول الجنّة بمفاهيم تتعلّق بالحروب، إراقة الدماء، والجهاد. هذه الأفكار تشكّل محوراً في الكثير من الخطابات الدينية التي تستغّل الدين لتبرير العنف والحروب.
هذا المقال يطرح تساؤلات أساسية: لماذا يربط خُطباء المساجد دخول الجنة بالحروب وإراقة الدماء؟ هل الدخول إلى جنة الله يتطلّب السير في طريق معبّد بدماء الفقراء والمستضعفين؟ ولماذا يغيب عن الخطاب الديني الربط بين الجنّة وبين أعمال الخير والمحبة والتسامح واحترام الجار، والتي هي من صلب تعاليم الدين الإسلامي؟ وهل يمكننا اعتبار الخطاب الديني الذي يحفّز على العنف، بمثابة انحراف عن الطريق السليم الذي يهدف إلى بناء مجتمع عادل وسلمي؟
الصلاة و العنف و الدم لا تلتقي
1- الخطاب الديني والحروب.
لقد كان الخطاب الديني التقليدي، في بعض الأحيان، يشير إلى أن الجهاد هو الطريق الأوحد إلى الجنة. يُستشهد في هذا السياق ببعض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الجهاد والقتال في سبيل الله، لكن هذا الفهم قاصر في تفسير رسالة الإسلام. فالإسلام، في جوهره، دين يدعو إلى السلام والتعاون والتراحم بين الناس. الآيات التي تتحدث عن الجهاد، في حقيقتها، تتعلّق بحماية النفس والدفاع عن المظلومين في مواجهة العدوان، ولا ينبغي أن يُفهم منها أن الحرب هي الطريق الأساسي إلى الجنة.
في الواقع، الجنة في الإسلام ترتبط بالأعمال الصالحة، كما في الآية الكريمة: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ” (البقرة: 82). فمن خلال هذه الآية، يتضح أن الإسلام لا يربط الجنة بالقتل أو إراقة الدماء، بل بالعمل الصالح الذي يشمل الأعمال الاجتماعية، الاقتصادية، والإنسانية التي تهدف إلى بناء مجتمع عادل وسلمي.
2- الخطاب الديني في لبنان.
لبنان، الذي يُعتبر نموذجاً للتعدّد الديني والطائفي في المنطقة، شهد العديد من الحروب والصراعات التي زُجَّ فيها أبناؤه بسبب خطاب ديني يحمل دعوات إلى الجهاد أو القتال باسم الدين. في فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، تّم استخدام الخطاب الديني لتبرير القتل والعنف، بل إن البعض من رجال الدين استغلوا مشاعر الناس وعواطفهم الدينية لحثهم على المشاركة في هذه الحروب. هذا الخطاب الديني كان في كثير من الأحيان مدفوعاً بعوامل سياسية وطائفية.
اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على الحرب الأهلية، لا يزال هناك من يستغل الدين لأغراض سياسية، ويدفع الناس نحو العنف باستخدام شعارات دينية مثل “الجهاد” و”نصرة الإسلام“. في هذا السياق، يتمّ تصوير الجنة وكأنها مكافأة لأولئك الذين يشاركون في الحروب الدموية، بينما يغيب التركيز على قيم السلام والمصالحة التي هي جزء أساسي من رسالة الإسلام.
3- الخطاب الديني الحقيقي .
الإسلام الحقيقي يدعو إلى الحفاظ على حياة الإنسان وصونها، ويتضمّن رسائل واضحة تدعو إلى العدل والرحمة. ولا يمكن لأي تفسير صحيح للإسلام أن يربط الجنة بالحروب والتدمير. على العكس، الدعوة الإسلامية الحقيقية تدعو إلى تعزيز القيم الإنسانية، والابتعاد عن النزاعات الدموية. على سبيل المثال، في الحديث الشريف: “من لا يُؤثِر الناس، لا يُؤثِره الله“، نجد دعوة صريحة لحب الآخرين ورعايتهم، وهذا يتناقض تماماً مع دعوات العنف.
من ناحية أخرى، ينبغي على الخطاب الديني أن يشجّع على محاربة الفساد، دعم المحتاجين، والعمل من أجل بناء مجتمع عادل. لا يمكن الجهاد أن يكون وسيلة لتدمير المجتمع أو تخريب الأوطان، بل هو دعوة للحفاظ على الأمن والسلام الاجتماعي. لهذا يجب على رجال الدين أن يركّزوا على تعليم الناس أهمية محاربة الظلم والفقر والفساد، بدلًا من التشجيع على الحروب.
الرصاص يطلق على حمائم السلام
4- العنف في الخطاب الديني وتأثيره على الأجيال القادمة.
إن تكرار الخطاب الديني الذي يربط الجنة بالحروب وإراقة الدماء له تأثير مدّمر على الأجيال القادمة. فهو يعزز من ثقافة العنف ويُشجع الشباب على الانضمام إلى معارك ليست لهم فيها ناقة ولا جمل. ما يحدث هو أن الأفراد في المجتمعات المتأثرة بهذا الخطاب يُقنعون بأن الحرب هي السبيل الوحيد للحصول على رضا الله والوصول إلى الجنة، ما يخلق جواً من التطرف ويعمق الكراهية بين الطوائف والأديان المختلفة.
في لبنان، على سبيل المثال، يستمر الشباب في التعرّض لهذا النوع من الخطاب في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، مما يجعلهم عرضة للتجنيد في الجماعات المتطرفة. هذا التوجه يمكن أن يقود المجتمع إلى المزيد من التفكك والدمار، بدلاً من أن يقوده نحو السلام والتنمية المستدامة.
5- الإسلام كدين للسلام والعدالة .
الإسلام ليس ديناً يدعو إلى العنف، بل هو دين يدعو إلى السلام. يكرّر القرآن الكريم الدعوة إلى العدل والمساواة، وينبذ جميع أشكال القهر والظلم. من هنا، فإن الخطاب الديني يجب أن يكون منصّباً على بناء السلام بين البشر، وتعزيز العلاقات الإنسانية بين الأفراد، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الطائفية. يجب أن يُربط الدخول إلى الجنة بأعمال الخير، مثل مساعدة الفقراء، نشر السلام، ومحاربة الفساد.
في النهاية، يجب على رجال الدين أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في تقديم التفسير الصحيح والمستنير للإسلام، بعيداً عن التوظيف السياسي أو الطائفي. بدلًا من الترويج لأفكار العنف، يجب أن يُركّز الخطاب الديني على القيم الإنسانية الشاملة، التي تدعو إلى العيش المشترك، والاحترام المتبادل، وإصلاح المجتمع من خلال العمل الجاد والطموح لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
6- الخاتمة.
إن ربط الجنة بالحروب وإراقة الدماء هو انحراف عن الرسالة الإسلامية الحقيقية التي تدعو إلى السلام والعدالة. الخطاب الديني في لبنان، وكذلك في العديد من الدول العربية، يجب أن يعكس القيم الإنسانية التي يدعو إليها الإسلام، والتي تركز على الخير والتسامح. إذا كنا نريد بناء مجتمع عادل وسلمي، يجب أن يُعاد توجيه الخطاب الديني ليعزز من ثقافة الحوار، التسامح، والعمل على بناء وطن خالٍ من الفتن والظلم.