زحمة سير و تلوث
د. الياس ميشال الشويري
في مجتمعاتٍ كثيرة، لا يُنظر إلى تصرّف بسيط مثل رمي القمامة في غير موضعها على أنه مؤشر خطير، كما هو واقع الحال في لبنان، بل يُتعامل معه كفعل عابر أو “تفصيل يومي تافه“. لكن الحقيقة أن هذا السلوك الصغير، المتكرّر، يخفي وراءه سلسلة كاملة من الانهيارات: انهيار في الإدراك، في الشعور بالانتماء، في الشعور بالمسؤولية، وفي فهم مفهوم الدولة أصلاً. حين يعجز المواطن عن احترام فضائه العام، فهو بالتأكيد غير مؤهل لاختيار من يدير هذا الفضاء. هذه ليست مبالغة أخلاقية بل استنتاج واقعي يتكرّر في كل مرة يُفشل فيها المجتمع تجربة ديمقراطية، أو يفرّغ فيها الدولة من محتواها المؤسساتي. في هذا المقال، نحلّل هذا التدهور الثقافي من خلال ثلاثة محاور مفصلّة: الثقافة المدنية، العلاقة بين الشعب والسلطة، وأدوات الإنقاذ.
- الثقافة المدنية ليست رفاهية بل شرط وجود
حين تتجول في مدينة يعمّها التلوث، ويملؤها ضجيج السيارات والاعتداء على الأرصفة، تدرك أن ما تشاهده ليس مجرد عيب خدماتي، بل هو تعبير عن ذهنية سائدة. هذه الذهنية التي لا تفرّق بين الخاص والعام، بين الفضاء الشخصي والمجتمعي، هي نفسها التي تصنع القوانين ولا تحترمها، وتنتخب ممثلين ثم تلعنهم بعد أيام. ما يُهمل في السلوك اليومي، يُكرّس في النظام العام.
المجتمع الذي لا يهتم بالنظام، هو ذاته الذي لا يهتم بالمساءلة. المواطن الذي لا يمانع أن يمرّ يومه بين فوضى المرافق وسوء الخدمات، لن يكترث لمن يدير هذه المرافق، بل سيتعود على الفشل. وحين يتعود الناس على الفشل، يصبح النجاح نشازاً لا يُحتمل. لذلك، تُهاجم المبادرات الإصلاحية أحياناً من الشارع نفسه، لأن الناس لم يُربَّوا على إمكانية أن تسير الأمور كما يجب.
ليس هناك مجتمعٌ ناجح اقتصادياً وفاشل ثقافياً، أو متقدم علمياً ومتخلف أخلاقياً. الحضارة منظومة متكاملة: فيها الفرد يحترم المكان، ويحترم القانون، لأنه يحترم ذاته أولاً. لذلك، فإن أول بوابة للإصلاح الحقيقي لا تبدأ من البرلمان، ولا من الوزارة، بل من سلوك الإنسان في الشارع، في الحي، في المنزل، في المدرسة. هذه هي النواة الأولى لكل نهضة.

- من لا يُدير نفاياته لا يستطيع إدارة مصيره السياسي
الإجابة ليست فقط في غياب الوعي السياسي، بل في تشوه الوعي الاجتماعي عموماً. حين يفقد الناس الشعور بالقيمة الذاتية والكرامة المجتمعية، فإنهم يبحثون عن “حامٍ” أو “زعيم” لا عن ممثلٍ ومحاسب. وهكذا تنتعش النماذج الطائفية والعائلية والزبائنية، بينما يُحاصَر الكفء، ويُدفع إلى الهامش، لأنه لا يمتلك الأدوات الشعبوية نفسها.
لا يوجد منصب شاغر يُملأ تلقائياً بالشخص المؤهل. هناك مجتمعات تضع الرجل الخطأ في المكان الخطأ، وتُكرّس ذلك كعرف وطني. وهنا لا نلوم فقط “النخبة الفاسدة”، بل قاعدة شعبية تسهم في إعادة إنتاج الفشل لأن معاييرها في الاختيار مختلة. من يَعد بالمساعدات أو الولاءات يُفضل على من يَعرض برنامجاً إصلاحياً لأن منطق “الشخص المناسب” ضاع.
حين تُدار الدولة من قِبل غير المؤهلين، تصبح المؤسسة نفسها أداة للتخريب لا للإصلاح. تهرب الكفاءات، ويُهمّش الخبراء، وتتحول الإدارة العامة إلى ورشة فساد. والنتيجة؟ شعور عام باللاجدوى، وانهيار ثقة المواطن في من يفترض أن يخدمه. وهذا هو أخطر أنواع الانهيار: حين تصبح الدولة عبئاً لا أداة خلاص.

- من الفوضى إلى النهوض – كيف نبني وعياً جديداً؟
في كثير من المجتمعات، ما زال الطفل يُربّى على الطاعة لا على المشاركة، وعلى الخوف لا على الوعي. الإصلاح يبدأ حين يُدرَّب الطفل على احترام ملكية الآخرين، على التعبير عن رأيه، وعلى تنظيف ما يُفسده. لا قيمة لأي برنامج إصلاحي إذا لم يكن مندمجاً في عملية تربوية طويلة المدى تُعيد بناء المواطن من الداخل.
الإعلام اليوم لا يؤدي دوره التوعوي كما يجب، بل في كثير من الأحيان يُعمّق السطحية وينشر التسلية الفارغة. المطلوب هو إعلام نقدي، جريء، يفضح السلوكيات الخاطئة، ويُكرّم النماذج الناجحة. وكذلك التعليم، لا يكفي أن نلقّن العلوم، بل يجب أن نعيد الاعتبار للمناهج التي تزرع الانضباط والاحترام والمسؤولية.
إن مستقبل المجتمعات المتعبة يكمن في دينامية المجتمع المدني، والحركات الشبابية المستقلة التي تُعيد تعريف العلاقة مع الدولة. هذه القوى هي الوحيدة القادرة على كسر الحلقة المفرغة من الاستكانة والانهيار. عبر مبادرات بيئية، أو حملات تطوعية، أو مشاريع رقابة محلية، يمكن أن نعيد بناء الثقة، لا بالنظام فقط، بل بالمجتمع نفسه.

- الخاتمة: في التفاصيل يسكن الشيطان … أو يسكن الإصلاح
إن من لا يعرف كيف يضع القمامة في مكانها الصحيح، لن يعرف كيف يضع القائد المناسب في موقعه الطبيعي. هذه ليست مجرد استعارة بل قانون اجتماعي محكم. الدولة هي انعكاس لوعي ناسها، والفوضى ليست قدراً بل نتيجة. الحل لا يكمن فقط في تغيير الحكومات، بل في تغيير العلاقة بين الإنسان ومحيطه. نحن، في لبنان، بحاجة إلى ثورة صامتة تبدأ من أصغر التفاصيل: من نظافة الرصيف، إلى احترام القانون، إلى وعي المسؤولية الجماعية. عندها فقط، يمكن أن نبدأ في الحلم بدولة تستحق شعبها، وشعب يستحق دولته.