الرئيس السابق ميشال عون يعلن بدئ التنقيب عن النفط
د. الياس ميشال الشويري
حين تُذكر كلمة “دولة نفطية“، تتبادر إلى الأذهان صُوَر الرفاه الاقتصادي، والتنمية المستدامة، والفرص التي تفتحها الثروات الطبيعية أمام الشعوب. النفط كان، ولا يزال في نظر كثيرين، نعمةً تُخرج البلدان من الفقر إلى الغنى، وتبني بها مستقبلًا أكثر استقرارًا وعدلًا. لكن في لبنان، وكما في كثير من دول العالم الثالث، تتحول هذه الثروات، أو حتى مجرد الحديث عنها، إلى نقمة، تُلهب شهية الفاسدين، وتُسرّع في انهيار ما تبقى من الدولة. ففي بلد يعاني أصلًا أزمات اقتصادية وسياسية خانقة، تحوّل النفط والغاز من فرصة واعدة إلى لعنة محتومة، تُدار بعقلية النهب والمحاصصة، لتُكرّس واقعًا مأساويًا يمكن وصفه بنموذج “الدَلة الشفطية” — حيث تُشفط الأموال والثروات من جيوب المواطنين وخزينة الدولة، لتُملأ بها جيوب الزعماء وأعوانهم، بلا رقيب أو حسيب.
لبنان، بدل أن يكون دولة نفطية حديثة تستثمر في مستقبله، أصبح مختبرًا للفساد المنظم، تُستنزف فيه كل الموارد، من المال العام إلى المساعدات الدولية، حتى صارت فكرة الدولة نفسها موضع شك. في هذا البحث، سنحاول تفكيك هذا الواقع عبر محاور متعددة، نناقش فيها كيف تحوّل لبنان من بلد يطمح إلى التنمية عبر ثرواته، إلى ساحة للشفط المنظم، ونستعرض آثار هذا النهج على الاقتصاد، والمجتمع، ومستقبل الدولة.
1. من حلم الثروات إلى واقع الاستنزاف: النفط كمورد مهدور
كانت الأحلام تُنسج يومًا حول النفط والغاز، خاصة في البلدان التي وُجدت فيها هذه الثروات تحت الأرض، حيث ظنّت الشعوب أن المستقبل سيكون مُشرقًا، وأن الموارد الطبيعية ستُسهم في بناء اقتصاد قوي ومستدام. لبنان، رغم عدم كونه دولة نفطية بامتياز، دخل هذا الحلم متأخرًا عبر اكتشافات الغاز في البحر، وظنّ الكثيرون أن مرحلة جديدة ستبدأ. غير أن هذا الحلم لم يلبث أن تكسّر على صخرة الواقع اللبناني المعقّد، حيث تحوّلت الثروات إلى أداة جديدة للصراعات الطائفية والسياسية، ووسيلة لإثراء النخب الفاسدة بدل خدمة الشعب. النفط، بدل أن يكون أملًا، أصبح في لبنان لعنة أخرى تضاف إلى سلسلة اللعنات التي أنهكت البلاد.
المشكلة في لبنان لا تكمن فقط في غياب استثمار فعّال لموارده الطبيعية، بل في العقلية التي تحكم إدارتها. ففي حين أن الدول النفطية بنت صناديق سيادية لحفظ الأجيال القادمة، وراكمت الثروات لتطوير التعليم والبنى التحتية والصحة، نجد أن لبنان، حتى قبل أن يبدأ فعليًا باستخراج موارده، قد بدأ عمليًا ببيعها وتقاسم أرباحها بين القوى النافذة، تحت مسميات عقود استكشاف وتشغيل مشبوهة. وهكذا، تحوّلت الدولة من كيان يُفترض أن يرعى ثروات الشعب إلى دَلة شفطية، تمتص ما تبقى من فرص وأحلام. فكل مشروع محتمل للاستثمار في الثروات الطبيعية يصبح تلقائيًا مشروعًا للنهب الممنهج.
