صورة مبتكرة للمسيح مبشّرا
د. الياس ميشال الشويري
مناسبة “اثنين الباعوث” الذي احتفل به المسيحيون أمس الإثنين 21 نيسان الجاري، تمثّل نقطة انطلاق للتأمل العميق في معنى القيامة في حياة المسيحيين، لا كحدث تاريخي فحسب، بل كقوة روحية متجددة تدعو الإنسان إلى الشهادة الحيّة. ففي ظلّ ما يشهده لبنان من تدهور اجتماعي واقتصادي وأخلاقي، تتزايد الحاجة إلى إعادة قراءة هذا الحدث في ضوء الواقع المأزوم، واستخلاص ما يحمله من تحديات ودعوات للتجدد الفردي والجماعي. إن المسيحي مدعو إلى أن يكون صوتاً نبوياً في قلب مجتمعه، لا مجرد متفرج على الأحداث.
وتُطرح إشكالية جوهرية في هذا السياق: هل من الممكن أن نشهد لقيامة المسيح فيما اليأس يطغى على تعابيرنا وسلوكنا؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب فحصًا جادًا للواقع المسيحي في لبنان، بعيدًا عن التبرير والإنكار. فالمسيحية ليست منظومة شعائرية بحتة، بل رسالة فعلية تتجلى في كل مفصل من مفاصل الحياة اليومية، سواء على الصعيد الشخصي أو المجتمعي أو الوطني، وبالتالي، فإن هذا المقال يسعى إلى تقديم قراءة لاهوتية وواقعية متكاملة تنطلق من النصّ الروحي لتلامس العمق البنيوي لأزمة الشهادة المسيحية في لبنان، وتسعى إلى تفعيل الإيمان القائم على رجاء القيامة من أجل نهوض وطني وروحي متكامل. إنها دعوة لاستنهاض الضمير المسيحي من سباته والعودة إلى جذور الرسالة الإنجيلية الحقيقية.
- القيامة في جوهر الإيمان المسيحي
القيامة ليست مجرّد ذكرى طقسية، بل هي الإعلان المركزي في الكرازة المسيحية منذ العصر الرسولي وحتى يومنا هذا. لقد غيّرت القيامة مجرى التاريخ، إذ غلب يسوع الموت وقام، معلنًا أن الظلمة لا يمكن أن تهزم النور. لذلك، كل مؤمن مدعوّ لأن يختبر هذه الحقيقة لا كفكرة ذهنية، بل كواقع حيّ يدخل إلى عمق وجوده، ويحرّكه ليعيش وفق روح القيامة.
وهذا الإعلان يحمل في طياته دعوة للمواجهة المستمرة مع قوى الموت الرمزية في العالم، مثل الخطيئة، القهر، الكراهية، واللامبالاة. فالقيامة تدعو الإنسان إلى أن يتخطّى ذاته الضيقة، ويتّحد بقوة الله التي تقيمه من كل موت معنوي وروحي. إن كل فعل محبة وغفران ورحمة هو شهادة حيّة على هذه الحقيقة المتجددة.
وهكذا تصبح القيامة دعوة للمسؤولية، وليست حالة من الطمأنينة الساذجة. فالمسيحي الذي يؤمن بقيامة المسيح عليه أن يعيش هذه الحقيقة كمشروع حياة ونضال مستمر من أجل التغيير، لا كاستهلاك روحي موسمي. فهل نرى أنفسنا اليوم قائمين مع المسيح، أم لا نزال نعيش داخل قبور الخوف والتقاعس والشك؟
- التناقض بين القيامة واليأس في المجتمع اللبناني
يُشير الواقع اللبناني إلى تزايد مشاعر الإحباط واليأس، خاصة في أوساط المسيحيين، حيث تتراجع الثقة بالمستقبل، وتغيب علامات الرجاء عن وجوه الناس. وهذا التراجع يعكس افتقارًا للعيش الروحي الحقيقي، لأن المسيحي القائم بالمسيح لا يمكن أن تسيطر عليه هذه المشاعر بشكل دائم، بل يتغلب عليها بالنعمة. الإيمان بالقيامة لا يلغي الألم، ولكنه يمنحه معنى ويحول مساره نحو الرجاء.
