د.أحمد خيري و بعض كتبه
د. غالب خلايلي
يبدو الطُّبّ – من حيثُ الشكلُ – بعيداً عن الأدب، فمنْ يختبرْ أجواء الأطبّاء قد يستنتج ذلك البُعْدَ، فما دخلُ الحقنِ المؤلمة ومشارطِ الجراحين وكمّاشات الأسنان وبكاء الفزع… بأبياتٍ رقيقةٍ من الشعر؟
إنّ نظرةً مؤنسنةً تؤكّد قربَ الأدب من روح الإنسان، ففيه تُبنى جسورٌ من الفنّ والمتعة وتُترجم العواطف، لأن الذي نتعامل معه في كل المهن (والهدف النهائي لها) هو الإنسان، ذلك الكائن الحيّ الذي ينبض بالدم والأحاسيس، وليس مجرّد رقم أجوف أو بطاقة تأمين أو محفظة مالية. ولما كان الطُّبُّ يتعامل في جوهره مع الروح المعذّب، فإن الأدبَ الحقيقيَّ رديفُه، والطبيبُ – بما يراه من مختلف الآلام عند البشر- أقدرُ على فهمٍ أرحبَ لهم، ومن ثم فإن الأديب أقدرُ على مواساتهم. ثم إن للأدب فائدة تعود على الطبيب نفسه، فمهنة الطب الصعبة تتطلّب الترويحَ عن النفس، والعلاج الفيزيائي وحتى النفسيّ أحياناً. والمجالَ الطبي الرّحبَ هو في الوقت ذاته مجالٌ خصبٌ للأديب كي يتمرّسَ بحقائق الحياة، وقد عبر القاص الطبيب أنطون تشيخوف عن ذلك أروع تعبير: “ليس هناك اختصاصٌ يثير هموماً كبيرةً بقدر اختصاص الطبيب”، ثم بقوله: “الطب زوجتي الشرعية، والأدب عشيقتي السرّية؛ إذا شعرتُ بالتعب من واحدةٍ ذهبتُ للأخرى”.
إنّ هناك رغبةً كامنةً في قلب كل منّا للتعبير عن أحاسيسه، وإرسال رسالة ما إلى الناس، وهذا دافعٌ مهم للكتّاب كي يكتبوا، مثلما يدفع الكثيرين اليوم للكتابة، أية كتابة، ولو كانت فجّة.
هذا وقد بدا لي في أثناء بحثي عن أطباء الأسنان الأدباء (وهم ليسوا كثرة حسب محركات البحث) أن مواهب هؤلاء خلقت معهم قبل أن يفكّروا بما سيكونون عليه في المستقبل.

رؤية نقدية لـ (الأسنان في الأدب):
في مقاله (أسنان الأدب) كتب الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين:
“في حكاية من “ألف ليلة وليلة” خلع الأميرُ أسنانَ عبد السوء لأنه أكل فاكهته العجيبة. كان عقابا عابراً، مثله مثل السجن؛ لكن مشهد خلع الأسنان لم يتكرر كثيراً في “ألف ليلة وليلة“. والشيء الأكيد أن مسألة الأسنان ستتخذ تجلياتٍ حافلة ًبمثيرات الكلام والوصف البلاغِيّيَن في مصنفات الأخبار والأسمار؛ بيد أن ما سيمنح جواهر الفم آفاقا جمالية أكثر تعقيدا ودرامية هو التاريخ الروائي، ولا سيما حين نقرنُها بصورة شديدة الدلالة في رواية “دون كيخوطي” إذ يقص الأخير آلام أسنانه على خادمه صانشو في مشهد بديع.
بعد ذلك، سيكون للأسنان موقع محوري في مشاهد الأكل والعضّ والقبل، وفي صور السخرية من شخصيات القاع، حيث تشكل الأسنان المسوّسة والأضراس المنخورة ملمحا أساسيا في تخييل مضامين الرداءة المضحكة للشخصيات الروائية في نصوص بلزاك وستاندال ودوستويفسكي.
تحضر الأسنان بشكل جوهري في السير الذاتية لا سيما تلك التي تروي مسارات السجناء السياسيين. لا أنسى بتاتا لحظة قلع الضرس المنخور التي ضمنها أحمد المرزوقي في سيرته “الزنزانة رقم عشرة”، حيث لجأ السجناء إلى ربط أضراسهم بخيوط وشدّوها إلى أبواب الزنزانات، وعادوا بقوة إلى الوراء (فتخلع).
