وفاء و محبة صادقة
د. الياس ميشال الشويري
العبارة “الكلاب أشرف من الناس” تحمل معاني فلسفية واجتماعية عميقة، وتستحّق التأمّل من زاويتَيْن رئيسيتَيْن: أولاهما من منظور نفسي وإنساني، وثانيهما من منظور اجتماعي وثقافي. يمكننا تناولها ضمن عدة محاور رئيسة تبرز أبعاد هذه الفكرة، وفي ما يلي توزيع لموضوع النقاش مع عناوين رئيسة ومقاطع طويلة توضح كل جانب:
- الكلاب كبشر غير مكتملين: أوجه التشابه بين الإنسان والحيوان
في هذا المحور، يمكننا تسليط الضوء على العلاقة العميقة بين البشر والحيوانات، وخاصة الكلاب التي تعتبر من أوفى الكائنات التي ترتبط بالبشر. غالبًا ما يُنظر إلى الكلاب ككائنات تحمل صفات “أفضل” من البشر في بعض الأحيان، مثل الوفاء والإخلاص والتضحية. بل إن هذه الصفات كثيرًا ما تكون مطروحة في الأدب والفلسفة كقيم “نبيلة” نفتقر إليها في مجتمعاتنا، كما هو الحال في لبنان.
لكن العبارة المذكورة توحي بأن هناك شيئاً قد لا يكون مثاليًا في البشر مقارنة بالحيوانات. فالحيوانات، خاصة الكلاب، تُظهر مشاعرها بصدق ووضوح، بينما البشر في كثير من الأحيان يعيشون في عالم مليء بالنفاق والازدواجية. هنا، يظهر السؤال الفلسفي حول طبيعة الخير والشر في الإنسان: هل الإنسان بطبيعته كائن معقّد، أم أنه يتّم تجريف إنسانيته في ظل ظروف اجتماعية وقيم فاسدة؟
- السلوكيات الإنسانية والنفاق الاجتماعي: هل فقدنا إنسانيتنا؟
هذه العبارة تعكس رؤية مظلمة للبشرية، حيث يمكن أن تكون الكلاب في بعض الأحيان أكثر صدقًا وأقل تلاعبًا من الناس. من خلال هذه الزاوية، يمكننا استكشاف فكرة النفاق الاجتماعي، الذي يعمّ المجتمعات البشرية في كثير من الأحيان، وخاصة المجتمع اللبناني. قد تكون الطيبة والصدق أساسًا حقيقيًا في التعاملات بين الناس، ولكن في عالمنا المعاصر، هذه القيم قد تختلط بالكذب والمصالح الشخصية.
في المجتمعات الحديثة، يبدو أن كثيرًا من الأفراد يختبئون وراء الأقنعة الاجتماعية والنفاق، ويعيشون حياة مشوهة تفتقر إلى الصدق والمصداقية. في حين أن الكلب لا يعرف هذه المفاهيم المعقدة، فإنه يظهر مشاعره ومواقفه بطريقة صافية، ممّا يثير تساؤلات حول قيم البشرية ومفاهيمها في عالم مليء بالمصالح.
- الظروف الاجتماعية وتأثيرها على سلوكيات البشر: هل البيئات تخلق الإنسان؟
تجدر الإشارة هنا إلى تأثير البيئة الاجتماعية والسياسية على السلوك البشري. في بيئات تفتقر إلى العدالة والمساواة، كما هو الحال في لبنان، تصبح الأخلاقيات والصدقية أمورًا نسبية، ممّا يؤدي إلى ظهور سلوكيات نفاقية ومتطرفة. هذه الظاهرة، في كثير من الأحيان، تجعل الإنسان يشعر بأنه مضطر للتكيف مع الظروف السائدة حتى لو كان ذلك على حساب إنسانيته.
على العكس من ذلك، الكلاب، التي تتأثر بتربيتها وظروفها، لا تعيش تحت ضغط اجتماعي معقّد مثل البشر. هي ببساطة تعكس الظروف المحيطة بها بصدق، ولا تسعى وراء مصالح أو مكاسب شخصية، بل تظل ثابتة في سلوكها تجاه مالكيها.
