من الانتخابات الاخيرة
من في العادة، من يترشّح للفوز بمقعد في انتخابات البلدية يكون اما محامياً أو رجل أعمال معروفاً قادراً على تمويل المعركة الإنتخابية. أما في ما يتعلق بالإنتخابات الإختيارية فالمرشح لها يكون، في الغالب، صاحب خبرة و ذا شأن و قدرة في منطقته لتوفير الخدمات المطلوبة لسكان الحيّ. لكن نتائج الإنتخابات التي ننتظر فصلها الأخير الأحد المقبل، بدت مغايرة عن المألوف، اذ للمرة الأولى، على سبيل المثال، يفوز مطرب معروف، هو العندليب الأشقر أحمد دوغان بمنصب اختياري في منطقة البسطة في غربي العاصمة، وهو ما أثار استغراب الكثيرين لأن من صفات المختار أن يجول على الدوائر الحكومية لتنفيذ الخدمات المطلوبة منه، فهل بوسع هذا المطرب المحبوب أن يقوم بهذه المهمة، ثم لمَ اختار هذه الوظيفة التي لا تشبهه أبداً؟ أتراه يعتقد أن “المخترة”تجلب له المال ليحيا عيشة كريمة، خاصة أنه لم يعد نجماً من الدرجة الأولى؟
مهما يكن من أمر، فإن خوض أحمد دوغان هذه المنافسة يبقى سراً من الأسرار، ولا بدّ لهذا السر أن ينكشف في القادم من الأيام عندما يُثبت قدرته على الوفاء بالإلتزامات أو فشله في توليّ هذا المنصب الذي يحتاج الى الكثير من العمل والتنقّل من دائرة الى أخرى.
لكن أحمد دوغان لم يكن الوحيد الذي لفت الإنتباه، وهذا طبيعي لأن للفنان دوراً آخر يجب أن يقوم به، وبالتأكيد ليس دور المختار الا إذا اعتبر أنه بحاجة الى لقب غريب عنه فقط،ربما للتعويض عن تراجع عمله الفني،و تاليا دخله، بسبب ظروف المعيشة وتداعيات الحروب في لبنان، لا سيما الإعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، مع أنه من بيروت وليس من المنطقة الجنوبية أو البقاعية التي تعرّضت للإعتداءات وأدّت الى التدمير شبه الكامل لمجموعة لا يُستهان بها من القرى.
سقتُ هذه المقدمة لأقول أن ما لفت أيضاً، فوز شخصيتيْن من قطاع التأمين أحدهما برع في خدمة منطقة الأشرفية قبل أن يترشّح ليكون عضواً في المجلس البلدي هو الدكتور سعيد حديفة الذي فاز باصوات46 الف صوت
أما الثاني، وهو الاصغر سناً، وبالتالي الأقلّ خبرة في قطاع التأمين رغم الشهادات التي نالها والممارسة التي لا يُستهان بسنواتها، هو السيد جوني ديغول الفغالي. فهل سيتمكّن فعلاً أبنا مهنة التأمين المذكوران، بإثبات جدارتهما في التفوّق في العمل البلدي خصوصاً في مدينة مثل بيروت، وهي العاصمة، وكذلك في بلدة وادي شحرور في جبل لبنان، وهي المعروفة بشخصيات فنيّة ترعرعت فيها ،في طليعتهم السيدة صباح وشقيقتها الممثلة لميا الفغالي وآخرين، مع الإشارة هنا الى أن بلدة وادي شحرور مجاورة لبلدة كفرشيما التي أنجبت فنانَين كبارا مثل الموسيقار حليم الرومي، فيليمون وهبي وملحم بركات، إضافة طبعاً الى المطربة الكبيرة كريمة حليم الرومي، الفنانة ماجدة الرومي التي بلغت شهرتها كما شهرة الباقين، العالم العربي وحتى العالمي.
