لوحة الحالة اليائسة للإيطالي أنطونيو روتا
د. غالب خلايلي
للحذاء في النفس شجونٌ!..
هكذا تبيّن لي من ردود وصلتني على مقالي (مع حذائي العزيز) (1)، إذ استرجعت قارئةٌ كريمةٌ ذكرياتِ أبيها العزيز وأفراح الطفولة بالحذاء الجديد، مع إشراقة شمس كلّ عيد، واستذكرت أخرى آلام الحصول عليه عند الفقير، و”كارثة” خرابه أو ضياعه في لحظة لهو، فيما انشرحت نفوس بعض القراء بذكر المعالم الدمشقية الجميلة مثل الصالحيّة والقصّاع، إذ تنّسموا عبير الذكريات والعشق الأبدي (2)، واستهجن نفرٌ تأخّر إنجاز الحذاء، وكان ذلك أمراً مُرّاً عند حذّائين لا يلتزمون بشرف الكلمة، إنما بقيمة الزبون من منظورهم، كان ذلك قليل الحدوث، وكاد يصبح قاعدةً اليوم!.
وقد اهتم المبدعون بالحذاء، فألّف الرحابنة أغنية جميلة (بويا، بويا، بويا، شغلة ومنها شغلة)، في مسرحية لولو، وغناها نصري شمس الدين وجورجيت صايغ، كما أنتجت السينما (الإيطالية والهندية والسورية..) أفلاماً عن ماسحي الأحذية، واحتفى الأدب بقصص جذابة (سندريلا، حذاء الطنبوري، العودة بخفّي حُنين)، أو جنائية (بوليسية).. ولما كانت معظم هذه القصص معروفة، فإنني لا أجد حاجة إلى التفصيل بها، تاركاً قلمي يحلّق على سجيّته في عوالم ذات علاقة.

“البويجية” والتلميع..
مسألة “التلميع” في الحياة مهمّة جداً، من الخضار والفواكه (فتستحقّ سعرَها الأعلى في نظر الزبون، وإن لم يختلف محتواها)، إلى السيّارات والمجوهرات، وانتهاء بتلميع الشخصيات، ثقيلة الدم بخاصّة أو تلك التي لا حضور لها، تسهيلاً لمهامّها، إن لم تُفرض، حُبّاً أو إكراهاً، والأمثلة أكثر من أن تحصى (3).
على أنني هنا لا أعني سوى تلميع الأحذية التي تغبّرت أو كَمَدَ لونها بسُخام الشوارع أو طينها عند هطْل المطر، وسادة التلميع بلا شك هم ماسحو الأحذية (البويجية) الذين سادوا ثم بادوا أو كادوا، ومعظمهم كان في الشام من الغرباء البسطاء، يحتلون زوايا الشوارع الحيوية، أطفالاً وشباناً لا يجيدون العربية، أو شيباً حنوا رؤوسهم – في سبيل الرزق – طيلة الوقت (4).
وتلميع الأحذية عملية ممتعة للطرف الثاني على الأقل. يجلس ماسح الأحذية لساعات على كرسيّ خفيض، يحتضن (علبة) مميزة يعلوها مسند، وعندما يسند الزبون قدمه، يطوي البويجي أسفل البنطال، وقد يضع ورقة مقوّاة بين الجراب والحذاء تتلقى النعرات الطائشة، ليتفنّنَ بعدَها في حمّام سريع، خاصة للحذاء الفاخر، ومن أقدرُ على كشف (أصالته) من البويجي؟ عندها يضع على (خدّيه) الماء والصابون بفرشاة حلاقة، ثم يجفّفه، ليضع (البويا) المناسبة، ويفرشها بإسفنجته فائقة الطراوة، ثم ينقر أسفل الحذاء مرّاتٍ، وهكذا حتى آخر خطوة بطلتُها فرشاة ضخمة يحرّكها البويجي يمنةً ويسرةً بهمّة ونشاط زائدين (لاستثارة حماسة الزبون)، منهياً العملية بقماشة من الجوخ تلمّع الحذاء فإذا به كالمرآة. وفي الوقت عينه يقضي صاحب الحذاء وقتاً طيباً، يتلهّى بالغادي والآتي في الطرقات أو ربما بهاتفه، ولا يخلو الأمر من حديث اجتماعي ما أو حتى سياسي (عميق!) يحلّل أمور البلد والشرق والغرب، وبوتين وترمب، ناهيك عن ضحكة أو غمزة عند مرور مخلوقات ملوّنة ميّاسة عجيبة، أو أخرى تمشي ساهمة، تكلّم نفسها، تسبّ وتلعن، لينتهي الأمر بلمعةٍ تنعش الروح متجاوزةً في مفعولها السحري أطباء النفس بمراحل، فيحلّ مسك الختام بالدفع للبويجي، هذا الذي ينتشي ويكاد يقوم ليرقص من الفرح إن كان المبلغ مجزياً، أو يكمد لونه ويُغمى عليه مع زبون بخيل ذي حذاء وروح متهتّكين يحتاجان إلى معجزةٍ تصلح ما أفسده الدهر.