ويُلاحظ أن الغالبية تتحدث اليوم عن الأزمات فقط: انهيار العملة، فقدان الخدمات، تدهور المؤسسات. في المقابل، نادرًا ما نجد خطابًا عن الرجاء، أو مبادرات لبثّ الأمل، أو رغبة حقيقية في التغيير. وهذا يعكس تحوّلًا خطيرًا في أولويات المسيحيين، حيث طغت الهموم المعيشية على الشهادة الحقيقية.
من هنا، تصبح القيامة دعوة للنهوض من تحت أنقاض الإحباط، والنظر إلى الحياة بعينٍ مؤمنةٍ قادرة على رؤية حضور الله حتى في الظلمة. فالشهادة للمسيح القائم تبدأ بإعلان الرجاء في كل موقف من مواقف الحياة، وخاصة وسط الألم والانهيار. المسيحي لا يُنكِر الصعوبات، لكنه يرفض أن تكون كلمتها هي الأخيرة.

- مسؤولية المسيحيين في مواجهة الفساد
الفساد المستشري في لبنان لا يُمكن عزله عن مسؤولية المسيحيين، خصوصًا أن العديد منهم يتبوأ مراكز القرار في السياسة والاقتصاد. التغاضي عن الفساد أو التعايش معه بحجة الواقعية أو الخوف على المصالح هو خيانة لمبادئ الإنجيل. فالقيامة لا تقبل المساومة على القيم، ولا التساهل مع الظلم، بل هي صرخة في وجه الفساد بكل أشكاله.
في بعض المناطق ذات الغالبية المسيحية، نجد تفشيًا للمحسوبية، واستغلال النفوذ، وسكوتًا عن التجاوزات الأخلاقية، مما يُفقد الكنيسة مصداقيتها. ومن المؤسف أن بعض المسيحيين يغضّون الطرف عن هذه التجاوزات باسم الانتماء الطائفي أو العلاقات العائلية أو المصالح الخاصة. هذا التراخي يُناقض كليًا رسالة القيامة التي تدعو إلى تطهير الهيكل من تجار الدين.
إن الشهادة للمسيح القائم تبدأ من الرفض القاطع لأي مساومة مع الفساد، ومن إعلان الالتزام بالقيم حتى لو كلّف الأمر عزلة أو اضطهادًا. فكما طرد المسيح الصيارفة من الهيكل، كذلك يجب على كل مؤمن أن يطرد من قلبه ومجتمعه كل ما يُشين الشفافية والحق، ويقوّي دينامية الإصلاح والانفتاح على نور الله.
- القيامة ومفهوم الشهادة الحيّة
ليست الشهادة للمسيح مسألة نظرية أو لاهوتية مجردة، بل هي فعل نابع من الإيمان المجسّد في تفاصيل الحياة. الشهادة تعني أولاً وأساسًا العيش وفق مبادئ الإنجيل، في كل موقف ومواجهة. المسيحي القائم مع المسيح هو من يسلك بحسب روح الحق، ويقاوم الشرّ في نفسه وفي محيطه، ويظلّ ثابتًا في الرجاء مهما اشتدت العواصف.
هذا النوع من الشهادة يحتاج إلى شجاعة روحية. فالتحديات ليست خارجية فقط، بل داخلية أيضًا: الانغلاق على الذات، الكبرياء، الغضب، الغيرة، الكسل، وكل ما يعيق مسيرة القداسة. لذلك، فإن الانتصار على علامات الموت في الذات هو أول أشكال الشهادة، ومنها تنطلق القدرة على التأثير في الآخرين.
أما على المستوى المجتمعي، فالمسيحي مدعو ليكون علامة رجاء للآخرين. فحين يرى الناس نور المحبة والسلام في عيون المؤمن، يسألون عن سرّ الرجاء الذي فيه. وهكذا، تصبح حياته شهادة حيّة، لا تحتاج إلى كلمات كثيرة. وهذا ما فعله المسيحيون الأوائل الذين، رغم الاضطهادات، ظلوا يضيئون العالم برجاء لا يُقهر.
- أزمة الالتزام في القضايا الوطنية والإنسانية
يعاني المجتمع المسيحي في لبنان من غياب واضح للصوت النبوي الذي كان يُميّز الحضور المسيحي في المراحل التاريخية السابقة. فالانكفاء على الهموم الخاصة، والانشغال بالصراعات الداخلية، جعلا الكثيرين يغفلون عن القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى. في وقت يحتاج فيه الوطن إلى من يدافع عن السلام، وعن حقوق الإنسان، اختفى الصوت المسيحي المدافع عن العدالة.