عودة الى الفائزيْن بالإنتخابات البلدية د. سعيد حديفة وجوني ديغول الفغالي، لنشير الى أن الأول هو الأكثر شهرة من وزير الداخلية نفسه نظراً الى ما قام به في عزّ الأزمة اللبنانية والحرب الطاحنة لتجميل وجه منطقة شهيرة في بيروت هي الأشرفية التي تُعدّ من اكثر مناطق العاصمة استقطاباً للراغبين في الإستثمار فيها أو إقامة الحفلات في مرابعها أو اللجوء اليها للترفيه وتناول أفضل وجبات الطعام لوجود ما يفوق المئة مطعم في رقعة ليست بالكبيرة،مع الاشارة هنا الى ان ثمة من طالب بأن يكون سعيد حديفة هو محافظ بيروت أو رئيس بلديتها، ولكن مع الأسف، فإن المذهبية الدينية تقف دائماً عائقاً بوجه الطموحات، ذلك أنه كاثوليكي المذهب والمحافظ يجب أن يكون أرثوذكسيا، أما رئيس البلدية فهو بحكم القانون والعرف أيضاً من المذهب السني. وذات يوم، وفي اوج الإشادة بنشاطه وبما فعله لقسم من بيروت، كتب أحدهم على صفحة الفيسبوك يقول له ” أن المطلوب هو أن تكون أنت المحافظ في هذه العاصمة أو على الأقل رئيس بلديتها”. ضحك يومها وهو يرد على القارئ قائلاً: “وماذا أفعل بالمذهب الذي أنتمي إليه؟” وهو بذلك عنى ما سبقت الإشارة اليه بالنسبة لوجوب احترام التوزيع المذهبي في المراكز البلدية والحكومية. وإذا كان الشاعر قال ذات يوم: “هذه اثارنا تدلّ علينا فاتبعوا بعدنا الآثار”، فإن سعيد حديفة ترك ولا يزال آثاراً باهرة في إضاءة شوارع الاشرفية عبر جمعية BRAIN Beirut مع رجل تأميني ثالث هو غابي فرنيني فنمّى هذه المنطقة وتولّى إصلاح أنفاقها وأضاء شوارعها ورصف أرصفتها وأعاد الروح الى جسورها مثل جسر مدرسة الحكمة وجسر ساسين لتأمين مستلزمات السلامة العامة. كما قام بتركيب مطبات cat Eyes وهذّب الأشجار وأثبت ان شخصاً واحداً يستطيع أن يختصر مجلساً بلدياً مؤلفاً من 24 عضواً. ومن أبرز هذه الإنجازات أنه عالج بفنّ واتقان أمكنة رفع النفايات وهو موضوع لم تستطع أية بلدية في لبنان إنجازه.
صحيح أن لا رابط بين مهنة الدكتور حديفة وبين العمل البلدي، لكن خبرته منذ تخرّج من مدرسة الحكمة ومن ثم من معهد ISSA لعلوم الضمان فنيْله دكتوراه في التأمين وإدارة المخاطر، إضافة الى تدريسه الحقوق وتوليه رئاسة جمعية الأرز الطبية التي أسستها القوات اللبنانية، فضلاً عن توليه منذ عشر سنوات إدارة القسم الإستشفائي في شركة “المشرق”للتأمبن و هي واحدة من الشركات العشر الأُول في لبنان، علاوة على توليه رئاسة لجنة الإستشفاء في جمعية شركات الضمان وإنتخابه عضواً في مجلس الضمان التحكيمي في وزارة الإقتصاد… ان كلّ هذه المهمّات التي تولاها في العقدَيْن الماضيَيْن، رغم صغر سنه، لعبت دوراً كبيراً في نجاح سعيد حديفة في المهمة التي أراد تعميمها على كل بيروت، لا على منطقة الأشرفية ذات الطابع المسيحي.
وهنا لابدّ من طرح سؤال مهمّ : هل العمل الحرّ بمعنى الذي ينطلق من إرادة شخصية وبالتعاون مع آخرين، يُمكن أن ينجح في عمل رسمي مثل البلدية؟ أي هل ستكون لحديفة حرية الحركة، كما هي عليه اليوم، وهو يزرع الجمال في الأشرفية؟ التجارب الماضية تشي بأن الممارسة الثانية،اي الرسمية، محفوفة بالمخاطر وبالعراقيل وبشدّ الحبال وبالمواجهات مع أعضاء آخرين قد لا يكونون من طرازه التحديثي والتجميلي والتغييري. وعندما واجهناه بهذا السؤال اجاب: “من الصعب ان يقف أحدهم أمام العمل الناجح، مع ذلك، أنا شخصياً اعتمد على وعي المحافظ القاضي مروان عبود الراغب في تحسين وجه العاصمة ككلّ وليس وجه الأشرفية فقط، وسيكون حتماً سنداً لي في تنفيذ ما أراه ضروريا “.