بويجية صاروا ذوي شأن:
يسجّل التاريخ والحاضر الكثير من قصص جَور الزمان على البشر، ولا يستغرب المرء أن يرى عاليهم أسفلهم في غمضة عين، فإذا بهم يبحثون عن الغذاء في حاويات المهملات، ليفرحوا حتى بأبسط بسائط الحياة مثل الخبز أو الكهرباء وبعض الدفء. بعض هؤلاء يصاب بكآبة مزمنة، وقد يسقط في مهاوي الردى، وبعضهم يمتهن أية مهنة تسدّ الرمق وتستر العري، وبعض (البعض) يقفز من أسفل السلّم إلى أعلاه بجدارة، ولا يخجل من تاريخه، مثل كثيرمن مدّعي الشرف الرفيع، ومن هؤلاء زعماء وأدباء ورياضيون ومطربون، مثل الرئيس البرازيلي لويس دا سيلفا، الذي اختارته «لوموند» شخصية عام 2009، وصنفته «تايم» الزعيم الأكثر تأثيراً في العالم، والملاكم الشهير مايك تايسون، والأديب المغربي محمد شكري (صاحب رواية الخبز الحافي 1972).
على أن قلة ما يجنيه “البويجي”، لا تمنع صاحب المروءة من مساعدة المحتاجين. ومن الأخبار الجميلة ما قام به ماسح أحذية أميركي ألبرت ليكسي من تبرّع بـ 200 ألف دولار لمستشفى أطفال في مدينة بيتسبيرغ، في الوقت الذي يقطع فيه أثرياء أيديهم ويشحدون عليها، فألبرت هذا زاول مهنته نحو ثلاثة عقود قرب المستشفى المذكور، وكان يكسب خمسة دولارات مقابل كل (تلميعة)، وقد نجح بإنسانيته في أن يقدم العون لأطفالٍ عجزت أسرُهم عن توفير الرعاية الصحية لهم.

تذكرة بالكندرجية (مصلّحي الأحذية):
من الطبيعي أن يأتي في هذا المقام ذكر “الكندرجية”، وقد قلّ وجودهم في بلادنا، لا سيما مع سياسة (البس وارمِ) المختصّة بمفاهيم الرفاه الحديثة عند حديثي النعمة، أو بالصناعات الوطنية المتدهورة (مع شديد الأسف بعد أن كانت فخراً)، فيما كانت ذات أهمية كبيرة في مجتمع لم يكن الإسراف يعرف طريقاً إلى حياته. نعم، كان الفرد لا يستحي من حذاء أكلت الطرق بعض كعبه، أو كاد نعله يمّحي، إذ لا تسمح إمكانياته بغير ذلك. أن يتغضّن جلد الحذاء وتظهر قسماتُه لم تكن مشكلة كبيرة، ومن ثم لا حاجة إلى حلّها، لكنّ اهتراء القسم السفلي لا بد له من حلّ. تدخُلُ إلى محل “الكندرجي”، فتجد رجلاً كامد الوجه أغبر اللحية يضع نظارات، ويلبس صدارة لا تعرف لها لونا، يجلس وراء ماكينة لدرز الجلد، أو خلف سِندان يتحمّل طرق المسامير، أو يمسك بمسلّة كبيرة وهو يخيط نعلاً أو جلداً سميكاً، ينظر إليك من وراء نظارتيه ويمسح وضعك بمسح سريع للحذاء، ويخيرك بين نصف نعلٍ حقيقي أو حتى ربع نعل، أو يضع لك نعلاً مطاطيا أرخص، وكذا حال الكعب المهترئ في جانبٍ أكثر من جانب، وسوف تكون سعيد القدم إن لم يعطِك موعداً بعد أيام وهو يرمي رُفاة حذائك بين أكياس فوضوية مغبرة لا حصر لها. عندها يُلبسك شحاطة بلاستيكية رثّة ريثما ينهي طلبك، ثم يطليه بلون يناسب ما تبقى من لون حذائك، فتخرج فرِحاً وكأنك عريس الزين. أما سوء الحظ فهو أن يخبرك أن حذاءك لم يعد يصلح أبداً، وأن عليك أن تشتري غيره، إما حذاء وطنياً يفتح فمه ويقع (بزيمه) بعد أول لبسة، أو آخر مطاطياً رخيصاً تكاد قدماك تتعفّنان به كل لبسة، لكن والحق يقال: هو أنسب للمطر والطين، شريطة لبس جوارب سميكة تقيك التجمّد، وإجادة قفزٍ يقيك الغوص في الوحل، أو تغوصان معا، وتكون ليلتكم سوداء.
طبعا المشعّون واللامعون لا يعرفون السوق المحلّية ولا الكندرجية، فهم قلما تتسخ أحذيتهم مثل اتساخ أشياء أخرى، إذ يسكنون بيوتاً أو (قصوراً)، ويركبون سيارات فارهة، ويبدّلون أحذيتهم الأجنبية الثمينة بأسهلَ مما يبدلون جواربَهم، خاصة إذا كانوا من أهل (السلبطة) أو الطفيليين الذين يصرفون من جيوب غيرهم، ولا تعجب أن تجد عند الرجل خمسة عشر زوجاً، فيما تجد عند زوجته مئة أو مئتين.
أحذية الرياضة والتفاخر بالأنواع والأسعار..
فاجأني ذات يوم حديثُ سيدة رقيقة عرفتُها منذ كانت طفلة، كيف أن قريباتِها يسخرنَ من “بوط” الرياضة الذي تلبسه، إذ إنه ليس من نوع مشهور ولا غالي الثمن. يتفاخرنَ بمدّ أرجلهن أمامها، عارضاتٍ أقدامهن بأحذية رياضية ذات شهرة، مع أنهن لا يمارسن أية رياضة مثل معظم منتعلي هذا الأحذية (إن لم يكن لسبب طبي). تقول: وهنّ يعرفن أنني أستطيع شراء ما أريد، بل أتفوق عليهن.. لكن ما هذا الهراء؟
بالفعل، ما هذا الهراء المنتشر بين ظهرانينا، وحولنا المشرّدون والجائعون واليتامى وغيرهم من المحتاجين؟ ولا حاجة هنا لسحب القصة على الأحذية النسائية ذات الأشكال العجيبة والألوان الغريبة، وليست إيميلدا ماركوس، رئيسة جزر الفلبين ذات يوم، سوى مثل حيّ اشتهر من آلاف الأمثلة على أوبئة عالمنا (5).

