الرئيس المنتخب يلقي كلمته بعد ادائه القسم الدستوري
مضمون الكلمة الرئاسية للعماد جوزاف عون بعد أداته القسم الدستوري في البرلمان اللبناني، كان بلا شك مفرحاً، فضلاً عن أنه أشاع جواً من الإسترخاء، سياسياً، اجتماعياً واقتصادياً، وان كان البعض قد رأى في هذا “الكّم” من الحلول للمشاكل اللبنانية المتنوّعة والكبيرة في آن، والتي يعتزم الرئيس عون انجازها خلال ولايته الممتدة ست سنوات، لن تكون بهذه السهولة، وقد لا يأتي لها دور خلال فترة وجوده في قصر بعبدا. مع ذلك، قد يبادر الرئيس عون، وبالتعاون مع الحكومة الجديدة، الى اختيار أولويات في السياسة والإجتماع وفي الإقتصاد ايضا. فإذا وضعنا السياسة جانباً، رغم الأهمية، فإن موضوعَيْن يعدّهما اللبنانيون من أولى الأولويات: الإقتصاد اولا، ومن ضمن ذلك مسألة الودائع المصرفية، والإستشفاء،ثانيا، في ظلّ التهالك الذي اصيبت به مؤسسة الضمان الإجتماعي وتعاونية موظفي الدولة بسبب الإرتفاع الهائل للدولار إزاء العملة اللبنانية التي تراجعت بنسبة 83 بالمئة بحسب آخر إحصاء تقييمي للعملات في العالم والتي حلّت فيه الليرة بالمرتبة العاشرة كأسوأ أداء في العام الماضي.
لدى وصوله الى القصر الجمهوري
في ظلّ هذا الواقع المأساوي، بدا انتخاب رئيس للجمهورية ووصول قائد الجيش الى سدة الرئاسة، وكأنهما فتحا باب الأمل للقضيَتَيْن الآنفَتَيْ الذكر معاً، بدليل أنه ما إن انتخب مجلس النواب اللبناني العماد جوزاف عون رئيساً جديداً للبلاد، بعد أكثر من عامين على الشغور الرئاسي، حتى عزّزت سندات لبنان الدولارية مكاسبها مسجّلةً ارتفاعاً حاداً وسط تفاؤل بإجراء إصلاحات في بلد مزّقته الحروب، وأنهكت اقتصاده حتى شهدت سندات لبنان الدولية بآجالها كافة، ارتفاعاً إلى أكثر من 16 سنتاً للدولار، من حوالي 13 سنتاً، وذلك بعدما كانت وصلت إلى أدنى مستوياتها عند 6.25 سنت في العام 2022، رغم أنها لا تزال أدنى بكثير من أسعار سندات دول أخرى تخلّفت عن سداد التزاماتها في العام نفسه، علماً ان لبنانيين كثراً يخزّنون العملة الأميركية في بيوتهم، تهافتوا على استبدالها بالعملة اللبنانية ليقينهم أن الأيام القليلة المقبلة سوف تستعيد ألقها ووهجها.
ومن المعروف أن لبنان تخلّف عن سداد ديونه في ربيع العام 2020 بعد الأزمة الإقتصادية العميقة في العام 2019.
وتأتي هذه الزيادة في قيمة السندات في وقت لا يزال الاقتصاد اللبناني يترنّح تحت وطأة تداعيات الانهيار المالي المدمّر الذي بدأ في 2019، مع بروز أزمة مصرفية ونقدية وسياسية غير مسبوقة استمرت أكثر من ثلاث سنوات، أثرت بشكل عميق على استقراره النقدي، ما جعله واحداً من أكثر البلدان عُرضة للأزمات المالية في المنطقة. ومنذ بداية هذه الأزمة، شهد الاقتصاد انكماشاً حاداً ناهز 40 في المئة، ما أدّى إلى تدهور ملحوظ في جميع القطاعات الاقتصادية. كما فقدت الليرة اللبنانية ما يقارب 83 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معاناتهم. في الوقت نفسه، سجّل التضخم معدلات غير مسبوقة، مما زاد من الأعباء المالية على الأسر. وفي الوقت ذاته، خسر المصرف المركزي اللبناني ثلثي احتياطياته من النقد الأجنبي، ما أضعف قدرته على دعم العملة المحلية وضمان استقرارها.
اعادة بناء ما تهدّم من الاولويات ايضا
لذا رأى مراقبون اقتصاديون أن الارتفاع القوي لسندات ما يعرف بالـ “يوروبوندز” ينبع من التفاؤل بأن انتخاب عون رئيساً جديداً سيفتح الباب على تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية مطلوبة بشدة. ويعدون أن هذا من شأنه أن يمهّد الطريق لإعادة هيكلة السندات الدولية في نهاية المطاف. ومع الآمال التي علّقها البعض على تحسّن الوضع الاقتصادي، يتوقع كثيرون أن تشهد الليرة تحسناً مقابل الدولار في ظل التفاؤل الذي صاحب هذه الخطوة السياسية المهمة.
للتذكير، ففي كلمته الأولى بعد انتخابه رئيساً، شدّد عون على “تمسكه الثابت بمبادئ الاقتصاد الحر”، مؤكداً “أهمية بناء قطاع مصرفي يتمتع بالاستقلالية التامة، بحيث لا يكون الحاكم فيه سوى القوانين”. كما بعث برسالة واضحة ومباشرة إلى المواطنين والمودعين، مؤكداً “أن حماية أموالهم ستظل على رأس أولوياته”، معلناً أنه “لن يتهاون في هذا الملف الذي يمثل تحدياً كبيراً”، مؤكداً عزمه على بناء علاقات قوية مع الدول العربية، التي تُعد شريكاً رئيساً في إعادة الإعمار، ودعم لبنان اقتصادياً، لا سيما وأن تعزيز هذه العلاقات سيسهم في الحصول على الدعم المالي العربي، وتحفيز النمو من خلال جذب الاستثمارات، وفتح قنوات التعاون مع دول دعمت لبنان في فترات سابقة”.
يُشار هنا الى أن انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان وصل الى نسبة 5.7 في المئة خلال الربع الاخير من 2024، مسبباً تداعيات سلبية على الاقتصاد، اذ تراجعت معدلات النمو بشكل كبير منذ العام 2019، ليصل الانخفاض التراكمي إلى أكثر من 38 في المئة عام 2024، مقارنة بـ34 في المئة خلال العام السابق عليه. وتزامن هذا التدهور مع تصعيد الصراع في الربع الأخير من 2024، ما أضاف آثاراً إنسانية مدمرة، مثل النزوح الجماعي والدمار واسع النطاق، وبالتالي أدى إلى خفض إضافي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 6.6 في المئة بحلول منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. وكان قطاع السياحة، الذي يمثل أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني، من بين الأشد تضرراً.
صورة للرئيس مع عائلته
هذا الجانب الإقتصادي الذي يحتاج الى جهود جبارة وعمل حكومي لا بدّ لبعض الوزراء من أن يوصل الليل بالنهار، يحتاج مثله القطاع الإستشفائي مع تراجع ميزانية وزارة الصحة، وتقهقر المراكز الصحية التي تشرف عليها الدولة مثل الضمان الإجتماعي، وفي وقت كان اللبنانيون يمنّون النفس بالحصول على بطاقة صحية موحّدة تسمح للبناني بالإستشفاء من دون استجداء شركات التأمين أو صناديق التعاضد أو أي مركز صحي ذي طابع خيري.
مع ذلك،و وسط هذه الأزمات المتشابكة، يعوّل اللبنانيون حالياً على قدرة الرئيس الجديد للجمهورية على فتح نافذة أمل على صعد عدة أبرزها الإقتصاد والإستشفاء، والا فإن أمور اللبنانيين ستكون صعبة جداً جداً والمستقبل أمامهم سيكون أكثر سواداً مما كان عليه قبل وصول جوزاف عون الى سدة الرئاسة الأولى…