د. الياس ميشال الشويري
يقول المفكر الهندي وحيد الدين خان: “إِذَا كَانَ الظَّمَأُ إِلَى الْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَاءِ فَكَذَلِكَ الظَّمَأُ إِلَى الْعَدْلِ لَابُدَّ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْعَدْلِ وَلِأَنَّهُ لَا عَدْلَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْآخِرَةِ مُسْتَقَرِّ الْعَدْلِ الْحَقِيقِيِّ”. هذه العبارة العميقة تحمل بعدًا فلسفيًا وروحيًا في آنٍ واحد، إذ تربط بين حاجة الإنسان الفطرية للعدل وإمكانية وجوده، لكنها في الوقت نفسه تشير إلى غيابه عن عالمنا الحالي، مما يجعل وجود الآخرة ضرورة عقلية وأخلاقية، حيث يتحقق العدل المطلق.
فمنذ بداية التاريخ، والإنسان يبحث عن العدل، لكنه لم يصل إليه بصورة كاملة. المجتمعات البشرية، مهما تطورت أنظمتها السياسية والقانونية، لم تستطع أن تحقق عدالة مطلقة. الفجوة بين القوانين والواقع، بين القيم والممارسات، جعلت العدل يبدو وكأنه حلم بعيد المنال، مما دفع الكثيرين إلى الإيمان بأن هناك حياة أخرى، عالمًا آخر، يكون فيه العدل هو القانون الأسمى، بلا تحيز أو ظلم أو استغلال.
إن فكرة العدل المطلق وماهيته كانت دائمًا محور تأملات الفلاسفة والمفكرين، إذ إن العدل هو الغاية التي يسعى إليها الإنسان منذ فجر التاريخ، ومع ذلك لم يتمكن أي مجتمع من تحقيقه بصورة كاملة. عندما يقول وحيد الدين خان: “إِذَا كَانَ الظَّمَأُ إِلَى الْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ الظَّمَأُ إِلَى الْعَدْلِ لَابُدَّ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْعَدْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَدْلَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْآخِرَةِ مُسْتَقَرِّ الْعَدْلِ الْحَقِيقِيِّ“، فإنه يطرح رؤية تجمع بين المنطق الفلسفي والبعد الإيماني، حيث يرى أن الشعور بالحاجة إلى العدل، رغم استحالة تحقيقه في عالمنا، لا بد أن يكون مؤشرًا على وجود عالم آخر يُستكمل فيه ميزان العدل الإلهي.
- العدل كمفهوم إنساني عالمي
لا يوجد مجتمع بشري عبر التاريخ إلا وكان فيه تصوّر معيّن للعدل، حتى لو اختلفت معاييره من حضارة إلى أخرى. فالبشر بطبيعتهم يميلون إلى رفض الظلم، وينتفضون عند انتهاك حقوقهم، ممّا يدّل على أن العدل ليس مجرّد فكرة فلسفية، بل هو حاجة إنسانية ضرورية مثل الحاجة إلى الماء والطعام. ورغم ذلك، فإن الواقع يكشف أن تحقيق العدل في الأرض كان دائمًا أمرًا معقدًا، لأن المصالح والصراعات والقوة كانت دائمًا تتحكّم في توزيع الحقوق والواجبات.

- العدل في التاريخ: محاولات غير مكتملة
عبر العصور، سعت المجتمعات إلى وضع أنظمة قانونية لضمان العدالة، ولكن الفجوة بين القوانين والممارسات كانت دائمًا قائمة:
- في الإمبراطوريات القديمة، مثل روما وبيزنطية، كانت القوانين تنظّم المجتمع، لكنها لم تمنع العبودية أو التمييز الطبقي.
- في العصور الوسطى، ساد الاستبداد الديني والإقطاعي، حيث كانت فئات معينة تملك السلطة المطلقة، بينما ظلّ عامة الشعب محرومين من أبسط حقوقهم.
