خيارك يحدد مستقبلك
د. غالب خلايلي
الخيار الذي يختاره المرء، ويتبين لاحقاً أنه خاطئ، سوف يدفع ثمنه عاجلاً أو آجلاً.
هذا صحيح في كل خطوة يخطوها الفرد، بدءاً من قراره أن يتعلّم، وأي مدرسة يختار، ثم ما الذي يود أن يكونه في الحياة، مهندساً أو طبيباً أو صحفياً..؟ ومتى يريد الزواج، وبمن: بامرأة من بيئته أم من بيئة غريبة؟ امرأة متعملة أم جاهلة؟ أتعادله سناً أم تفوقه أم تصغره؟ أسينجب الأولاد، وعددهم، أم سيؤجل الموضوع سنوات؟ وأين سيعيش حياته، أفي القرية أم في المدينة؟ أفي بلده أم خارجه؟ أسيصرف كل ما يأتيه أم سيوفر القروش البيض للأيام السود؟ أسيهتم بشراء منزل أم يبقى مستأجراً؟ أيصرف ثروة أبيه أم يستثمرها؟ وفي تفاصيل حياته: أسوف يسهر ويدخّن ويأكل الطعام الدسم، أم سينتبه لأضرارها ويمارس الرياضة؟ أيترك نفسه فريسة للتدخين والكحول والمهدئات أم سيكون قوي الشخصية لا تؤثر فيه صروف الدهر؟ أينحو منحى وطنيّاً أم سيتوجه للأجانب؟ أيعلّم أولاده لغة بلاده أم سيهجرها معهم؟
فإن كان طبيباً أسيتعمق في الدراسة أم سيكون سطحياً؟ هل يتوجّه إلى الترويج الطبي وما شابه؟ أيختار طب العيون أم النساء أم يتوجه إلى البوتكس والتجميل؟ أيقدر على تدبير مريضه من الألف إلى الياء أم سيحتاج إلى عون كثيرين؟
لكل ذلك أثمانٌ كبيرة تدفع، مقابل فوائد تُجنى، تقلّ أو تكثر تبعاً لأمرين: صحة الاختيار، وصدق التعامل مع الناس، بعيداً عن الغشّ والتدليس، وإن رأى الناظر غنى بعض المدلّسين، لكن ذلك لا يشكل قاعدة، لأن الكذابين سيقعون يوماً ما في شرّ أعمالهم.
لكن أكثر ما هو مؤلم في موضوع الأثمان هو وجود شخص ناصح أمين يتبرع بالنصيحة المخلصة لهذا المرء المأزوم أو ذاك قبل أن يقع في المحظور، ثم يضرب الأخير عرض الحائط بالنصح، ليلطم وجهه بعد عقد ندما.
فحين تنصح شخصاً ما بالسير في طريق التعلّم، وأنت ترى الفرصة سانحةً، بسبب صغر سنه (لديه الوقت ليتعلّم)، وتوفّر من يصرف عليه، وترى أيضاً أمامه مجهولاً خطراً إن لم يتعلّم، بعد أن يكبر وتتغير الظروف، فأنت ترشده إلى الطريق القويم، لأنك ترى مصلحته التي لا يراها بسبب غياب خبرته.
وحين تنصح شخصاً في موضوع الزواج، فلأنك ترى ما لا يراه وهو في أوج تعلقه بشخص ما، فلا يرى سوى الأمور الإيجابية، ويُعمى بصره عن الأمور السلبية، وترى بأم العين، بعد مرور زمن ليس بالطويل، أن هذا الذي لم يسمع نصيحتك قد انتهت أموره إلى حالة مأساوية (طلاق، خيانة، إهمال الأولاد…).
وحين تنصح شخصاً بأن يتجنب التدخين مثلا، وتعرّفه إلى مخاطره وبلواه، ثم تراه يدخن ويضحك من نصائحك، فيغلب أن يأتي الوقت وتشهد صاحبك يعاني في قلبه أو رئته أو حنجرته.
وهكذا توجد أمور كثيرة تنصح بها الناس ولا يرعوون. تنصح السيدة بألا تلعب بأسنانها نحتاً، فتجني سوء الإطباق وصعوبة المضغ والرائحة الكريهة، وتنصح أخرى بألا تبذّر المال وترمي الأثاث الصالح، فتشهد الذلّة وهي تحاول الاستدانة أو تقف عاجزة أمام تدريس ولد أو تمريض آخر. وتنصح ثالثة بألا تلعب ببشرتها، فإذا بها – أمام إغراء اللمعان – مشتورة الجفن أو الشفة، مشوّهة. وتنصح رجلاً بألا يتسأجر بيتاً غالياً وألا يسرف في حاجاته، فتشهد انتكاسته وأزماته المادية والمعنوية. وتنصح رجلاً بأن يكف عن النصب والاحتيال وابتزاز الآخرين، فإذا بك تشهد عزلته وربما سجنه. وتنصح شخصاً بأن يريح نفسه ولا يركض ليل نهار سعياً وراء المال، فإذا بك تشهد مرضه وانهياره. تنصح شخصاً بألا يدخل في مشروع جديد، لأنك تقرأ الأوضاع العامة، فإذا بك تشهد خيبته وهو يغامر بكل ما عنده.
ما أكثر النصائح المخلصة، وما أقل الذين يستمعون إليها، ثم ما أكثر البكاء بعدها.
فإذا كان هذا صحيحاً على مستوى الأفراد، فهو صحيح أيضاً على مستوى العباد والبلاد، فليس غريباً أن تقع بلاد بأكملها في شرك مصيدةٍ تدفع ثمنها غالياً، لأن الناس لا يقرؤون، لا التاريخ ولا الحاضر، وإذا قرأ بعضهم ما تقرؤه فإنه يصل – ويا للعجب – إلى فهم مغاير.
بديهي إذن أن الناس يجنون ثمار عقولهم، ويدفعون ثمن خياراتهم، وكثيراً ما يكون الثمن غالياً جداً جداً، لا رجعة فيه.
لهذا فإن الحكمة تتطلب حُسن الدراسة والسؤال والاستماع والقراءة الواعية، قبل الانزلاق في الوحل، أو الوقوع في الهاوية.
العين في 12 كانون الأول 2024