الأخطر من ذلك أن لبنان لا يبدو مستعدًا لمواجهة التحديات الحقيقية التي قد ترافق استثمار الثروات الطبيعية، مثل التقلبات في أسعار النفط والغاز، أو الأزمات البيئية الناتجة عن استخراجها. بل نجد أن التركيز كله ينصبّ على كيفية توزيع المغانم، بدل بناء استراتيجيات طويلة الأمد. وهكذا، تُعيد السلطة إنتاج نموذج “الدَلة الشفطية” بدل الدولة المنتجة، حيث تتحول كل الموارد، سواء كانت مالية أو طبيعية، إلى غنائم في صراع سياسي وطائفي مقيت. لبنان، بدل أن يكون نموذجًا لدولة نفطية حديثة، بات أقرب إلى مزرعة تدار بعقلية النهب والمحاصصة، ليبقى الشعب هو الخاسر الأكبر.
2. الفساد المنظّم: كيف تُدار الثروات في لبنان بأسلوب الدَلة الشفطية
الفساد في لبنان ليس حادثًا عابرًا بل نظامًا متجذرًا، يتغلغل في كل مفاصل الدولة، من أصغر موظف في البلدية إلى أعلى المراتب السياسية. الثروات التي كان يمكن أن تُستخدم لإعادة بناء الاقتصاد اللبناني وتطوير البنى التحتية تُدار اليوم بأسلوب الدَلة الشفطية: عقود مشبوهة، عمولات، رشاوى، وصفقات تحت الطاولة. حتى الأموال القادمة كمساعدات أو قروض دولية، مثل تلك المخصصة لإعادة الإعمار أو دعم الاقتصاد، تجد طريقها إلى جيوب الفاسدين، بدل أن تصل إلى المواطن البسيط. وهذا ما جعل لبنان حالة نموذجية في الفساد الممنهج، حيث تصبح الثروة العامة ملكًا خاصًا لفئة ضيقة تدور في فلك السلطة.
الأخطر في هذا النموذج أن الفساد لم يعد حالة استثنائية، بل أصبح قاعدة تحكم العلاقة بين الدولة ومواطنيها. كل مشروع أو صفقة، من استثمار الغاز إلى الكهرباء والاتصالات، يُدار بعقلية “من يأخذ الحصة الأكبر“، لا بعقلية المصلحة العامة. فبدل أن تُدار الثروات بعقلية الإدارة الرشيدة، نجدها تُدار كدَلة شفطية، حيث يُشفَط كل شيء حتى آخر فلس، ويُترك الشعب لمصيره المظلم. هذا المنطق جعل الدولة أشبه بجثة تُنهش من كل جانب، ولا أحد يُفكر بكيفية إنقاذها، لأن الكل مشغول بامتصاص ما تبقى من دمائها قبل انهيارها التام.
إن أخطر ما في هذا الفساد المنظم أنه بات يولّد أجيالًا جديدة من الفاسدين، حيث تُصبح السرقة والنهب “ثقافة” مقبولة بل ومطلوبة في المجتمع. بدل أن يُحاسب الفاسدون، يُكافأون بمناصب أعلى، ويُعاد انتخابهم في المجالس النيابية، مما يُكرس عقلية الدَلة الشفطية في إدارة البلاد. وحتى لو وُجدت أصوات معارضة أو حركات احتجاجية، فإنها غالبًا ما تُقمع أو تُحتوى عبر أساليب الزبائنية والتهديد. لبنان، بهذا المعنى، ليس فقط دولة فاشلة اقتصاديًا، بل أيضًا دولة مريضة أخلاقيًا، حيث تُصبح سرقة المال العام أمرًا عاديًا، بل وسيلة للترقي الاجتماعي والسياسي.
3. الشعب بين الضحية والجلاد: آثار اقتصاد الدَلة الشفطية على المجتمع اللبناني
الشعب اللبناني هو الضحية الأولى والأخيرة لهذا النظام القائم على النهب والشفط. فبينما تتكدس الثروات في جيوب السياسيين والمصرفيين وكبار المنتفعين، يُترك المواطن لمصيره في ظل أزمات خانقة: انهيار الليرة، ارتفاع الأسعار، انقطاع الكهرباء، وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية. هذا الواقع خلق حالة من الإحباط العام، دفعت بالكثيرين إلى الهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل، تاركين خلفهم بلدًا يتآكل من الداخل. لقد أصبح اللبناني يشعر أن بلده ليس وطنًا يحتضنه، بل ساحة تُستنزف فيها طاقاته وأحلامه لصالح قلة جشعة لا تشبع.