تبدو الأسنان الذهبية في روايات نجيب محفوط جوهرية ومثيرة في آن، إذ تمثل علامة أساسية في تمييز الرفاه السوقي بالنص. لا يمكن أن ننسى صورة الحانوتي الذي يخلع السن الذهبي للميْت بعد دفنه بساعات.
“الضرس” أو “السن” شيء جوهري جدا، أنفسُ من كل الأحجار الكريمة.
استحضرت كل هذه المشاهد الأدبية اليوم، وأنا أفتح فمي في عيادة طبيبة الأسنان. كان الأمر يتعلق بترميم بسيط، وإذا بالضرس البائس ينهار! شيء درامي فعلا ومفعم بالتوتر وبواقعية القاع السحيق. أعتقد مجددا أن الرواية هي فن الفنون، لأنها الوحيدة التي تستحضر حقوق الأسنان.

الدكتور محمد منير أبو شعر ومُتحفه التراثي:
هو أديب طبيب وصحفي عاشق للشام والتراث ولمهنته (طب الأسنان) منذ تخرج في جامعة دمشق 1967. يقول: “بعد نيلي الثانوية العامة كان حلمي أن أدرس في كلية الفنون الجميلة. عارض والدي رغبتي بشدة قائلا: إن الفن سيجبرك على بيع كل شيء حتى معطفك، لأنه لا يطعم خبزاً، فقررتُ دراسة طب الأسنان، لأن قناعتي أنها علمٌ وفن، كما في أدبيات الفرنسيين (فنّ طب الأسنان)، لذلك جعلتها هواية، وقررتُ الإبحار في تاريخها”.
والدكتور منير (المولود في الميدان 1942) شعلة نشاط وحيوية وشاعرية ومحبّة خالصة للطب والأدب والتراث، وما زال يمارس عشقه منذ أكثر من خمسة عقود في عيادته قرب مشفى المجتهد. والجميل أنك عندما تدخلها تشعر بالارتياح التام والغبطة في جوّها المزدان بنباتات الزينة، واللوحات المكتوبة بخطّ عربي جميل، فإذا جُلتَ فيها وجدتَ مكتباً فيه من المؤلفات والمطبوعات ما يعرّفك على الفور أنك في حضرة كاتب وصحفي عريق، شرّفني بإهداء عدد منها، وصدّرها بخطه الجميل، وحفاوته الشعرية الدافئة. ويجدر بالذكر أن لدى أديبنا أرشيفاً أدبياً وطبياً مهماً من المقالات واللقاءات والصور النادرة التي توثق للأوساط الأدبية والطبية في دمشق وسورية، نأمل منه نشرَها على الملأ، لندرة التوثيق في بلادنا (مما يجعلنا مع مرور الأيام كأننا ما كنّا).
وفي زاوية أخرى من العيادة تجد غرفة عجيبة ذات باب زجاجي جميل، يسميه أديبنا (متحف تراث طب الأسنان)، وأنى لك أن تدركَ محتوياتِه القيّمةَ النادرة، فيما تخبّئ الدروج أكثر مما تبدي. وعن هذا المتحف حدثني أبو شعر في زيارة خاصة إليه (آب 2019): “عبر نصف قرن من ممارستي لطب الأسنان، رحت أجلب كل شيء قديم لأضعَه في هذا المكان الذي يضم قديمَ الأجهزةِ في طب الأسنان والأدوات والمواد، والشهادات والصور، عبر أكثر من 100 سنة تؤرّخ لتاريخ الطب في سورية”. ويجذب النظر جهاز يدوي قديم جداً لحفر الأسنان، كان يستخدم مثل آلة الخياطة اليدوية، في عملية حفر مزعجة جدا للطبيب، لأن عليه أن يحرّك جهازه بقدمه، ومؤلمة جداً للمريض بسبب البطء (لهذا سمّي كرسي طبيب الأسنان: كرسي الاعتراف)، إلى أن دخلت الكهرباء (ويشير بيده إلى أول جهاز كهربائي للحفر دخل سورية)، فصار الألم من مخلفات الماضي. هذا ويحوي المتحف عشرة آلاف قطعة. ولو زرتَ متحف الطب والعلوم في بيمارستان النوري بدمشق ستتأكد أنني أملك في متحفي مقتنيات أكثر منها بكثير. كما إن لدي جهاز حفر أسنان نادر صنعته شركة يابانية قبل 100 سنة، وقد حاولت الشركة استرداده بأي مبلغ، لكنني اعتذرت لها لأنني لا أبيع حلمي، حيث أرى نبض التاريخ في متحفي. وفي المتحف أقدم مذياع (راديو) دخل إلى سورية، مع عدد من الأجهزة التي تؤرخ لمسيرة صناعة (الراديوات) في العالم، كما تجد عدداً كبيراً من (القدّاحات) القديمة، التي فُرضت عليها في الماضي رسوم سنوية، مقابل ختم على القداحة، وإلا تعرّض صاحبها للتغريم.

