الجوع و الحرمان
في بيان عن مآسي غزة للمديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، د. حنان حسن بلخي، ان قلقاً عميقاً بشأن الوضع الكارثي في هذا القطاع ينتاب المنظمة، إذ أُبلغَ حتى الآن عن أكثر من 52 ألف حالة وفاة، وما يقرب من 120 ألف إصابة، فضلاً عن تعرّض آلاف العاملين الصحيين للقتل أو الإصابة أو الاحتجاز. وتضيف السيدة بلخي أن: “المستشفيات المتبقية تكافح للحفاظ على أدنى مستويات الخدمة. ويفقد الناس أرواحهم، تقبع الإمدادات الطبية المنقذة للحياة خارج حدود غزة ممنوعةً من الدخول. أكثر من ذلك، فبعد تسعة أسابيع من الحصار الشامل، تقترح السلطات الإسرائيلية إلغاء نظام توزيع المعونة الذي تقوده الأمم المتحدة، وتوزيعه وفقًا للشروط التي يحددها الجيش، بدلًا من ذلك”. تتابع د. بلخي: “لن تكون منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة طرفًا في أي مبادرة تنتهك المبادئ الإنسانية. فلا بديلَ من وصول المساعدات إلى المحتاجين إليها أينما كانوا، ولا بديل عن إنهاء الحصار”.
في مجال آخر، ووفقًا للتحليل الصادر عن مبادرة “التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي” بشأن انعدامه الأمن وسوء التغذية الحاد، يواجه جميع سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة نقصًا مطولًا في الغذاء، ويعاني واحد من كل خمسة أشخاص، أي ما يقرب من نصف مليون، من المجاعة. كذلك، يواجه ثلاثة أرباع سكان غزة مستويات “طارئة” أو “كارثية” من الحرمان من الغذاء. ورغم أن المجاعة لم يُعلَن عنها حتى الآن، لكن الناس يتضورون جوعًا بالفعل، والأمراض تنتشر بسرعة كبيرة. وما لم تُتَّخذ إجراءات عاجلة، فسيشهد الوضع الراهن تدهورًا سريعًا.

بالإنتقال الى اليمن، فقد أسفرت الغارات الجوية الأخيرة عن مقتل أو إصابة أكثر من ألف شخص مع استمرار الهجمات على المرافق الصحية، وما زالت المنظمة تعكف على تسليم الإمدادات الأساسية لعلاج المصابين بالرضوح. ذلك أن اليمن يواجه واحدة من أكبر فاشيات الكوليرا في العالم، إذ شهد العام الماضي أكثر من 270 ألف حالة مشتبه فيها، وما يقرب من 900 حالة وفاة، وهو ما أدى إلى معدل إماتة إجمالي للحالات بنسبة 0،33 بالمئة.
أما في السودان، فلا تزال الهجمات على المدنيين والبِنى الصحية الأساسية مستمرة. وبسبب ذلك، هرب أكثر من 400 ألف شخص من أعمال العنف المتجدد في مخيمات الفاشر وزمزم. كذلك فهذه الدولة تواجه أسوأ أزمة جوع في العالم من حيث الحجم. اذ تشير التقديرات إلى أن نحو 24.6 مليون شخص سيواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي هذا الشهر، منهم 770 ألف طفل يعانون سوء التغذية الحاد الوخيم. وضمن هذا الإطار، تواصل منظمة الصحة العالمية تقديم الدعم إلى 136 مركزًا إسعافيًّا تغذويًّا قدَّم خدماته إلى 8 آلاف طفل هذا العام، وتسليم الإمدادات الطبية لتلبية الاحتياجات الملحة، علماً أن المنظمة نشرت فرقًا وإمدادات لمساعدة السلطات على مكافحة الكوليرا، التي أودت بحياة أكثر من 1600 شخص في 12 ولاية.

