جنبلاط يعلن وقف هذه الذكرى بعد القبض على الجاني
د. الياس ميشال الشويري
شكّل اغتيال كمال جنبلاط في 16 آذار 1977 نقطة تحوّل دموية في الحرب اللبنانية، ليس فقط بسبب مكانته السياسية كزعيم درزي ورئيس للحركة الوطنية اللبنانية، بل أيضًا بسبب التداعيات الكارثية التي تلته، حيث قُتل مئات المدنيين الأبرياء من المسيحيين في عمليات انتقامية في منطقة الشوف وعاليه. وبينما وُجِّهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري، كان اللواء إبراهيم حويجة، رئيس فرع الأمن والاستطلاع في القوات السورية في لبنان، أحد الأسماء التي طُرحت بقوة كمنفّذ رئيسي للعملية بأوامر من القيادة السورية. هذه الذكرى الأليمة تستوجب تسليط الضوء على خلفيات الحادثة، مجازر ما بعد الاغتيال، وتأثيرها العميق على العيش المشترك والهوية الوطنية.
- خلفيات الاغتيال ودور اللواء إبراهيم حويجة
أ-كمال جنبلاط والنظام السوري: صراع إرادات. ان كمال جنبلاط شخصية سياسية استثنائية في تاريخ لبنان، إذ جمع بين الفكر التقدمي، والزعامة الدرزية، والمعارضة الشرسة للهيمنة السورية. ورغم أنه رحّب في البداية بالدخول السوري إلى لبنان عام 1976، إلا أنه سرعان ما أدرك أن هذا التدخل لم يكن لإنقاذ لبنان، بل للسيطرة عليه، فعارضه علنًا ودعا إلى مقاومته. هذه المواقف جعلته هدفًا للنظام السوري بقيادة حافظ الأسد، الذي رأى في تصعيد جنبلاط خطرًا على نفوذه في لبنان.

ب-اغتيال جنبلاط بأوامر سورية وتنفيذ اللواء إبراهيم حويجة. في صباح يوم 16 آذار 1977، وبينما كان كمال جنبلاط في طريقه إلى المختارة عبر طريق بعقلين – دير دوريت، وقع في كمين مسلح. تشير العديد من المصادر إلى أن اللواء إبراهيم حويجة، الذي كان مسؤولًا أمنيًا سوريًا بارزًا في لبنان، هو الذي أشرف على تنفيذ عملية الاغتيال. نُفّذ الاغتيال بطريقة احترافية، حيث أُطلقت النيران على موكبه، ما أدى إلى مقتله فورًا إلى جانب مرافقيه. هذا الاغتيال لم يكن مجرد تصفية سياسية، بل رسالة واضحة من النظام السوري لكل من يعارض هيمنته على لبنان.
- تداعيات الاغتيال والمجازر بحق المسيحيين
أ-موجة العنف ضد المسيحيين في الشوف وعاليه. أثار اغتيال جنبلاط موجة غضب شديدة بين أنصاره، خاصة في الأوساط الدرزية، ما أدى إلى أعمال عنف انتقامية طالت المدنيين المسيحيين في الشوف وعاليه. قُتل مئات الأبرياء، وتم تهجير الآلاف من منازلهم، وأحرقت القرى والبلدات، فيما يمكن اعتباره تطهيرًا طائفيًا في تلك المناطق. هذه الأحداث زادت من تعميق الشرخ الطائفي في الجبل، ووضعت الأسس لصراعات لاحقة، مثل أحداث التهجير الكبرى في أواخر الثمانينيات.
ب-أثر المجازر على العيش المشترك في الجبل. لطالما شكّل جبل لبنان نموذجًا للعيش المشترك بين الدروز والمسيحيين، لكن ما حدث بعد اغتيال جنبلاط ترك جرحًا عميقًا في الذاكرة الجماعية للطائفتين. المشاعر المتبادلة من الغضب والخوف ساهمت في تفكيك الروابط التاريخية بينهما، واحتاج الأمر إلى عقود من العمل السياسي والاجتماعي لإعادة بناء الثقة، خاصة بعد مصالحة الجبل عام 2001 بين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير.

- الذاكرة الجماعية والمحاسبة الغائبة
أ-النظام السوري والجرائم غير المحاسبة في لبنان. لم يكن اغتيال كمال جنبلاط الجريمة الوحيدة التي ارتكبها النظام السوري في لبنان، بل كان جزءًا من سلسلة طويلة من الاغتيالات السياسية التي طالت معارضيه، من رفيق الحريري إلى بشير الجميل وغيرهم. ورغم انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، إلا أن محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم بقيت غائبة، حيث لم يُفتح أي تحقيق جدي في اغتيال جنبلاط، ولم يُحاسب اللواء إبراهيم حويجة أو غيره ممن نُسبت إليهم المسؤولية عن العملية.

ب-أهمية الحفاظ على الذاكرة ومنع تكرار الجرائم. إن استذكار المجازر التي طالت المسيحيين بعد اغتيال جنبلاط لا يجب أن يكون مجرد مناسبة رمزية، بل ينبغي أن يكون دافعًا لإعادة التأكيد على ضرورة العدالة والمصالحة الحقيقية، التي تقوم على الاعتراف بالجرائم والمحاسبة بدلًا من التغطية عليها باسم التوازنات السياسية. فالتاريخ يعلّمنا أن تجاهل العدالة لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج دورات العنف، كما حدث مرارًا في لبنان.
- الخاتمة
تُشكّل ذكرى اغتيال كمال جنبلاط والمجازر التي تلته محطة حزينة في تاريخ لبنان، إذ تكشف كيف تحوّلت الحسابات السياسية إلى كوارث دموية دفع ثمنها الأبرياء. وبينما بقي إبراهيم حويجة والمتورطون الآخرون خارج دائرة المحاسبة، فإن الذاكرة الوطنية لا تزال تحفظ هذه الجرائم كدروس يجب الاستفادة منها. وحده الاعتراف الصادق والعدالة الحقيقية يمكن أن يمنعا تكرار مثل هذه المآسي، لأن مستقبل لبنان يجب أن يُبنى على المصالحة القائمة على الحقيقة، وليس على النسيان القسري.