أما الشيء المهم الثاني في المتحف فهو تراث والد الطبيب، الذي عمل في مهنة صناعة النسيج على نول عربي قديم، لإنتاج البُسُط (والتي تفرش أرضية المُتحف)، وكان والده يصر على أن يتعلّم أولاده المهنة، فعلّمها لمنير الطفل، واستمرت العائلة بها بعد أن جلبت أحدث الآلات لإنتاج البرانس والبشاكير. ويذكر أبو شعر أن بيوت الصين تحوي زوايا فيها تراث العائلة، يلجأ إليها وقت الشدة، فتنزع الضيق وتفرج الهمّ. لكل هذا يرى أبو شعر أن متحفه جدير بالتخليد في موسوعة (جنيس)، وقد اتخذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، كما أوصى أن يكون مآلُه مستقبلا جامعةَ دمشق (1 و2). هذا وقد تسنّم أبو شعر عدداً من المناصب (المدير التنفيذي للاتحاد العربي لأطباء الأسنان، عضوية الجمعية السورية لتاريخ الطب عند العرب، عضوية لجنة إنجاز معجم طب الأسنان الموحد، نيابة رئيس الجمعية السورية لمكافحة السل والأمراض التنفسية ورئاسة تحريرمجلتها (الإرشاد الصحي)، إدارة تحرير (طبيب الأسنان العربي، مجلة طب الفم السورية)، ما عدا عدد من المؤلفات الثمينة (نفائس ابن النفيس، ومحمود الهواري عميد الخط العربي).
التمسّك بطب الأسنان لـ “فواتير” الدكتور علاء الأسواني:
هو أديب مصري ولد عام 1957 وحصل على بكالوريوس طب الأسنان من القاهرة، فالماجستير من أميركا، قبل أن يتجه إلى السياسة والكتابة. اشتهر الأسواني بآرائه المعارضة للأنظمة في مصر بدايةً من عهد مبارك، وقد رأى مصر دولة منهارة، فرواية عمارة يعقوبيان صدمت القراء بتصويرها لدولة فاسدة، تجبر فيها النساء الفقيرات على العمل عاهرات، ويتجه فيها الشباب الغاضب إلى التشدد الديني، ومقاعد البرلمان تباع وتشترى فى صفقات اقتصادية، وضباط الشركة يعذِّبون ضحاياهم بقسوة خلال الاستجواب. وقد اختارته جريدة “التايمز” البريطانية ضمن أهم خمسين روائي في العالم ممن ترجمت أعمالهم للإنجليزية في آخر 50 عاما، كما اختير أبرز شخصية أدبية في العالم العربي عام 2007 في استطلاع أجرته قناة “العربية”.
وإذا أردت أن تقابل الكاتب الذى حققت رواياته أعلى مبيعات، فعليك أن تحصل على موعد في عيادته للأسنان. إن صاحب رواية عمارة يعقوبيان، التى حطمت الأرقام القياسية فى مصر والعالم العربى، وتحولت إلى فيلم رصدت له ميزانية غير مسبوقة، لا يزال فى حاجة إلى عمله طبيب أسنان كي يدفع “فواتيره”. ويرى الأسواني أن طب الأسنان وكتابة الرواية مرتبطان، فالأول يساعده على إيجاد الشخصيات وتطويرها من أجل الثاني، وإذا لم يكن فى جولة حول العالم تتعلق بكتبه، فإنه يقضي الوقت فى عيادته بحي جاردن سيتى ينظف أسنان الشخصيات التى يكتب عنها. ويرى الأسواني أن كلاً من الطب والأدب يتعاملان مع قضية واحدة هي البشر، ويقول: “يمكننى أن أترك طب الأسنان إذا أردت، لكن لن أفعل لأن عيادتي هى النافذة التى أتتبع من خلالها المجتمع المصري”.