- مفهوم الوفاء والإخلاص: لماذا نبحث عن الصفات الطيبة في مكان آخر؟
الكلاب تجسّد الوفاء والإخلاص من خلال سلوكها المستمّر مع البشر. حينما نتأمّل في هذه الصفات الإنسانية الراقية، نجد أنها في الواقع تمثّل صفات منقوصة أو غائبة عن العديد من البشر في حياتهم اليومية. وفي حين أن الإنسان يمتلك القدرة على فهم وتقدير هذه الصفات، إلا أنه في الكثير من الأحيان لا يمارسها كما يفترض.
من هذه الزاوية، يمكن طرح سؤال حول لماذا نبحث عن الوفاء والإخلاص في الكلاب عندما نعرف أن هذه الصفات يجب أن تكون من المبادئ الأساسية التي يحترمها البشر؟ لماذا نجد صعوبة في الوفاء بالوعود أو تقديم الدعم الكامل للآخرين، بينما تُعتبر الكلاب دائمًا مصدرا للحب غير المشروط؟ ربما يكون هذا دليلاً على أن البشر قد ضيعوا الطريق نحو فهم وإظهار هذه القيم في بيئة مليئة بالفساد والمصالح، كما هو الحال في لبنان.
- العلاقة بين الإنسان والحيوان في الأدب والفلسفة: الكلاب كمرآة للإنسان
من وجهة نظر أدبية وفلسفية، تم تصوير العلاقة بين البشر والحيوانات، وخاصة الكلاب، في العديد من الأعمال الأدبية والفلسفية. قد تتجسّد الكلاب كرمز للوفاء، لكنها في الوقت نفسه قد تمثّل الارتباط بالفطرة التي فقدها الإنسان نتيجة للأيديولوجيات والمجتمعات المتأزمة. على سبيل المثال، في الأدب الغربي، كانت الكلاب تُظهر غالبًا القيم الإنسانية المثلى التي فقدها البشر، مما يطرح تساؤلاً عن قيمة تلك الصفات في الإنسان نفسه.
من خلال هذا الإطار، يمكن مناقشة كيف أن العلاقة بين الإنسان والحيوان يمكن أن تكون انعكاسًا للعلاقة بين الفرد والمجتمع. في الكثير من الأحيان، يمكننا أن نجد في الحيوانات التي نربّيها، خاصة الكلاب، رمزًا للأشياء التي نفتقر إليها في تفاعلنا الاجتماعي.
- الفقر الأخلاقي والنقص في الإنسانية: هل هناك علاقة بين فساد الأنظمة وفقدان الفضائل؟
في المجتمعات التي تعاني من الفساد والفقر الأخلاقي، كما هو الحال في لبنان، يصبح الإنسان أكثر عرضة للانحراف عن القيم الإنسانية الأساسية. هذه الظروف تجعل العديد من الناس يميلون إلى التكيّف مع السلوكيات السلبية التي تشمل الكذب والخداع لمواكبة الأنظمة التي لا تعترف بالعدالة والمساواة، كما هو الحال مع المنظومة السياسية الفاسدة وأتباعها في لبنان.
الكلاب، من جانب آخر، لا تأخذ في الحسبان هذه الصراعات الاجتماعية، بل هي ببساطة تتفاعل مع محيطها بحب وفهم غير مشروط. هذا الاختلاف يثير تساؤلات حول كيف يمكن للإنسان أن يتبنى سلوكًا بسيطًا وصادقًا مثل الكلب في عالم مليء بالضغوط والتحديات.
- الخاتمة: العودة إلى الأصل – هل يمكن للإنسان استعادة إنسانيته؟
في النهاية، تعكس العبارة “الكلاب أشرف من الناس” تذكيرًا بما يمكن أن يُفتقد في الإنسان، وما يجب أن يُسترجع. الكلاب تُظهر صفات من الوفاء والإخلاص التي قد يُنقِصها البشر نتيجة للظروف الاجتماعية أو النفسية. لذا يبقى السؤال الأعمق: هل يمكن للبشر أن يعودوا إلى إنسانيتهم، أم أنهم سيظلوا محكومين بالازدواجية والنفاق الذي يشوّه سلوكهم، كما هو الحال في هذا اللبنان؟