مسلحون في الشوارع
د. الياس ميشال الشويري
في تاريخ الشعوب محطات لا تُمحى من الذاكرة، تصير مع الأيام جرحًا غائرًا في الجسد الوطني، يستمر في النزف مهما طال الزمن. و13 نيسان 1975 هو من تلك المحطات في تاريخ لبنان، يومٌ انطلقت فيه شرارة حربٍ أهلية دمّرت الحجر والبشر، ومزّقت الوطن، وغيّرت ملامحه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ورغم مرور ما يقارب نصف قرن، لا تزال آثار تلك الحرب حاضرة، وتردداتها تتجلّى في كل مفصل من مفاصل الحياة اللبنانية. هذا المقال يهدف إلى الغوص في جذور الحرب، مراحلها، وتحولاتها، وصولاً إلى حاضرٍ يشهد على أن الحرب لم تُنهِ فصولها بعد، بل ما زالت تكتبها بأقلام جديدة وبوجوه مختلفة.
- الخلفيات الاجتماعية والسياسية لانفجار الحرب
شكّل لبنان منذ الاستقلال مسرحًا لصراعات خفية بين الطوائف والمصالح السياسية، وهو ما أفضى إلى نظام هشّ يقوم على التوازنات الطائفية لا على المواطنة. ومع كل استحقاق وطني، كانت تظهر هشاشة هذا النظام الذي لم ينجح في بناء دولة مؤسسات حقيقية. فقد بقيت السلطة موزّعة بين زعامات طائفية، تستمدّ نفوذها من الخارج، وتوظّف الطائفية لأهدافها الخاصة. تراكمت الخلافات بين مكوّنات المجتمع، وازدادت التوترات نتيجة غياب العدالة الاجتماعية، وغياب التنمية المتوازنة، وانتشار الفقر، خاصة في أطراف الدولة المهمّشة.
ترافق ذلك مع صعود التيارات اليسارية والفلسطينية في لبنان، ما أوجد صدامًا مباشرًا مع الأحزاب اليمينية المسيحية التي رأت في ذلك تهديدًا للكيان اللبناني. دخول منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان بعد أحداث الأردن في أيلول الأسود زاد من تأجيج الوضع. فقد بات لبنان أرضًا لصراعات خارجية، تتداخل فيها القضية الفلسطينية بالصراع الإقليمي والدولي، ما حوّل الأرض اللبنانية إلى ساحة صراع مفتوح.
أمام هذا المشهد المتفجّر، كان لا بد من شرارة تشعل الحرب، فجاءت حادثة عين الرمانة في 13 نيسان 1975، حين تعرّضت حافلة تقلّ فلسطينيين لإطلاق نار من قبل عناصر من حزب الكتائب، بعد ساعات من محاولة اغتيال لبيار الجميّل في كنيسة، فاشتعلت الحرب التي تحوّلت خلال أيام إلى مواجهة شاملة بين الميليشيات، وانزلقت البلاد إلى أتون نزاع دموي طويل.
- الحرب التي تغيّرت وجوهها، واستمرّت رغم كل التسويات
بدأت الحرب الأهلية بصراع داخلي ذي طابع طائفي بين اليمين المسيحي واليسار الوطني والحركة الفلسطينية، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب معقّدة، تشارك فيها أطراف إقليمية ودولية. دخل السوريون إلى لبنان عام 1976 تحت شعار حفظ السلم، لكنهم انخرطوا في اللعبة الداخلية، وتحول وجودهم إلى وصاية طويلة الأمد. كما تدخّل الإسرائيليون، فاجتاحوا جنوب لبنان عام 1978 ثم وصلوا إلى بيروت عام 1982، ما أدى إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية، واغتيال رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميّل.
استمرّت الحرب في التغيّر والتبدّل، وتعدّدت الجبهات، وتحوّلت العاصمة إلى خطوط تماس، فيما تقاسمت الميليشيات النفوذ والسيطرة، وانهارت الدولة ومؤسساتها. عاشت بيروت على وقع القذائف، وانهارت الليرة، وتوقّفت عجلة الاقتصاد، وهُجّر مئات الآلاف، وسُحقت الطبقة الوسطى، وتعرّض النسيج الاجتماعي اللبناني لتشققات عميقة. لم يعد هناك وطن موحّد، بل كانت مناطق النفوذ والميليشيات هي الحاكمة.