حرف الدال والأديب أحمد خيري العمري:
هو كاتبٌ عراقيٌ مشهور من مواليد بغداد عام 1970، والده مؤرخٌ وقاضٍ معروف. تخرج العمري في كلية طب الأسنان ببغداد عام 1993، وعُرِف كاتباً إسلامياً تجديدياً أكثر منه طبيباً. يتحدث العمري عن اختياره طب الأسنان فيقول: “كانت الطبقات الوسطى في المجتمعات العربية (ولا تزال) تمجّد مهنتين، الطب والهندسة. احترام هاتين المهنتين عالمي، ولكن هناك مهناً أخرى محترمة جدا ( المحامي، المدرس، التمريض…) لا ينظر إليها بالدرجة نفسها -رغم أهميتها- وأعتقد أن السبب مرتبط بعدم الثقة في الحكومات، إذ يمكن للطبيب والمهندس (نظريا) أن يحققا نجاحا فرديا (عيادة ، مكتب) بمعزل عن الحكومة، بينما يرتبط المحامي بمنظومة قضاء، ويرتبط المدرس (بالإضافة لقلة راتبه) بمنظومة تعليم. وأنا لم أحب الهندسة، فلدي عضلة في ساقي تتشنج أثناء حل مسائل الجبر! وكذا كان عندي رعب الطب. كانت شقيقتي الكبرى تدرسه، وكنت أشعر أن دراسة الطب تعني التخلي عن كل هواياتي وقراءاتي. بطريقة ما كان طب الأسنان (حلا وسطا). بعبارة أوضح: إرضاء المجتمع، الطبقة الوسطى، الحصول على اللقب بدراسة أقل.. أقول ذلك الآن بلا خجل وبلا شعارات. لكن هذا لا يعني أني لم أحبّ المهنة. أول عامين لم أحبّها أبدا، ولكن في السنة الثالثة تغيرت أشياء كثيرة.
منحتني المهنة الكثير، ولهذا لا أملك إلا أن أكون وفيا لها. منحتني علاقات مهمة في حياتي، زواجي بأم زين (وهي أفضل ما حدث لي منذ الإسلام!) ما كان يمكن أن يحدث لو لم أكن طبيبا للأسنان. بعض العلاقات جعلتني أكتشف أن الكتابة التي في داخلي يمكن أن تخرج إلى الآخرين. أول تجربة كتابة حقيقية لي كانت لمريض وجدت أن إهداءه شريطا أو كتيبا من وسائل الدعوة كان كفيلا بتطفيشه إلى الأبد. لم ألعن الظلام، بل كتبت ونجحت. أعتقد أن طبيعة المهنة (الجمع بين العلم والحرفة) أثرت حتى على أسلوبي. كثيرا ما أشعر – ويشعر القراء- أنني أحفر عبر الكتابة. منحتني المهنة الاختلاط بالناس الحقيقين: الكلام معهم، مشاكلهم وآلامهم وحياتهم. على هذا الكرسي سمعت قصصاً إنسانية وسّعت مداركي وآفاق وعيي، وعرفت الكثير عن ناس ما كنت سأجد فرصة للحوار معهم. منحتني المهنة الكثير من الشخصيات التي رسمتها في رواياتي، ومنحتني الشعور الذي لا يمكن نسيانه ولا يقدر بثمن: أن تغير حياة شخص بتغيير ابتسامته خلال نصف ساعة. يعرف مرضاي وجهاً مختلفا جدا عن وجه الكاتب، وجه طبيب الأسنان الذي يقلق على مرضاه ويتصل بهم ليطمئن أن الأمور بخير (المعتاد هو أن يتصل المريض بسبب الألم وأن يُعد عدم اتصاله دليل غياب الألم..). منحتني مهنتي أيضا حرف الدال ، الدكتور، الذي اختصر الكثير من طريقي بلا شك. منحتني النظرة المقربة من الطبقة الوسطى.
أطباء الأسنان هم بالتعريف طبقة وسطى، يولدون فيها غالباً، ويرغبون في تسلّقها إلى الجزء الأعلى منها، ولكن تجتمع فيهم كل مميزات الطبقة الوسطى وعيوبها بطريقة مكثفة، ومعبرة جدا. لا أنكر وجود الكثير من المظاهر عندهم، وهي تتزايد بشكل مضطرد، ولا أنكر أنهم احيانا يكونون (في حالة تركيز أحادي على شيء واحد فقط، بسبب من طبيعة المهنة التي تحصرهم في مِساحة ضيقة)، ولا أنكر أن مهرجانات، عفوا مؤتمرات طب الأسنان، تكون أحيانا عروض أزياء ومجوهرات، وأكياس تسوق…، والكثير من الشللية، حيث تنمّ شلة على أخرى، وإن كان هذا موجودا في أغلب المهن. عداوة الكار موجودة (عند الكتاب أكثر، أشهد) (3).
