يتعاركون لحمل النعش !
د. الياس ميشال الشويري
العلاقات الإنسانية تحمل في طياتها الكثير من التناقضات، فبينما نُطالب بالرحمة والتواصل والمساندة، نجد أن الواقع يسير في اتجاه مختلف تمامًا. إن المشهد الذي يتكرر في مجتمعاتنا، حيث يُهمل الإنسان في حياته ولا يجد من يسأل عنه في مرضه أو أزماته، ثم يتحول فجأة إلى محور اهتمام بعد وفاته، يكشف عن مفارقة عجيبة تستحق التوقف عندها.
لماذا يزدحم الناس في الجنازات بينما يكون المرضى والمحتاجون وحيدين؟ لماذا نكرم الأموات وننساهم وهم أحياء؟ ولماذا نُسرع لحمل النعش ولكننا لا نُكلف أنفسنا عناء زيارة المريض أو مواساة الحزين؟ هذه الأسئلة تمثل جوهر التناقض الاجتماعي الذي يعيشه الكثيرون، وتفرض علينا إعادة التفكير في مفاهيم الوفاء والتواصل الإنساني الحقيقي.
- لماذا نهتم بالموتى أكثر من الأحياء؟
–العامل الثقافي والاجتماعي. في العديد من المجتمعات، يُنظر إلى حضور الجنازات والعزاءات على أنه “واجب اجتماعي”، بينما تُعتبر زيارة المرضى أو السؤال عن المحتاجين مسألة اختيارية. وقد يعود ذلك إلى عدة عوامل منها:
–التقاليد والعادات الاجتماعية: حيث تفرض بعض المجتمعات معايير صارمة تحتم على الأفراد حضور الجنائز خوفًا من الانتقادات الاجتماعية. فقد يُنظر إلى الشخص الذي يتغيب عن الجنازة على أنه عديم الوفاء، بينما لا يُلام إذا أهمل زيارة مريض أو فقير.
-ثقافة المجاملة: كثيرون لا يحضرون الجنازة حبًا في الفقيد، بل لأنهم يريدون إرضاء العائلة أو المجتمع. فهناك من يشعر أن وجوده في الجنازة نوع من “التأدية الاجتماعية” أكثر من كونه فعلًا نابعًا من القلب.
-التظاهر بالمودة: بعض الأشخاص الذين لم يبدوا أي اهتمام بالفقيد أثناء حياته قد يظهرون فجأة في جنازته، فقط ليُثبتوا أنهم كانوا “مقربين” منه. هذه الظاهرة تكشف عن نفاق اجتماعي عميق، حيث تُصبح مشاعر الحزن مجرد واجب يُؤدى أمام الناس.
-الخوف من الموت والشعور بالذنب. الموت حدث يهز النفوس، فهو اللحظة التي تضع الإنسان أمام حقيقته المطلقة: الفناء. وعندما يموت شخص ما، خاصة إذا كان قريبًا أو صديقًا، يواجه المحيطون به مشاعر معقدة تشمل الحزن، الصدمة، والشعور بالذنب.

- الشعور بالذنب: عندما يرحل شخص ما، يبدأ بعض الأفراد بمراجعة علاقتهم به ويتذكرون كيف كانوا مقصرين في حقه، لكن بدلًا من أن يُصلحوا ذلك في حياته، يحاولون التكفير عنه في جنازته.
- الخوف من المصير المشترك: حضور الجنازة يذكّر الناس بأنهم أيضًا سيموتون يومًا ما، مما يجعلهم يتعاملون مع الجنازة وكأنها جزء من طقوس تهيئتهم لتقبل حتمية الفناء.
- التأثير النفسي العاطفي: الإنسان بطبيعته يخشى مواجهة الألم، لذلك يُفضّل البعض تجنب زيارة المرضى حتى لا يواجهوا حقيقة الضعف البشري، بينما يجدون في الجنازة حدثًا يمكنهم “التفاعل” معه دون مواجهة مباشرة للمعاناة.
- لماذا يتجاهل الناس الأحياء؟
-الانشغال بالحياة ومتطلبات العصر. أصبحت الحياة الحديثة مليئة بالضغوط، مما أدى إلى تراجع قيمة العلاقات الإنسانية أمام متطلبات العمل والماديات. فالكثير من الناس يبررون عدم اهتمامهم بالأقارب أو الأصدقاء بأنهم “مشغولون”، لكن هل الانشغال الدائم مبرر كافٍ لإهمال من يحتاجون إلينا؟
- التكنولوجيا والتواصل الافتراضي: مع تطور وسائل الاتصال، بات البعض يعتقد أن إرسال رسالة نصية أو مكالمة هاتفية تكفي بدلًا من الزيارة الفعلية، مما أدى إلى تراجع العلاقات الحقيقية.