لقد تحوّلت الكنيسة عند البعض إلى مؤسسة تعنى بشؤون الداخل فقط: توزيع المساعدات، تنظيم النشاطات، إدارة الممتلكات. وهذا دور مهم، لكنه ناقص إذا لم يترافق مع كلمة حق في وجه الظلم، ومع انخراط حقيقي في الدفاع عن المظلومين والمهمشين. فالمسيح الذي قام من بين الأموات لم يدعُ تلاميذه إلى العزلة، بل أرسلهم إلى كل العالم.
- حجر القبر وحجر اللامبالاة
يشكل الحجر الذي أُزيح عن قبر المسيح رمزًا عميقًا لكل ما يعوق الإنسان عن العيش الحقيقي. واليوم، تقف في داخل الكثيرين حجارة اللامبالاة، والأنانية، والتقوقع، والخوف. هذه الحجارة تمنع نور القيامة من التسلل إلى القلب، وتحول دون تحوّل المؤمن إلى شاهد حيّ للرجاء. فلا قيامة حقيقية دون أن تُزاح هذه الأحجار من داخل النفس.
إن الإنسان المعاصر، وخصوصًا في لبنان، أصبح أسيرًا لكثرة الأحداث وصخب الأزمات، ما دفعه إلى الانغلاق على ذاته، وعدم الاكتراث بالمجتمع. وهذا ما جعل الكثير من المسيحيين ينسون رسالتهم الأساسية في العالم. لقد تحولت القيامة عند البعض إلى شعار ديني، بدل أن تكون أسلوب حياة ونمط وجود.
من هنا، يُصبح عيد القيامة لحظة صدمة مقدسة، يهزّ بها المسيح ضمائرنا كما هزّ التلاميذ في القبر الفارغ. هو ينادينا لننهض من ركام اللامبالاة، ونعيد اكتشاف دعوتنا كحاملي نور وسط الظلمة. فالمسيحي الحقّ لا يعيش لذاته فقط، بل يحمل في قلبه همّ الآخر، ويسعى ليبني مع المسيح مجتمعًا جديدًا تملؤه الحياة لا الموت.
- نحو مسيحية فاعلة لا شكلية
أمام تفشي الشكلية الدينية في المجتمع المسيحي اللبناني، تبرز الحاجة إلى مسيحية حقيقية تُترجم الصلاة إلى فعل، والإيمان إلى التزام. من المؤلم أن نرى كثيرين يتحدثون عن المحبة، ولكن تصرفاتهم تفضح العكس: لا تسامح، لا غفران، ولا رحمة. إن القيامة ليست مشهدًا نرنمه فقط، بل مسؤولية نعيشها في كل حين.
من السهل أن نردد الصلوات والتراتيل، لكن الأصعب أن نعيش معناها في الواقع. فالمسيحي مدعو إلى أن يُجسّد المحبة التي ينادي بها، وأن يترجم كلامه إلى فعل. وهذا التحدي يطال الفرد كما الكنيسة كمؤسسة، التي يجب أن تكون قدوة في الشفافية، والعدالة، والرحمة، لا فقط في التعليم والتنظيم.
إذا أردنا لمسيح القيامة أن يكون حاضرًا في وطننا، علينا أولاً أن نعود إلى جذور الإيمان: محبة بدون قيد، خدمة بدون مقابل، تضامن بلا حدود. فبهذه القيم وحدها نستطيع أن نواجه الموت المجتمعي، ونسهم في ولادة لبنان جديد يُشبه نور القيامة، لا ظلمة القبر.

- الخاتمة
القيامة ليست خاتمة قصة، بل بداية لمسيرة مستمرة من الشهادة والنضال. في هذا الزمن الصعب، يدعونا المسيح القائم إلى أن نكون نورًا في وسط الظلمة، وأن نزيل من قلوبنا حجارة الخوف واللامبالاة. لبنان بحاجة إلى مسيحيين قائمين، لا خائفين؛ شاهدين، لا متقاعسين.
الاحتفال بالقيامة لا يكتمل إلا إذا تحوّل إلى فعل في المجتمع: محبة، إصلاح، مقاومة للفساد، والتزام بحقوق الإنسان. إنها دعوة لنكون كنيسة فاعلة، حية، تشهد للمسيح من خلال التزامها بالقيم الإنجيلية. في عيد القيامة، يهبنا الربّ نعمة النهوض من كل موت يحيط بنا، كي نعيد بناء وطن يُشبه الله في عدله ورحمته.