د. الياس ميشال الشويري
تُشكّل الاستراتيجيات السياسية والعسكرية التي تتبعها الدول انعكاسًا لطريقة التفكير وإدارة الأزمات، وغالبًا ما تستند إلى خلفيات ثقافية وتاريخية. يُقال إن العرب يتبعون استراتيجية تُشبه لعبة الطاولة، التي تعتمد بشكل أساسي على الحظ وردود الفعل السريعة، بينما تعتمد إسرائيل استراتيجية تُشبه لعبة الشطرنج، حيث يُبنى التخطيط على التحليل العميق واستشراف المستقبل. هذه المقارنة تكشف عن اختلافات جذرية في إدارة الصراعات وتحديد الأهداف.
- لعبة الطاولة والاستراتيجية العربية
أ-العشوائية والارتجال في اتخاذ القرار: لعبة الطاولة تقوم بشكل أساسي على عنصر الحظ من خلال رمي النرد، حيث يتحرك اللاعب وفقًا للأرقام التي تظهر أمامه. لا يمكن للاعب التنبؤ بالخطوة القادمة بدقة، بل يتوجب عليه التكيف مع النتائج الآنية واتخاذ قرارات سريعة بناءً على الظروف التي يُمليها الحظ. هذه العشوائية تُترجم في السياسة العربية إلى اعتماد على الظروف الطارئة والردود الفعلية دون وجود تخطيط ممنهج أو رؤية بعيدة المدى.
السياسات العربية في كثير من الأحيان تبدو وكأنها تفاعلية أكثر منها استباقية، حيث يتم التعامل مع الأزمات عند وقوعها بدلًا من العمل على منع حدوثها أو التخفيف من آثارها مسبقًا. هذه الاستراتيجية تُعرض الدول العربية لمخاطر عدم القدرة على التكيف مع المستجدات الكبرى التي تحتاج إلى قرارات استراتيجية محكمة لا تعتمد فقط على الظروف الآنية.
ب-غياب التخطيط طويل الأمد: في لعبة الطاولة، يُركز اللاعب على محاولة الفوز بأسرع وقت ممكن من خلال إخراج القطع، دون التركيز كثيرًا على استراتيجية عميقة أو فهم تحركات الخصم بشكل شامل. هذا النهج يُعبر عن غياب التخطيط طويل الأمد الذي يُميز العديد من السياسات العربية. غالبًا ما تترك القرارات الكبرى للمستقبل، ويتم تأجيل القضايا الجوهرية أو التعامل معها بشكل سطحي دون الغوص في جذورها.
في السياق السياسي، هذا يعني أن العرب غالبًا ما ينتظرون أن تتضح الظروف قبل اتخاذ القرارات المصيرية، ما يجعلهم عُرضة لتأثيرات خارجية أكبر ويفقدهم القدرة على التحكم في مسار الأحداث.
- لعبة الشطرنج والاستراتيجية الإسرائيلية
- التخطيط والتحليل العميق: على النقيض من لعبة الطاولة، تقوم لعبة الشطرنج على التخطيط الدقيق والتنبؤ بحركات الخصم لعدة خطوات إلى الأمام. اللاعب الناجح في الشطرنج لا ينتظر رد الفعل، بل يُخطط بشكل استباقي ويُحرك قطعه بطريقة تجعل الخيارات أمام الخصم محدودة. هذه الفلسفة تتجلى في الاستراتيجية الإسرائيلية التي تعتمد على قراءة المشهد الإقليمي والدولي، وتعمل على استباق الأحداث من خلال استراتيجيات مدروسة تُراعي كافة الاحتمالات.
إسرائيل تُدرك أن السيطرة على الأوضاع لا تتحقق بالاعتماد على الحظ أو الظروف الطارئة، بل بالتحليل المستمر والاستعداد لكل السيناريوهات الممكنة. من خلال الاستثمار في مراكز الأبحاث والدراسات، تعمل إسرائيل على فهم تحركات الخصوم وتحديد نقاط ضعفهم، ما يجعل قراراتها مدروسة بعناية لتخدم أهدافًا طويلة المدى.
- بناء استراتيجيات متعددة المراحل: لعبة الشطرنج تتطلب بناء خطة متعددة المراحل، حيث يتم توزيع القطع بشكل استراتيجي لضمان السيطرة على مختلف جوانب اللعبة. هذه الفلسفة تُترجم سياسيًا في إسرائيل من خلال بناء تحالفات إقليمية ودولية، والعمل على تأسيس مواقف تُخدم استراتيجياتها البعيدة المدى.
