سجون سورية بعد اقتحامها
د. الياس ميشال الشويري
في ظلّ الأزمات المتكرّرة التي تعصف بلبنان، تبرز مأساة الاختفاء القسري والتعذيب كإحد أحلك الصفحات في تاريخه الحديث. آلاف العائلات اللبنانية تعيش في ظلال ألم فقدان أحبائها، ممّن اختطفوا أو فقدوا دون أثر، تاركين وراءهم فراغًا هائلًا وصمتًا رسميًا يفاقم الجرح. هذه المأساة ليست وليدة اللحظة، بل هي جزء من تاريخ طويل من التراكمات السياسية والاجتماعية التي عمّقت معاناة المواطنين وأثبتت عجز الدولة عن الوفاء بأبسط واجباتها تجاه شعبها.
1- مأساة الاختطاف والتعذيب.
إن الاختطاف القسري والتعذيب هما جريمتان تمتدان في جذور الصراعات الداخلية اللبنانية منذ عقود. خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، كان الاختفاء القسري ممارسة شائعة من قبل جميع الأطراف المتنازعة، حيث تمّ استخدامه كأداة لإسكات المعارضين وترهيب السكان. لكن، مع انتهاء الحرب، لم تنتهِ هذه الممارسات. لم تفتح ملفات المفقودين، ولم تُقدَّم أي مبادرات جادة لمحاسبة المسؤولين أو تقديم إجابات للعائلات المكلومة.
الضحايا في هذه المأساة ليسوا فقط أولئك الذين تمّ اختطافهم أو تعذيبهم، بل تشمل المأساة ذويهم وأحباءهم الذين يعيشون في دوامة مستمرة من الألم والترقّب. كل مفقود هو قصة تُروى بصمت، لكنه أيضًا شاهد على دولة اختارت أن تدير ظهرها لهؤلاء، وتغرق في مستنقع الإهمال والتجاهل.
2- الفراغ الأبدي: معاناة العائلات.
حينما يُختطف إنسان أو يُفقد قسرًا، فإن عائلته تُلقى في ظلام لا نهاية له. يصبح الأمل عبئًا ثقيلًا، والانتظار جرحًا مفتوحًا لا يلتئم. هؤلاء الأمهات والآباء والإخوة يعيشون يوميًا مع سؤال لا إجابة له: “أين هم؟ هل هم على قيد الحياة؟ هل تألموا؟“
هذا الفراغ الذي يتركه المفقودون ليس فقط شخصيًا، بل هو فراغ في الضمير الجماعي للوطن. إنه غياب لأبسط قيم العدالة والإنسانية. في ظلّ غياب الدعم الرسمي، تعاني هذه العائلات وحيدة، بينما تستمر الدولة في تجاهل مطالبهم المشروعة بالكشف عن مصير أحبائهم.
3- الصمت الرسمي: جريمة مضاعفة.
الصمت الذي يهيمن على الجهات الرسمية ليس فقط علامة على الفشل، بل هو شراكة ضمنية في استمرار المأساة. إن رفض الدولة فتح ملفات المفقودين أو السعي لتحقيق العدالة هو إهانة لأبسط حقوق الإنسان.
تحت وطأة هذا الصمت، تستمر معاناة العائلات، في حين أن المسؤولين يغرقون في أزمات سياسية واقتصادية لا تعير أي اهتمام للأبعاد الإنسانية لهذه القضية. المحاسبة غائبة، والعدالة مؤجلة، والجرح المفتوح يزداد نزيفًا.
4- الوجه الآخر للوطن.
وراء هذا الصمت، يبرز وطن آخر يتوق إليه اللبنانيون، وطن يحترم حقوقهم ويحمي كرامتهم. المفقودون والمختطفون هم جزء من هذا الحلم المجهض، وطن العدالة والكرامة الذي يبدو مستحيلًا في ظل النظام السياسي الفاسد القائم.
كل مفقود هو شاهد على وطن يتخلّى عن أبنائه، وطن يتعامل مع مواطنيه كأرقام لا كأرواح. لكن هذا الوطن الآخر لا يزال حيًا في قلوب الناس الذين يرفضون الصمت، والذين يصرخون في وجه النسيان.
5- لن ننسى: واجب الذاكرة والمطالبة بالعدالة.
رغم كل هذا الألم، يظلّ الأمل حيًا في قلوب اللبنانيين. الأمل بأن العدالة، وإن تأخرت، ستأتي يومًا ما. لن يُسمح بنسيان هؤلاء المفقودين، ولن تُمحى أسماؤهم من ضمير الوطن.
الذاكرة هي السلاح الأقوى في وجه النسيان. من خلال التمسّك بذكريات المفقودين وإبقاء قضيتهم حيّة في الأذهان، يمكننا أن نعيد بناء هذا الوطن على أسس العدالة والكرامة.
6- الخاتمة.
إن مأساة المفقودين في لبنان ليست مجرد قضية إنسانية، بل هي اختبار حقيقي للدولة والمجتمع. إنها تضعنا جميعًا أمام سؤال أساسي: هل يمكن لوطن أن ينهض دون عدالة؟ الإجابة تبدأ من هنا، من الإصرار على كشف الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين، وضمان عدم تكرار هذه المأساة.
قلوبنا تدمي، لكننا لن ننسى. سنظلّ نحمل أسماء المفقودين في قلوبنا حتى تتحقق العدالة التي يستحقونها.