الطعن في الظهر
د. الياس ميشال الشويري
تُعدّ المقولة الشهيرة لنجيب محفوظ “لا أخشى على ظهري من عدو شريف بقدر ما أخشى على صدري من صديق مخادع” واحدة من أبرز العبارات التي تعكس عمق الفهم البشري للعلاقات الإنسانية المعقدة. نجيب محفوظ، الأديب المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب، لم يكن فقط كاتبًا روائيًا، بل كان أيضًا حكيمًا في فهم النفس البشرية وعلاقاتها المعقدة. هذه المقولة تعكس أحد أبرز الموضوعات التي استكشفها في رواياته، وهي علاقة الإنسان بالآخر، سواء كان عدواً أو صديقاً.
- العدو الشريف — الصراع الظاهر في الحياة الاجتماعية
العدو الشريف هو ذلك الشخص الذي يكون عداءه صريحاً وواضحاً، لا يخفي نواياه السلبية تجاهك، بل يعبّر عنها بشكل جليّ. هذا النوع من الأعداء قد يظهر في عدة سياقات، سواء كان عدوًا سياسيًا، اجتماعيًا، أو حتى شخصيًا. يمكن أن يتخّذ شكل خصم في منافسة ما، منافس في مجال العمل أو حتى في الحياة الخاصة.
في مثل هذه الحالات، يمكن للإنسان أن يواجه هذا العداء بشكل مباشر. بما أن العدو يعبّر عن نفسه بوضوح، يصبح من الممكن التعامل مع تهديداته بناءً على معرفتنا بموقفه من البداية. العدو الشريف يسهل تحديده ووضع استراتيجيات للتعامل معه، سواء كان ذلك بتفاديه أو مواجهة تحدياته.
- الصديق المخادع — الخطر الخفي في العلاقات الإنسانية
أما الصديق المخادع، فهو يمثّل تهديدًا أكبر بكثير من العدو الشريف. يتخفّى هذا الصديق تحت غطاء المودة والصداقة، وقد يظهر على السطح كداعم ومساند. لكن الحقيقة أنه يخفي وراء هذه القشرة من الود والمودة نوايا خبيثة تهدف إلى إلحاق الأذى بالآخر، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. يمكن أن يكون الصديق المخادع مصدرًا لآلام نفسية وجراح عاطفية، لأنه يتمكّن من الوصول إلى أقرب المسافات بين الشخص وآلامه الداخلية، ممّا يجعله أقوى من أي تهديد خارجي.
أ. التأثير النفسي للصديق المخادع: من أخطر ما في الصديق المخادع هو تأثيره النفسي العميق. العدو الواضح لا يمكنه أن يسبّب نفس القدر من الصدمة النفسية، لأن الشخص يكون قد استعد لهذا الصراع الداخلي أو الخارجي. لكن الخيانة من صديق، الذي كان يُعتبر مصدرًا للأمان والدعم، تترك أثراً عميقاً في النفس. يحدث في الغالب صراع داخلي بين الأمل في أن يكون هذا الصديق صادقًا والتأكيدات المستمرة على خيانة هذا الصديق، ممّا يؤدّي إلى توترات نفسية قد تستمر لفترة طويلة بعد حدوث الخيانة.
ب. العلاقات البشرية والنفاق: في المجتمعات التي تسود فيها الأنماط النفاقية أو العلاقات المبنية على المصالح، يتسّم الكثير من الأفراد بتقديم الواجهة الخادعة التي تؤدي إلى التلاعب بالمشاعر والتلاعب بالعلاقات. لا شك أن الحياة الاجتماعية في العديد من الأحيان تتسم بالعلاقات المصلحية، حيث يلجأ البعض لإخفاء نواياهم الحقيقية خلف واجهة من المودة والاحترام. النفاق هنا ليس مجرّد كلمات أو أفعال خاطئة بل هو حالة مستمرة من عدم الوضوح وعدم النية الصافية. هذه الأنماط من السلوك تسبّب جروحًا عميقة وتؤدي إلى تآكل الثقة في المجتمع. الشخص الذي يواجه الصديق المخادع يواجه أزمات مستمرة في التصوّر والفهم، ويعيش في حالة من الشك المستمّر. ولذلك، فإن الصديق المخادع يشكل تهديدًا مستمرًا قد يؤثّر في سلوكيات الشخص لفترات طويلة.