- في العصر الحديث، ورغم تطوّر مفهوم حقوق الإنسان والديمقراطية، فإن مظاهر الظلم ما زالت قائمة، سواء من خلال الحروب التي تُشنّ باسم العدالة، أو من خلال الأنظمة الاقتصادية التي تكرّس الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أو من خلال القضاء الذي لا يكون دائمًا نزيهًا.
كل هذه المحاولات أثبتت أن العدل في الدنيا لا يمكن أن يكون كاملاً، لأنه يخضع دومًا لعوامل السلطة والمصالح.
- لماذا نشعر بالحاجة إلى العدل؟
الشعور بالحاجة إلى العدل ليس مجرّد رد فعل على الظلم، بل هو دليل على وجود نموذج مثالي للعدل في أذهان البشر. إن وجود هذا النموذج في فطرة الإنسان، رغم استحالة تحقيقه في الواقع، يشير إلى أن هناك عدلًا مطلقًا لا بد أن يتحقّق خارج هذه الحياة المحدودة. فكما أن الشعور بالجوع يدّل على وجود الطعام، فإن الشعور بالحاجة إلى العدل يدّل على أن العدل ليس مجرّد فكرة، بل هو واقع لا بد أن يكون له مكان للتحقّق.
- العدل والآخرة: الضرورة العقلية والأخلاقية
إذا كان العدل غير مكتمل في الدنيا، فهل هذا يعني أنه غير موجود على الإطلاق؟ هنا تأتي الفكرة الفلسفية والإيمانية التي تقول إن العدالة الحقيقية لا يمكن أن تتحقّق إلا في عالم آخر، وهو الآخرة. فالإنسان يرى في حياته اليومية كيف ينجو الظالمون من العقاب، وكيف يُقتل الأبرياء دون قصاص، وكيف يستغل الأقوياء الضعفاء دون أن يُحاسبوا. فلو لم يكن هناك ميزان عدالة يُقيّم ما اختلّ في هذه الدنيا، لكان الوجود نفسه عبثيًا، ولكان الظلم هو القاعدة وليس الاستثناء. ولكن لأن الإنسان يؤمن فطريًا بأن هناك معنى للحياة، وبأن الخير والحق لا بد أن ينتصرا، فإن الإيمان بوجود حياة أخرى يكون ضرورة عقلية قبل أن يكون مسألة دينية.
- هل يمكن تحقيق العدل المطلق في الأرض؟
رغم المحاولات المستمرة لتحقيق العدالة الاجتماعية، فإن كل التجارب البشرية أثبتت محدوديتها. الديمقراطيات، رغم تطورها، ما زالت تعاني من التفاوت الاقتصادي والتمييز الطبقي. الأنظمة القضائية، رغم استقلالها في بعض الدول، لا تزال خاضعة في أماكن كثيرة لضغوط السياسة والمال. والأخطر من ذلك أن بعض الأنظمة تستخدم شعار العدالة لتبرير الظلم، كما هو الحال في الحروب التي تُشنّ باسم الحرية والحقوق، بينما هي في حقيقتها صراع مصالح.

- الخاتمة: العدل بين الدنيا والآخرة
إن العدل في الأرض سيظل دائمًا ناقصًا، لكنه موجود كمفهوم وكحاجة فطرية. وهذا الظمأ المستمر إلى العدل هو الدليل الأقوى على أنه لا يمكن أن يكون مقتصرًا على هذه الحياة فقط، بل لا بد أن يكون هناك عالم آخر يُستكمل فيه ميزان العدالة الإلهية. وهكذا، فإن الفكرة التي يطرحها وحيد الدين خان ليست مجرّد تأمّل ديني، بل هي رؤية تجمع بين العقل والقلب، بين الفطرة والمنطق، لتصل إلى استنتاج حتمي: العدل المطلق ليس من صنع البشر، لكنه وعد إلهي، ولن يتحقّق إلّا في عالم لا ظلم فيه.
الظمأ إلى العدل ليس إلا دليلًا على أنه موجود، لكنه لن يتحقّق إلا في الآخرة.