الأديب الدكتور موفق أبو طوق الرفاعي:
ولهذا الأديب اللبيب وابن حماة العزيز ذكريات أدبية لا تنسى، إذ تجاورنا لعقود في “مجلة طبيبك” الشهيرة (1986-2015)، في عهد المرحوم الأستاذ الدكتور سامي القباني.
ولد الدكتور موفق أبو طوق في حماة 1950 ، وحاز على إجازة في طب الأسنان وجراحتها من جامعة دمشق 1975، ودرّس في كلية طب الأسنان بحماة، وكان عضو لجنة تعديل المناهج المدرسية المنبثقة عن وزارة التربية والنقابة المركزية لأطباء الأسنان في سورية، ناهيك عن مناصب نقابية وثقافية أخرى، حيث كان غزير الإنتاج في الأدب والأدب الطبي وأدب الأطفال.
ومن كتبه: وللأسنان عالمها الخاص (1975)، مجموعة الأمل الضائع (أقاصيص للكبار 1982)، ومروان والألوان (للأطفال 1994) والورد يبتسم دائماً (للأطفال 1995)، وغيرها الكثير.
توفاه الله في حماة 2024، ونرجو له شآبيب الرحمة والمغفرة، ونرجو من أهله العناية بتراث أديب كبير.
الشاعر الدكتور نزار بني المرجة:
لهذا الطبيب والأديب اللبيب معزة خاصة، لأنه كان صديق والدي الشاعر خليل خلايلي وطبيبه في الوقت نفسه، وكذا طبيب والدتي مريم خلايلي رحمهما الله. وكم كال الوالدان له المديح الذي بدا لي لاحقاً أنه يستأهله بحقّ عندما تعرّفت إليه بصفة الصديق، ثم زميل الشعر والأدب، وسيد الدماثة واللطف الذي لم يتغير مع الأيام. وأول ما تعرّفت إليه، ربما منذ ربع قرن، كان في بيت أهله في حي الشاغور الدمشقي القديم برفقة أبي الذي أراد أن يعرفني إلى الأب الأديب والابن الشاعر في آن واحد، وكانت وقتها أمسية أدبية بامتياز.
ولد الدكتور نزار في حي مئذنة الشحم بدمشق 1954، وحصل على إجازة في طب الأسنان 1978، واختص في أمراض اللثة، وبدت عنده موهبة مبكّرة في الشعر، ولا عجب إذ كان سليل بيت أدبي، في حارة دمشقية كان أبرز من فيها الشاعر نزار قباني، ناهيك عن أنه تتلمذ على يد الأديب الباحث والمصوّر الطبيب قتيبة الشهابي، في طب الأسنان وفي هواية التصوير. وقد تسنّم الدكتور نزار مناصب إدارية وعلمية كبيرة، مثل رئاسة تحرير مجلة طبيب الأسنان العربي، وإدارة تحرير مجلة طب الفم السورية، والإدارة التنفيذية لاتحاد منظمات أطباء الأسنان العرب، وغيرها من المناصب النقابية والأدبية.
وقد نشر الدكتور نزار قصائده الأولى في الصحف السورية واللبنانية، وله عدة مؤلفات في الطب (الصحافة الطبية العربية، بين الأدب والطب. ..) والشعر (ديوان أفراح الحزن القارس، سيد الماء والتراب، شعلة الغيم، الكمان والبندقية)، كما شارك في عديد من معارض التصوير الضوئي، وترأس (نادي فن التصوير الضوئي في سورية بين 1994 و1995).