- العلاقات الإنسانية في الأدب العربي
استكشاف محفوظ لمفهوم “الصديق المخادع” يتناغم مع العديد من التيمات التي تناولها الأدب العربي عبر التاريخ. ففي العديد من القصص والروايات العربية القديمة، كانت الخيانة والمكر أحد أبرز المواضيع التي تعكس التوترات الداخلية لدى الأفراد. من ذلك، نلاحظ أن العديد من الأدباء، من أمثال الطيب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال“، كانوا يبرزون كيف أن العلاقات بين الأفراد تتشكّل أحيانًا بناءً على المصالح المتبادلة والمخادعة.
محفوظ في رواياته مثل “قصة حارة” و”اللص والكلاب“، يعرض صورًا مشابهة للعدو الصريح والصديق الخائن. في هذه الروايات، يُظهر محفوظ تأثير الخيانة الداخلية على الفرد وكيف يمكن للمجتمع نفسه أن يكون مملوءًا بالتحايلات والمصالح المتضاربة، مما يجعل العلاقات الاجتماعية أكثر تعقيدًا.
- تطبيقات فلسفية للمقولة
يمكن النظر إلى مقولة نجيب محفوظ من زاوية فلسفية تعكس الصراع بين المصلحة والأخلاق. هناك العديد من الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم الصديق والخيانة، مثل نيتشه الذي شدّد على مفهوم “العدو الشريف” الذي قد يدفع الإنسان للتفكير بشكل أكثر نقدًا في المواقف التي يواجهها، بينما نجد في أدبيات فلاسفة آخرين مثل فوكو، تركيزًا على العلاقات المبنية على السلطة والتلاعب بين الأفراد.
إحدى الفلسفات التي يمكن أن تتصل بهذه المقولة هي فلسفة الوجودية التي تركّز على الصراع الداخلي للإنسان في مواجهة الآخرين. في الوجودية، يُعتبر الفرد مسؤولًا عن نفسه، وعليه أن يختار بين الصدق والكذب، النيّة الطيبة والخداع. ففي سياق هذه المقولة، يظّل الصديق المخادع هو الأكثر تهديدًا لأن الخيانة تأتي من الداخل، من ذلك الذي كان يفترض أن يكون موضع ثقة.
- الأبعاد الاجتماعية والثقافية
تعتبر هذه المقولة أيضًا تعبيرًا عن واقع المجتمعات التي تعاني من الفساد والظلم، كما هو الحال في لبنان. في هذه المجتمعات، قد يصبح الخداع والمكر سمة من سمات العلاقات الاجتماعية، ممّا يخلق بيئة مليئة بالتوترات والصراعات الداخلية. يصبح من الصعب على الفرد في مثل هذه البيئة أن يميّز بين الأعداء والأصدقاء، الأمر الذي يساهم في تكريس حالة من العزلة الاجتماعية والقلق المستمر.
- خاتمة
في الختام، تبرز مقولة نجيب محفوظ كأحد أعمق التصورات عن العلاقات الإنسانية التي تتسم بالخداع. فقد أشار محفوظ إلى أن الخطر الأكبر لا يأتي من الأعداء الشرفاء، الذين يواجههم الشخص بوضوح، بل يأتي من الصداقات التي تخفي وراءها الخيانة. هذه المقولة تُظهر لنا التحديات الكبرى التي قد نواجهها في حياتنا اليومية في عالم معقّد تتداخل فيه النوايا الطيبة مع المصالح الشخصية والأجندات الخفية.