اذا قلّت عطاءاتك لا يسال عنك احد !
د. الياس ميشال الشويري
في سياق الأزمات المستمرة التي يواجهها لبنان، يعاني الداخل من تحولات اجتماعية واقتصادية جعلت العلاقات الإنسانية تتغيّر بشكل جوهري. فقد أصبحت المصالح الشخصية تمثّل القوّة المحركة للعلاقات الاجتماعية في جميع المجالات، في الوقت الذي تراجعت فيه القيم التي كانت تشّد المجتمع اللبناني معًا مثل التضامن والوفاء. هذه التحولات دفعت البعض إلى التأمّل في حقيقة أن الوفاء أصبح صفة نادرة، بينما أصبح التعامل على أساس المنفعة المادية هو السائد. يهدف هذا المقال إلى تحليل تأثير المصالح على العلاقات الاجتماعية في لبنان، مع التركيز على مفهوم الوفاء وأسباب تراجعه في المجتمع اللبناني.
1- المصالح الشخصية وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية
أ-العلاقات الاجتماعية والمصالح: تراجع الروح المجتمعية. مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان، تراجعت الروح المجتمعية التي كانت تقوم على الثقة والاحترام المتبادل. حلّت المصالح الشخصية مكان العلاقات القائمة على التعاون الإنساني، وأصبح التعامل بين الأفراد مشروطًا بتحقيق مكاسب مباشرة.
ب-السياسة: غياب القيم الإنسانية. التحالفات السياسية في لبنان أصبحت تعكس غياب القيم الإنسانية العميقة. الأحزاب السياسية تتبنّى مصالح ضيقة تتغيّر وفقًا للسياقات المصلحية. هذا النهج أدى إلى اختلال التوازن الوطني، حيث تسعى الأطراف السياسية لتحقيق مكاسب آنية على حساب الصالح العام.
ج-العمل: تراجع التعاون المهني. في الحياة المهنية، باتت العلاقات بين الأفراد والشركات تعتمد على المصالح المتبادلة، ممّا أدّى إلى تراجع قيم التعاون والعمل الجماعي. هذه الظاهرة ظهرت بشكل واضح في قطاعات عديدة، حيث طغت الحسابات الفردية على المصلحة المشتركة.
د-الاقتصاد: الأولوية للمصلحة الفردية. في ظل الأزمة الاقتصادية، تغيّرت أولويات الأفراد لتصبح مركزة فقط على تأمين الحاجات الشخصية. هذا التحوّل أدّى إلى انحسار التعاون بين فئات المجتمع المختلفة، وتحوّل العلاقات الاقتصادية إلى انتهازية. ما كان في الماضي مركزًا للتفاعل التجاري والاجتماعي أصبح اليوم يعكس تفككًا مجتمعيًا عميقًا.
2- الوفاء في العلاقات الاجتماعية في لبنان
أ-ندرة الوفاء: قيمة تتلاشى مع الأزمات. الوفاء، هذه القيمة الأخلاقية التي اعتُبر المجتمع اللبناني حاملًا لها لعقود، أصبحت اليوم نادرة بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة. العديد من الأفراد باتوا يضحّون بعلاقاتهم القديمة لتحقيق مكاسب فورية، ممّا أدّى إلى تآكل الثقة بين الناس.
ب-العلاقات الشخصية: تراجع الوفاء أمام الانقسامات. في العلاقات الإنسانية، ساهمت الانقسامات الطائفية والسياسية في تراجع قيمة الوفاء. أصبح الكثير من اللبنانيين يفضّلون العلاقات القائمة على المنفعة المباشرة، متخلّين عن الروابط التي لا تحقّق لهم مكاسب ملموسة.
ج-في المجتمع المدني: منفعة على حساب القيم. الوفاء لم يعد سمة بارزة في المجال الاجتماعي، حيث يتردّد العديد من الأفراد في تقديم العون للآخرين ما لم يكن هناك مقابل. هذه البراغماتية المتزايدة أضعفت الروابط المجتمعية وزادت من التباعد بين فئاته.
د-ومضات من الوفاء: أمل رغم التحديات. رغم الانقسامات والتدهور المجتمعي، لا تزال هناك أمثلة مضيئة لأفراد متمسكين بقيم الوفاء الأصيلة. هؤلاء الأوفياء يقدمون الدعم للآخرين في الأوقات الصعبة دون انتظار أي مقابل. لكنهم، في الوقت ذاته، يخوضون معركة شاقة مع واقع اجتماعي واقتصادي يزداد قسوة يومًا بعد يوم.
ظلام الوحدة
3- الأسباب التي ساهمت في تراجع الوفاء في لبنان
أ-الأزمات السياسية والاقتصادية: عامل رئيسي في تراجع الوفاء. منذ تسعينيات القرن الماضي، شهد لبنان تدهورًا سياسيًا واقتصاديًا مستمرًا ساهم بشكل كبير في إضعاف قيم الوفاء. الأزمات المتلاحقة أوجدت بيئة مشحونة بالفساد والانقسامات والتنافس، مما أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية التقليدية. ونتيجة لذلك، أصبحت العديد من العلاقات محصورة في إطار المصالح الذاتية.
ب-الانقسامات الطائفية والمجتمعية: تعزيز المصالح على حساب القيم. يعاني لبنان من انقسامات طائفية وسياسية عميقة انعكست بشكل مباشر على العلاقات الاجتماعية. فهذه الانقسامات ساهمت في تكوين علاقات قائمة على التحالفات الطائفية والمصالح الضيقة بدلًا من التفاعل الإنساني المبني على الوفاء والتضامن. ونتيجة لذلك، باتت العلاقات بين اللبنانيين مشروطة غالبًا بمواقف سياسية أو مكاسب شخصية، ما أضعف الروح المجتمعية.
4- استعادة الوفاء في العلاقات الاجتماعية اللبنانية
أ-التعليم كركيزة لاستعادة القيم الإنسانية. لإعادة بناء قيم الوفاء وتعزيز الروابط الاجتماعية، يمكن أن يلعب التعليم دورًا حاسمًا. ينبغي تضمين مفاهيم مثل التضامن، الاحترام المتبادل، والوفاء ضمن المناهج الدراسية والأنشطة الثقافية. كما يمكن للأكاديميين والمثقفين أن يساهموا بفعالية في ترسيخ هذه القيم من خلال مبادرات تعليمية وتوعوية تعزّز الوعي بأهميتها في بناء مجتمع أكثر تماسكًا.
ب-الإصلاح السياسي والاقتصادي: الطريق نحو التغيير. لإرساء أسس الوفاء والتعاون في لبنان، لا بد من إصلاح شامل للنظامين السياسي والاقتصادي. هذا الإصلاح يتطلّب محاسبة الفاسدين، وهم كثر، وتعزيز الشفافية في المؤسسات العامة والخاصة. مع تحسّن الوضع السياسي والاقتصادي، يمكن أن تتحوّل العلاقات بين الأفراد إلى علاقات قائمة على القيم الإنسانية، بدلًا من المصالح الذاتية التي طغت على المشهد الحالي.
5- الخاتمة
أ-الوفاء في زمن المصالح. تعكس العبارة: “طالما ليس هناك مصالح لن يسأل عنك أحد … إلا بعض الأوفياء وهم نادرون” بدقّة واقع العلاقات في لبنان اليوم، حيث أصبحت المصالح الشخصية المعيار الأساسي الذي يحكم التفاعلات بين الأفراد والجماعات. ومع ذلك، يبقى وجود الأوفياء، رغم قلتهم، بارقة أمل في إمكانية إعادة بناء مجتمع يرتكز على القيم الإنسانية، كالوفاء، التضامن، والاحترام المتبادل.
ب-الأمل في العمل الجماعي. إن تعزيز العمل الجماعي وإصلاح النظام السياسي والاجتماعي في لبنان يمكن أن يكون خطوة أساسية لاستعادة هذه القيم. من خلال ذلك، يمكن للبنانيين أن يستعيدوا الأمل في بناء مجتمع أفضل وأكثر تماسكًا يقوم على التعاون والإنسانية بدلًا من المصالح الفردية الضيقة.