رغم الاتفاقات والمحاولات، كاتفاق القاهرة واتفاق الطائف لاحقًا، بقيت الحرب مستعرة. إذ إن الميليشيات التي استقوت بالمال والسلاح والدم، وجدت في الحرب مبرّرًا لبقائها، بينما كانت القوى الإقليمية تستثمر في هذا النزاع لتثبيت نفوذها في لبنان. لم تكن الحرب مجرّد اقتتال داخلي، بل كانت انعكاسًا لصراعات المنطقة، من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى الحرب الباردة، إلى أطماع القوى الإقليمية، فصار لبنان ضحية التناقضات الدولية، وعجز نخبته عن حماية الوطن.

- ما بعد الحرب … هل انتهت فعلًا أم ما زالت مستعرة؟
تُوّجت نهاية الحرب الأهلية رسميًا باتفاق الطائف عام 1989، الذي أرسى أسسًا جديدة للنظام اللبناني، وأعاد توزيع السلطات، وفتح الباب لعودة الدولة. إلا أن هذا الاتفاق لم يُنهِ منطق الحرب، بل شرعن بقاء الزعامات الطائفية نفسها التي قاتلت، وفتح المجال أمام اقتصاد ريعي هشّ، وقضاء مسيّس، وإدارات خاضعة للمحاصصة. أُعيد بناء لبنان بشكله الخارجي، لكن الجراح الداخلية بقيت مفتوحة، ولم تُعالج أسباب الحرب من الأساس.
الانقسام الطائفي بقي سائدًا، وكل استحقاق سياسي تحوّل إلى أزمة. تحوّلت الطوائف إلى هويات سياسية مغلقة، وبات الانتماء للوطن يأتي بعد الولاء للزعيم. أما الحرب، فقد تحوّلت من حرب السلاح، إلى حرب الهويات، إلى الانهيار الاقتصادي الذي دمّر ما تبقّى من الدولة. يتقاتل اللبنانيون اليوم على لقمة العيش، على الكهرباء والدواء، على التعليم والصحة. الطبقة السياسية التي حكمت بعد الطائف لم تفتح صفحة المصالحة الحقيقية، بل أعادت إنتاج أدوات الهيمنة. لم يُحاكم أحد على الجرائم، ولم تُعرف الحقيقة، فكان الإفلات من العقاب هو القاعدة.
وفي ذكرى 13 نيسان 1975، لا يمكن القول إن الحرب انتهت. هي مستمرة بأشكال أخرى. من حرب السلاح، إلى حرب الهويات، إلى الفساد والانهيار. لبنان لا يزال يعيش في ظلال تلك الحرب، التي لم تُقفل صفحتها يومًا، بل ما زالت تستعر في النفوس، في الخطاب الطائفي، في المحاصصة، وفي غياب دولة المواطنة والعدالة. الحرب لم تنتهِ، بل تغيّرت فقط ساحاتها ووجوهها.

- الخاتمة
في الذكرى السنوية لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975، لا يمكن النظر إلى هذه المحطة إلا بوصفها جرحًا مفتوحًا في الوجدان اللبناني، ومرآة تعكس فشل مشروع الدولة ومأساة مجتمع انقسم على ذاته. لقد كانت الحرب نتيجة تراكمات سياسية واجتماعية واقتصادية، لكنها أيضًا نتيجة غياب الإرادة الوطنية الصادقة لبناء وطن واحد، ونتيجة استغلال الخارج للداخل. وما بعد الحرب لم يكن زمن سلام، بل مرحلة انتقال من نار المدافع إلى نيران الفساد والانهيار.
لبنان اليوم، بعد خمسين عامًا على تلك الحادثة المشؤومة، لا يزال يدفع ثمن حرب لم تُنهِها اتفاقات الورق، ولم تُطفئها المصالحات الشكلية، ولا تزال أسبابها قائمة في النظام الطائفي، في غياب العدالة، في الارتهان للخارج، وفي غياب مشروع وطني جامع. فلا ذكرى 13 نيسان يجب أن تمر مرور الكرام، ولا الحرب يجب أن تُنسى أو تُغتفر، لأنها ما زالت تتكرّر بأشكال مختلفة، في كل مرة يُمنَع فيها اللبناني من أن يكون مواطنًا في دولة تحميه وتحتضنه، لا طائفة تقيّده وتستغله.