بقي أن نذكر أن دكتور حديفة شاعر وله ديوانان أو أكثر وهو ناظم لقصائد غنائية واحدة منها غناها المطرب المعروف عاصي الحلاني، الى مآثر فنية وثقافية عديدة لا يتسّع المجال هنا للخوض فيها. وكلّ ما نتمناه للدكتور حديفة الذي نجح أولاً في التأمين وبشكل خاص في شركة “المشرق” لمؤسسها المرحوم أبراهام ماتوسيان كبير رجالات التأمين في لبنان والذي انتقلت الشعلة بعد وفاته
الى نجلَيْه النائب السابق ألكسندر ماتوسيان والمدير العام التنفيذي في الشركة السيد جورج ماتوسيان، أن يمضي قدماً في مسيرته الإصلاحية على صعيد البنى التحتية والحدائق العامة وإنارة العاصمة.
بالنسبة الى السيد جوني ديغول الفغالي، فهو ترعرع في منزل كان العمل البلدي والإختياري مهيمناً عليه، اذ أن والده تولّى المخترة في منطقة وادي شحرور من العام 1998 حتى 2004 ما يعني أنه اكتسب خبرة مرتبطة بالعمل البلدي بشكل عام. صحيح أن مهنته الأساسية هي التغطيات التأمينية وقد بدأ هذا العمل في العام 2009 في شركة Berytus من موظف في قسم الزبائن، فإلى قسم إعادة التأمين، فإلى قسم الإكتتاب، وصولاً الى تولي منصب مساعد المدير العام لقسم التكنولوجيا. و هو يتولى حالياً إدارة قسم الإكتتاب في الشركة المذكورة.
سألناه اذا كان ثمة علاقة بين التأمين والعمل البلدي، فاجاب: بالتأكيد هناك علاقة قوية بين هاتَيْن المهنتَيْن، ففي العمل البلدي الإستشفاء أولوية ومن وظيفة المجلس البلدي تأمين المستوصفات وتحسين المستشفيات وتوقيع إتفاقيات مع شركات تأمين لتغطية الكوارث الكبيرة، خصوصاً ما لها علاقة بالتغيّر المناخي. وإذا انتقلنا الى فروع أخرى من البرامج التأمينية، فإن البلدية بحاجة الى تغطية الحرائق من أي نوع كان ومهما كان حجمها، حرائق تصيب المنازل وقد تندلع في الأبنية العائدة للبلدية. ثم لا تنسى الحوادث المرورية ، و تحت هذا العنوان بإمكان عضو المجلس البلدي إذا كان يملك الخبرة التأمينية أن يطرح برنامجاً إصلاحياً للتخفيف من آثار هذه الحوادث المرورية، ناهيك عن التغطيات التي تُطاول الأبنية الجديدة و الاثرية و القديمة والملاجئ والهنغارات وما الى ذلك. ومن البديهي القول أيضاً أن البطاقة الإستئفائية التي عجزت الدولة عن إطلاقها، قد تستطيع بلدية لبلدة مثل وادي شحرور أن تُطلقها في هذه الرقعة الصغيرة وتمنحها للعاملين فيها وربما لجميع سكان هذه المنطقة.
ان العلاقة بين العمل البلدي وبين التغطيات التأمينية،يقول جوني الفغالي، علاقة متداخلة خاصة في هذا الزمن الذي بات التأمين فيه من الأولويات مع انتشار الذكاء الإصطناعي ودخوله هذا القطاع الذي بات منافساً في الناتج المحلي مع المصارف.
في رأسي، يتابع، الكثير من المشاريع التي يُمكن تنفيذها بالإتفاق مع سائر أعضاء المجلس البلدي،و في الطليعة رئيس هذا المجلس. لذا، آمل أن أنجح في مهمتي الجديدة وأن أستثمر خبرتي العملية والشهادات التي أملكها في الإدارة والمحاسبة والعلوم التأمينية وهذه كلها نلتها من جامعة القديس يوسف.
عند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان، يقول المثل الشعبي الدارج. لقد خضتُ هذه التجربة الجديدة وأنا على ثقة بأنني ماض في مسيرتي المهنية الجديدة بعزيمة و ثبات، لأنني أضع النجاح امام نصب عينَيْ.