مسك الختام: لوحة الفتاة والحذّاء.. وآلام الابتلاء..
للفنان الإيطالي أنطونيو روتا (1828-1903) لوحةٌ مؤثرة تكاد تنطق بما فيها من تفاصيل معبّرة دقيقة. اسم اللوحة (الحالة اليائسة The Hopeless Case)، وتبدو فيها فتاة في عمر الورد تلبس شالاً نموذجياً من البندقية، وملابس رثّة، فيما تنصِتُ باهتمام شديد إلى الحذّاء الذي ينظر بيأس إلى حذائها الصيفي البالي والذي لا يقي حتى من البرد. يتفحّص الرجل الخبير الحذاء، وتنتظر الطفلة البريئةُ معجزةً منه، فهو العبقري الوحيد القادر على نفخ الروح في الأحذية البالية المرقّعة من كل صوب.
وتحني المسكينةُ رأسها مستسلمةً، لا تدري ما قرار الرجل الذي اعتاد على مدى عقودٍ إيجادَ الحلول للخروج من أصعب المآزق، وما لديها غير الأمل تتمسّك به بانتظار حل سحري.
***
آلام الابتلاء في مجتمعاتنا اليوم أكثر من أن تحصى، إذ لم تعد المشكلة في أحذية مهترئة يصعب بل يستحيل شراءُ غيرها، بل في غياب هذه الأحذية أصلاً، بأقدام حافية وأجساد عارية إلا من ملابس خفيفة ممزّقة لا تستر ولا تقي من برد، في خيام مهترئة أو في عراء.
إنه يا سادتي عراءُ الروح عند قوم شديدي الصلف، في عالم شيطاني يريد كنس المستضعفين كما يكنس عامل القمامة البقايا بمكنسته الغليظة القاسية بانتظار طحنها أو حرقها.
العين في 16 شباط 2025

هوامش:
- مقال (مع حذائي العزيز): https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-put-yourself-in-my-shoes/
- الأبدي: لا آخر له، فيما الأزلي هو الذي لا بداية له، والسرمدي هو الذي لا أول له ولا آخر.
- يطلق مصطلح “التلميع” مجازاً على الشخصيات السياسية والإعلامية الإمّعيّة (الكومبارسية). ويقال إن مهنة البويجي ظهرت في أوربا قبل أن تنتقل إلى العالم العربي في أواخر القرن 19، وقد مارسها الطليان والأرمن في مصر، وعلموها للمصريين.
- هذا يقودنا إلى حالة (لعق الأحذية) التي أبدع بها كثير من المتزلفين والمنافقين في سبيل مصالحهم، ولعلنا نفرد لذلك بحثا آخر.
- ايميلدا ماركوس: ملكة جمال سابقة ومغنية، زوجة رئيس الفلبين والسيدة الأولى (1965-1986)، عرفت باسم الفراشة الحديدية، امتلكت نحو 3000 حذاء (شانيل، ديور، غوتشي، تشارلز جوردان…)، وعددا كبيرا من الحقائب النسائية الغالية، وجمعت وعائلتها الفاسدة ثروة طائلة.