على سبيل المثال، سياسة التطبيع التي تبنتها إسرائيل مع عدة دول عربية خلال السنوات الأخيرة تعكس هذا النهج، حيث لا تقتصر الأهداف على مكاسب آنية، بل تسعى إلى خلق واقع جديد في المنطقة يُعزز من موقعها الجيوسياسي ويُضعف مواقف خصومها بشكل تدريجي.
- الفجوة بين الاستراتيجيتين وأثرها على الصراع العربي الإسرائيلي
- غياب المبادرة مقابل الاستباقية: أحد أبرز الاختلافات بين الاستراتيجيتين هو أن العرب غالبًا ما ينتظرون وقوع الأزمات للرد عليها، بينما تسعى إسرائيل إلى استباق الأحداث والعمل على تغيير المعطيات قبل أن تُفرض عليها. هذا يجعل إسرائيل قادرة على تحديد مسار الصراع في كثير من الأحيان، بينما يقتصر دور العرب على التفاعل مع الأحداث بعد وقوعها.
على سبيل المثال، في النزاعات العسكرية، تعمل إسرائيل على توجيه ضربات استباقية تهدف إلى تدمير قدرات خصومها قبل أن تتطور إلى تهديد حقيقي. في المقابل، تفتقر الدول العربية إلى هذه الاستراتيجية، ما يجعلها في موقع دفاعي باستمرار.
- استغلال الأزمات مقابل التعامل مع نتائجها: إسرائيل تُجيد استغلال الأزمات لصالحها، حيث تعمل على تحويل الأزمات إلى فرص سياسية أو عسكرية تُحقق من خلالها مكاسب استراتيجية. في المقابل، تميل الدول العربية إلى التعامل مع الأزمات كمعوقات يجب تجاوزها، دون السعي لتحويلها إلى نقاط قوة أو فرص لإعادة ترتيب الأوضاع لصالحها.
هذا الفرق يظهر جليًا في كيفية تعاطي إسرائيل مع الأزمات الدولية والإقليمية، حيث تسعى إسرائيل دائمًا لاستثمار الأوضاع العالمية لصالحها من خلال تقديم نفسها كحليف استراتيجي للدول الكبرى، بينما تبقى العديد من الدول العربية عالقة في دوامة النزاعات الداخلية والخارجية.
التطبيع
- الدروس المستفادة وتطوير الاستراتيجية العربية
- تبني استراتيجيات طويلة الأمد: لتجاوز حالة التراجع الاستراتيجي، يجب على الدول العربية تطوير رؤية استراتيجية تعتمد على التخطيط بعيد المدى، بحيث لا تقتصر الاستجابة على رد الفعل، بل تشمل بناء مشاريع وخطط تُؤدي إلى تحقيق مكاسب على المدى الطويل.
- تعزيز مراكز الأبحاث والتخطيط: أحد أهم عناصر النجاح في الاستراتيجية الإسرائيلية هو اعتمادها على مراكز الأبحاث والتخطيط الاستراتيجي. لذا، يجب على الدول العربية الاستثمار في مراكز بحثية تعمل على تحليل الواقع السياسي والعسكري، وتقديم استراتيجيات استباقية تُسهم في توجيه القرارات السياسية.
- بناء تحالفات استراتيجية: على غرار السياسة الإسرائيلية في بناء تحالفات إقليمية ودولية، يجب على العرب العمل على تعزيز التعاون فيما بينهم ومع القوى الدولية بما يُحقق مصالحهم المشتركة، ويسهم في إعادة ترتيب موازين القوى لصالحهم.
- الخاتمة
إن الفرق بين الاستراتيجيتين ليس مجرد اختلاف في الأسلوب، بل يعكس طبيعة التفكير والتخطيط السياسي لكل طرف. بينما تعتمد إسرائيل على نهج استباقي واستراتيجي شبيه بلعبة الشطرنج، يظل النهج العربي قائمًا على الارتجال ورد الفعل الآني كما في لعبة الطاولة. إذا أراد العرب تحقيق توازن استراتيجي مع إسرائيل، يجب عليهم التحول من نهج يعتمد على الحظ والظروف إلى نهج يعتمد على التخطيط والتنبؤ والعمل الدؤوب لتحقيق أهدافهم.