هذا الواقع خلق أيضًا شروخًا عميقة في النسيج الاجتماعي، حيث تفاقمت الفجوات الطبقية بشكل غير مسبوق. فبينما يعيش البعض حياة بذخ وترف غير مسبوقين، يعاني آخرون من الفقر المدقع، ويكافحون لتأمين أبسط متطلبات العيش. الأحياء الفقيرة تتكدس فيها الأزمات، بينما الأحياء الراقية تُزخرف بأموال الشفط المنهوب. وهكذا، أصبحت الثروات وسيلة لتقسيم المجتمع، بدل أن تكون وسيلة لتوحيده وتقدمه. لبنان، بدل أن يكون دولة لكل مواطنيه، أصبح مساحة لتوزيع الغنائم بين قلة قليلة، فيما يُترك الشعب غارقًا في البؤس والحرمان.
إن أخطر ما في اقتصاد الدَلة الشفطية هو أنه يقضي على أي أمل بالتغيير. فكل مبادرة إصلاحية، مهما كانت صادقة، تجد نفسها محاصرة بمنظومة الفساد المتجذرة، التي تعمل على حماية مصالحها بكل الوسائل الممكنة. وحتى لو حاول الشعب التحرك، كما في انتفاضة 17 تشرين، فإن هذه التحركات غالبًا ما تُفرغ من مضمونها عبر القمع أو الاحتواء أو التجييش الطائفي. وهكذا، يُعاد إنتاج نفس النظام، ويبقى لبنان يدور في حلقة مفرغة من الانهيار والفساد، حيث لا يُسمح لأي مشروع وطني حقيقي أن يرى النور. الشعب هنا ليس فقط ضحية للنظام، بل يُدفع أحيانًا ليكون شريكًا غير مباشر فيه، عندما يُستخدم كأداة في صراعات الزعامات، فيتحوّل إلى جلادٍ لنفسه، دون أن يدري.
4. خاتمة
لبنان، بهذا الواقع، يعاني من أزمة وجودية عميقة، حيث تتحول كل فرصة إلى لعنة، وكل ثروة إلى غنيمة تُنهب. وما لم يحدث تغيير جذري في المنظومة السياسية والإدارية الفاسدة، فإن البلاد ستبقى أسيرة نموذج “الدَلة الشفطية“، يلتهم كل شيء حتى لا يبقى شيء. الإصلاح هنا ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
هامش:
“الدلة الشفطية”: مصطلح “دَلة شفطية” هو تعبير مجازي، مستوحى من كلمة “دَلة” (وهي الوعاء التقليدي المستخدم لتقديم القهوة في العالم العربي)، ولكنه هنا يُستخدم بأسلوب ساخر للدلالة على آلية الشفط المستمر للموارد والثروات، سواء كانت أموالًا عامة، أو مساعدات، أو حتى ثروات طبيعية كالنفط والغاز. بمعنى آخر، بدل أن تكون الدولة “دَلة قهوة” تُوزع القهوة على الناس (أي تُقدّم الخدمات والثروات للشعب)، أصبحت دَلة شفطية: وعاء يُستخدم فقط لشفط ما تبقى من أموال الناس وخيرات البلد إلى جيوب قلة قليلة من السياسيين والنافذين، تاركة الشعب محرومًا من أبسط حقوقه. هذا المصطلح يعبّر عن نموذج اقتصادي فاسد، قائم على النهب والسرقة المنظمة، حيث تتحول الدولة من كيان يسعى لتحقيق المصلحة العامة إلى مجرد أداة في يد منظومة الفساد، تُستخدم لامتصاص كل ما يمكن امتصاصه من الشعب والاقتصاد. في سياق البحث عن لبنان، يُقصد بـ”الدَلة الشفطية” أن الدولة اللبنانية، بدل أن تكون دولة منتجة تُطوّر مواردها لمصلحة الناس، أصبحت دولة تمتص كل شيء لصالح الطبقة الحاكمة الفاسدة، تاركة المواطن في حالة من الفقر والعوز والانهيار ***