تقول د. بلخي في بيانها: “لقد احتفلنا أمس، 12 أيار باليوم الدولي لكادر التمريض. وأطلقنا التقرير الثاني عن «حالة التمريض في العالم»، الذي يتضمن تحذيرًا من استمرار النقص الكبير في أعداد العاملين في التمريض إلى ما بعد عام 2030، لا سيما في الأقاليم المعرَّضة للخطر، مثل إقليم شرق المتوسط، ما لم يجرِ اتخاذ إجراءات سريعة في هذا الصدد. تابعت: “إن طواقم التمريض هي حجر الأساس لنُظُمنا الصحية، ومع ذلك، فهي لا تزال تعاني انخفاضاً في الدعم، وتدنِّياً بالأجور، وغياباً للحماية. وفي أماكن مثل السودان وغزة، حيث تقف النُّظُم الصحية على حافة الهاوية، لا تزال طواقم التمريض تتفانى في أداء واجبها في الخطوط الأمامية، مُخاطِرةً بحياتها من أجل إنقاذ حياة الآخرين”. مضت تقول: “في العام 2024، وقع 61% من جميع الهجمات العالمية على مرافق الرعاية الصحية في إقليم شرق المتوسط، وأثَّر أكثر من 80% من تلك الهجمات على العاملين الصحيين. وبالرغم من أن طواقم التمريض تشكِّل ما يقرب من نصف القوى العاملة الصحية، فإن كثافتها في الإقليم لا تزيد على 15.5 عاملًا لكل 10 آلاف شخص – وهي نسبة ضئيلة مما يلزم لتقديم رعاية آمنة وعالية الجودة. ويؤدي هذا النقص إلى إضعاف النُّظُم الصحية على نحو جسيم، لا سيما في الأزمات. وكما تعلمون جميعًا، فإن احتياجات البلدان التي تشهد حالات طوارئ مُصنَّفة تتجاوز كثيرًا مجرد النقص في أعداد القوى العاملة. لذا قوَّضت التخفيضاتُ الأخيرة في المساعدات الإنمائية الخارجية قدرةَ المنظمة على تقديم الخدمات الصحية الأساسية في شرق المتوسط بصورة بالغة، وهو ما أثر على ملايين الأشخاص، مع أن الإقليم يستأجر بأكثر من نصف احتياجات التمويل العالمية للمنظمة في حالات الطوارئ، ومع ذلك، لم تتلقَّ المنظمة في عام 2025 سوى 7% من الأموال اللازمة للاستجابة لحالات الطوارئ في جميع أنحاء الإقليم”.
الى ذلك، ودائماً حسب د. بلخي، تتعرض المرافق الصحية في الإقليم لخطر الإغلاق أو الاضطراب الشديد في الخدمات، وهو ما يترك اللاجئين والنازحين دون رعاية طارئة أو أدوية أو دعم للصحة النفسية أو خدمات لعلاج الرضوح”.
لا تكتفي المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية للشرق الأوسط بهذا القدر من المعلومات الخطيرة، بل تذهب لتقول أن “خدمات الكشف عن فاشيات الأمراض ومكافحتها تأثرت كبيرًا، إذ تعطلت أنشطة الترصد وتراجعت قدرات المختبرات، الأمر الذي يزيد خطرَ انتشار الأوبئة دون السيطرة عليها. وخلاصة ذلك أن ملايين الأرواح أضحت في دائرة الخطر. لذلك، نحتاج إلى تمويل مستدام ويمكن التنبؤ به لمواصلة تقديم الخدمات الصحية في حالات الطوارئ الحالية، وبناء قدرة نُظمنا الصحية على الصمود في المستقبل. ان هذه الأزمات وغيرها سوف تتصدر جدول أعمال جمعية الصحة العالمية الثامنة والسبعين التي ستُعقد الأسبوع المقبل في جنيف وتشارك فيها
الدول الأعضاء في الاجتماع الثاني والأربعين للجنة البرنامج والميزانية والإدارة، وجمعية الصحة العالمية، والدورة السابعة والخمسين بعد المئة للمجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية. وستقيِّم معًا التقدم المحرز وتتخذ قرارات حاسمة، بدءًا من التأهب للطوارئ والاستجابة لها، وانتهاءً بالميزانية البرمجية للثنائية 2026-2027.
يُذكر أن الاتفاق بشأن الجوائح يُعدّ أحد أبرز البنود المطروحة على جدول الأعمال. فبعد ثلاث سنوات من التفاوض، أصبحت مسودة الاتفاق جاهزة الآن للاعتماد. ويهدف الاتفاق إلى تعزيز التعاون الدولي للوقاية من الجوائح في المستقبل والاستجابة لها. كذلك ستركّز المقترحات الرئيسية الواردة فيه على التأهب للجوائح من خلال اتباع نهج الصحة الواحدة، وبناء نُظم صحية أقوى، وحشد القوى العاملة الماهرة في حالات الطوارئ، وتعزيز قدرات البحث والتطوير المتنوعة جغرافيًّا، وإنشاء شبكة عالمية لسلاسل الإمداد والدعم اللوجستي، ونقل التكنولوجيا، ونظام لإتاحة مسببات الأمراض وتقاسم المنافع، وآلية لتنسيق التمويل. وإذا اعتُمِد هذا الاتفاق ونُفِّذ بالكامل، فقد يَحُول دون شيوع مظاهر الفوضى والتنافس وعدم الإنصاف التي اتسمت بها جائحة كوفيد-19. ويمكنه أن يحفز استجابة عالمية أكثر فعالية واستنادًا للبينات – أساسها التضامن والمسؤولية المشتركة.

لكن عملية الاعتماد هي نقطة الانطلاق فحسب. إذ سيتطلب نجاحُ الاتفاق إرادةً سياسية، واستثمارًا طويل الأجل، ومشاركة مجتمعية كاملة، تبدأ من الحكومات والمجتمعات المحلية وتنتهي عند العلماء والقطاع الخاص.

وستضطلع منظمة الصحة العالمية بدور حاسم في تنفيذ الاتفاق بشأن الجوائح، وهي على أتم استعداد لدعم البلدان في تحويل تلك الالتزامات إلى واقع ملموس.
ختامًا، تشير د. بلخي الى أن أشير إلى أن المجلة الصحية لشرق المتوسط قد نشرت الجزء الثاني من العدد الخاص عن المخاطر الطبية والآثار الصحية للحرب في غزة. ويمكن القارئ الاطلاع عليه في الموقع الإلكتروني للمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط.