د. الياس ميشال الشويري
لطالما شكّل المسرح في لبنان مساحة حرّة للتعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي. وضمن هذا الإطار، لعب الفنان الراحل حسن علاء الدين، المعروف بـ”شوشو“، دورًا محوريًا في هذه المساحة. من بين أبرز أعماله تبقى مسرحية “آخ يا بلدنا” علامة فارقة في تاريخ المسرح النقدي الساخر، لما حملته من رسائل عميقة مغلفة بروح الفكاهة والوجع في آن. كتبها شوشو قبل خمسين عامًا، لكنك إن استمعت إلى حواراتها اليوم، ستشعر وكأنها كُتبت البارحة، إذ أن أزمات لبنان المزمنة من طائفية، وفساد، وتهميش للشعب، لا تزال حاضرة، بل تفاقمت. في هذا البحث، سنستعرض أبعاد هذه المسرحية من خلال ثلاثة محاور: النقد السياسي والاجتماعي في النص، رمزية الشخصيات والسخرية الكاشفة، وراهنية الرسالة في ضوء الوضع الحالي في لبنان، لنخلص في النهاية إلى تأكيد أن شوشو لم يكن مجرد فنان بل صوت الضمير الشعبي اللبناني.
1. النقد السياسي والاجتماعي في نص المسرحية
مسرحية “آخ يا بلدنا” كُتبت بلغة بسيطة ولكن محملة بدلالات عميقة. لا يحتاج المتفرج إلى خلفية ثقافية أو سياسية كي يضحك، لكنه حتمًا سيشعر بوخز النقد في عمق ضميره. فقد وجّه شوشو سهامه إلى الطبقة السياسية التي لم تتغيّر عقليتها، وصورها مجموعة من المنتفعين المتصارعين على السلطة والجاه، غير آبهين بالشعب. كان الخطاب المسرحي مباشرًا، لكنه استخدم ذكاء التلميح لا التصريح، وهو ما ساعده على الإفلات من الرقابة دون أن يفرّغ النص من محتواه النقدي.
ركزت المسرحية على غياب العدالة وتراكم الطبقية، إذ يعبّر شوشو من خلال الشخصيات الهامشية عن واقع المواطن اللبناني العادي الذي يُسحق بين سندان الجوع ومطرقة الوعود الكاذبة. في أحد المشاهد، يسخر شوشو من المسؤول الذي يُطالب الشعب بالتقشف بينما هو يعيش حياة الترف. هذا التناقض الصارخ بين خطاب السلطة وممارساتها لم يكن مجرد مبالغة فنية، بل تجسيد لواقع مستمر. ويمكن القول إن المسرحية شكلت وثيقة مسرحية صادقة عن أزمة الثقة بين الشعب والدولة.
من القضايا الجوهرية التي تناولتها المسرحية أيضًا، الطائفية السياسية كعائق أمام بناء وطن فعلي. لم يخشَ شوشو انتقاد تلك البنية التي تفرّق الناس باسم الدين والمذهب، والتي ما زالت حتى اليوم تُستخدم كأداة للهيمنة السياسية. هذا الوعي المبكر لدى شوشو بقضية الطائفية يدل على حسه الوطني المتقدم، ويكشف عن فهمه العميق لجذور الأزمة اللبنانية، التي لم تكن وليدة الحرب، بل متجذرة في تركيبة السلطة نفسها منذ الاستقلال.
2. رمزية الشخصيات والسخرية الكاشفة
الشخصيات التي قدّمها شوشو لم تكن نماذج عشوائية، بل رموز اجتماعية ذات دلالات. فنجد شخصية “المسؤول الجشع“، و”المواطن المغلوب“، و”المهرّج السياسي“، و”الناخب الساذج“. هذه الشخصيات شكّلت صورة بانورامية للبنية الاجتماعية اللبنانية، حيث تتكرر الأدوار ويتغير الوجوه فقط. وكان شوشو يستخدم في تمثيله أسلوب التناقض الدرامي بين اللغة الجدية والمضمون الساخر، ما يعمّق الأثر النفسي في المشاهد ويوقظه على الواقع دون وعظ مباشر.
من أبرز تقنيات شوشو الكوميدية هي استخدامه للمفارقة الساخرة، حيث يُضحك المتلقي من المآسي. فحين يصف أحدهم لبنان بأنه “جنة الله على الأرض“، تأتي صورة المواطن الذي يقف في طوابير الخبز لتفضح الكذبة. هذا التباين بين الخطاب الرسمي والحياة الواقعية لم يكن مجرد مادة للضحك، بل فضح ثقافي واجتماعي لأكاذيب الدولة، في محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والوطن.
كما أن استخدام شوشو للغة العامية ساهم في جعل المسرحية قريبة من وجدان الناس. فالنكتة كانت تنبع من البيئة، لا من الخيال فقط، وبالتالي أصبح المسرح بالنسبة للجمهور أشبه بمجلس عام تُقال فيه الحقيقة على لسان مهرّج لا يخاف، بل يتقن التلميح بأكثر مما يُجيده السياسي في خطبه. وفي ظل غياب وسائل التواصل الاجتماعي حينها، كان المسرح أداة فعالة لتحريك الوعي الشعبي، وهذا ما نجح فيه شوشو ببراعة فائقة.
3. راهنية الرسالة بعد خمسين عامًا
ما يثير الحزن في إعادة النظر إلى “آخ يا بلدنا” بعد نصف قرن، هو أن الأزمة التي صوّرها شوشو لم تُحلّ، بل تفاقمت. فما كان يُعبّر عنه من خلال نكتة لاذعة في الستينات والسبعينات، أصبح واقعًا مأساويًا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. من أزمة النفايات إلى الانهيار الاقتصادي والمالي، ومن الطائفية المزمنة إلى الفساد المؤسسي، ومن نهب المال العام إلى نهب مدخرات الشعب في المصارف، يستمر اللبنانيون في تكرار نفس الأسئلة الوجودية التي طرحها شوشو: أين الوطن؟ وأين الدولة؟
ما يجعل المسرحية أكثر إيلامًا في سياق اليوم هو أنها كانت تنبيهًا مبكرًا، تجاهله الجميع. وقد دفع اللبنانيون ثمناً باهظاً لهذا التجاهل، من خلال حرب أهلية مدمرة، ومرحلة ما بعد الحرب التي كرّست الزعماء أنفسهم دون محاسبة. شوشو كان يرى المسرح كمنبر لإطلاق الصرخة، وليس مجرد وسيلة للترفيه. واليوم، في ظل أزمة انهيار العملة، وهجرة الشباب، وانعدام الثقة، لا بد من إعادة استحضار هذا النوع من الفن النقدي الذي يتجاوز المتعة إلى أداء وظيفة وطنية.
في زمن الإعلام المنقسم والمُسيّس، لا يزال المسرح -كما أراده شوشو- مساحة للحرية. والرسالة التي قدمها في “آخ يا بلدنا” لا تزال تنتظر الترجمة إلى فعل تغييري، وإلا فإننا سنستمر في الدوران في الحلقة نفسها. ومن المؤسف أن تكون الكوميديا التي وُلدت من المأساة، قد تحوّلت اليوم إلى تراجيديا بلا ضحك، حيث ضاعت النكتة وتحولت إلى بكاء. لذلك، فإن استذكار أعمال شوشو ليس مجرد حنين للماضي، بل تذكير دائم بأن الفن قد يسبق السياسة في التشخيص، لكنه ينتظرها عبثاً في العلاج.

4. الخاتمة
مسرحية “آخ يا بلدنا” ليست مجرد عمل مسرحي من حقبة مضت، بل هي صرخة ما زالت تتردد في أذهان كل من يشاهدها أو يسمع عنها. لقد استطاع شوشو أن يختصر مأساة الوطن في عرض مسرحي ساخر، لكنه عميق ومؤلم. واليوم، بعد مرور خمسين عامًا، يبدو أننا لم نغادر تلك الحالة التي انتقدها، بل غرقنا فيها أكثر. من هنا تبرز أهمية إعادة إحياء هذا النوع من الفن، ليس فقط لإحياء الذاكرة، بل لتحفيز الضمير الجماعي على التغيير. فكما كان شوشو ضمير شعبه في زمنه، نحن بحاجة إلى ضمير ثقافي جديد يعيد للبنان بريقه، لا من خلال الطائفية، بل من خلال الوعي، ومن خلال الكلمة الحرة التي لا تخاف قول الحقيقة، مهما كانت موجعة.