ومن ذكرياتي الجميلة وإياه، أمسية ثقافية في مركز دمّر الثقافي، كانت رغم الحرّ وغياب التكييف عامرةً بالحضور الوديع، إذ تحدث المحاضرون (نزار بني المرجة، غسان كلاس، أحمد بوبس) مساء 20 آب 2015 عن الأديب الشاعر والمترجم الراحل (كمال فوزي الشرابي) في ذكرى ميلاده. نعم، وسط كل ما تسمعه من ضجيج، هناك من هو وفيّ حتى لشاعر راحل. كما أتذكر أمسيةً متميزةً في 29 آب 2017 بعنوان (أطباء لكن شعراء) أبدع فيها المحاضرون (نزار بني المرجة، محمد مروان مراد، برهان خربوطلي) في الإضاءة على أطباء شعراء منذ العهدين الأموي والعباسي وحتى يومنا هذا، فغصّت قاعة أبو رمّانة الثقافية بالحاضرين، وتفاعل كثير منهم مع الحدث، متطرّقين إلى إنسانية مهنة الطب، وإلى صعوبة ولادة أديب أو شاعر بين الأطباء.

الأديب الأستاذ الدكتور قتيبة الشهابي
هو ابن الأمير أحمد الشهابي أحد دعائم الثورة السورية الكبرى في غوطة دمشق، حيث كان رئيساً لمحكمة الاستقلال في قرية «الحتيتة» في الغوطة.
ولد قتيبة في دمشق 1934، ودرس الابتدائية في مدرسة دوحة الأدب أثناء الاحتلال الفرنسي لسوريا حيث كان مدرّسوه عرباً في مدرسة أسّست خصيصاً للرد على المدارس الفرنسية آنذاك (اللاييك والفرنسيسكان). أحب الشهابي التصوير الفوتوغرافي منذ طفولته، فاقتنى أول كاميرا (وكان ثمنها ليرة سورية واحدة)، ومارس هوايته حتى أصبح محترفاً. أما في الإعدادية فقد هوي المطالعة وكتابة القصة. وعلى الرغم من أن والده محامٍ، لم يسمح له بدارسة الحقوق، فما كان منه إلا أن اختار طب الأسنان، ببكالوريا أدبية. وبكى الشهابي في أول شهر من الدراسة لعدم فهمه المنهج، ولكنه بقوة إرادته نجح وتميز في جامعة دمشق، ثم حصل على دكتوراه في جراحة الأسنان وشهادة التصوير الضوئي العلمي والمجهري والفني من لندن.
بدأت قتيبة رحلته في البحث التاريخي والتوثيق بالصور عندما كلفته وزيرة الثقافة نجاح العطار عام 1985 بالبحث التاريخي لمدينة دمشق، فواجه التحديات الكبيرة لشحّ المصادر والتوثيق الخاص بالأحداث. ومع الأسف هذه مشكلة قائمة في كل المناحي حتى اليوم، فقد واجهتُ عنتاً مماثلاً عندما رحتُ أبحث عن تاريخ مدرستي (تجهيز البنين) وعن نشوء طب الأطفال في جامعة دمشق.
عمل الشهابي أستاذاً في كلية طب الأسنان بدمشق (1963-1994)، وأستاذاً للتشريح الفني في كلية الفنون الجميلة، وأنجز عدة معارض تشكيلية وفنية داخل سوريا وخارجها، وله عدد كبير من المؤلفات العلمية (طب أسنان، مع معجمين إنكليزي – عربي عن المصطلحات الطبية)، والتراثية التاريخية (دمشق تاريخ وصور، هنا بدأت الحضارة (سورية تاريخ وصور)، أسواق دمشق القديمة ومشيداتها التاريخية، مآذن دمشق تاريخ وطراز، معالم دمشق التاريخية، أبواب دمشق وأحداثها التاريخية، زخارف العمارة الإسلامية في دمشق، النقوش الكتابية في أوابد دمشق، صمود دمشق أمام الحملات الصليبية، معجم دمشق التاريخي (ثلاثة أجزاء)، نقود الشام، عباقرة وأباطرة من بلاد الشام، أديرة وكنائس دمشق وريفها، معجم المواقع الأثرية في سورية).
توفي الشهابي عام 2008 عن عمر ناهز 74 عاماً بعد صراع طويل مع المرض، رحمه الله وذلك الرعيل القدير رحمة واسعة.
العين في 13 أيار 2025
هوامش:
- لقاء مع الدكتور منير أبو شعر (1) https://youtu.be/8EZXHQFmEUc?si=gbqVndxzh5bbsIL0
- لقاء مع الدكتور منير أبو شعر (2) https://m.youtube.com/watch?v=VCGayNvQIXE
- يوافق رأي العمري رأيي عن المؤتمرات (المهرجانات) الطبية.
- مقال طب الأسنان 1: https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-teeth/
- مقال طب الأسنان2: https://taminwamasaref.com/dr-khalayli-teeth-2/