- غياب الأولويات الإنسانية: أصبح الناس يركضون وراء النجاح المهني والمالي، لكنهم ينسون أن الحياة ليست فقط مكاسب مادية، بل هي تواصل إنساني ودعم متبادل.
- الاستسهال العاطفي: هناك من يعتقد أن زيارة مريض أو الاطمئنان على شخص محتاج هو عبء إضافي، فيتجنب القيام بذلك تحت حجج واهية مثل “ليس لدي وقت” أو “لا أريد أن أحرجه بسؤالي عنه”.
-الأنانية العاطفية والخوف من مواجهة الألم. هناك بُعد نفسي آخر يجعل البعض يتجنب الاهتمام بالأحياء، وهو الأنانية العاطفية والخوف من رؤية الأحباب في حالات ضعف. فالبعض يفضل أن يتذكر شخصًا قويًا كما كان، بدلًا من أن يراه ضعيفًا أو مريضًا.
- الهروب من المشاعر السلبية: بعض الأشخاص لا يحبون رؤية أحبائهم في حالات ضعف لأن ذلك يثير فيهم مشاعر الحزن، فيتجنبون المواجهة، بينما يكون الموت حدثًا “محسومًا” يمكنهم التعامل معه بسهولة أكبر.
- الخوف من الالتزام: مساندة شخص مريض أو محتاج تتطلب التزامًا عاطفيًا وزمنيًا، والبعض يفضل عدم التورط في ذلك.
- اللامبالاة الاجتماعية: في مجتمعات كثيرة، أصبح الفرد أكثر انعزالًا، حيث لم تعد هناك تلك الروابط القوية التي كانت تحكم العلاقات بين الجيران والأقارب كما في الماضي.
- كيف يمكن تغيير هذه المفارقة؟
-إعادة تقييم أولويات العلاقات. إذا أردنا ألا نقع في فخ الندم بعد فوات الأوان، فعلينا أن نعيد التفكير في أولوياتنا الإنسانية. يجب أن ندرك أن العلاقات لا تقاس بعدد مرات حضور الجنازات، بل بعدد المرات التي كنا فيها بجانب من نحب في أوقات الحاجة.
- خصص وقتًا لأحبائك قبل أن تخسرهم: لا تنتظر أن تسمع خبر وفاة شخص عزيز حتى تدرك قيمته.
- كن حاضرًا في حياة الآخرين: لا تجعل ضغوط الحياة تسرق منك فرصة التواصل الحقيقي مع من تحب.
- افهم أن الحب والدعم لا يُقاسان بالمناسبات: لا تجعل علاقتك بالآخرين تقتصر على الأعياد أو الجنائز، بل اجعلها مستمرة في كل الأوقات.
-تغيير النظرة إلى المرض والضعف. المريض أو المحتاج لا يحتاج إلى الشفقة، بل إلى الحب الحقيقي. علينا أن نغيّر نظرتنا إلى الضعف البشري، وندرك أن تقديم الدعم لمن يحتاجه هو فعل إنساني أصيل يجب الاّ أن يرتبط بالمصلحة أو المجاملات.
- لا تهرب من مواجهة المرض والموت: لأنها حقائق لا مفر منها، وكل شخص سيصل إليها يومًا ما.
- كن سندًا لمن تحب: لا تنتظر أن يُطلب منك ذلك، بل بادر بنفسك.
- اجعل الدعم عادة، وليس استثناءً: أن تسأل عن شخص وهو حي، أهم بكثير من أن تبكي عليه وهو ميت.
- الخاتمة
العلاقات الإنسانية تُبنى في الحياة، لا بعد الموت. والحب الحقيقي لا يُقاس بعدد الحاضرين في الجنازة، بل بعدد القلوب التي كانت حاضرة في حياة الفقيد وهو على قيد الحياة. لا تكن من الذين يركضون خلف النعوش بينما تركوا أصحابها في عز وحدتهم.
تفقدوا أحبّتكم قبل أن تفقدوهم، فالحياة قصيرة، والعمر لا يُعاد.