جماعة أطباء ١٩٨٤ وضيوفها
د. غالب خلايلي
لم تحُلْ شمس حزيران دون مشينا وتجوالنا، فحرُّ الشام هيّن أمام غيره. أقول ذلك وأنا أعرف أن المشي ليس سهلاً في النهار، إذ ترتفع الحرارة إلى درجة مؤذية تتطلب من الماشي أن يلجأ إلى الظل (إذا حظي به)، والراحة بين الفينة والفينة، وكذا الشرب، ناهيك عن أن المشي عند الكبار قد تخالطه آلام العضلات والعقبين، لأسباب تجعلهم يرددون قول أبي العتاهية (ألا ليت الشباب يعود يوما…)، وجزء من الحل يكون باختيار وقت مناسب للمشي، وانتعال حذاء مريح، وهو غالبا حذاء غالٍِ، لا يتوفر بسهولة حتى في الدول الغنية.
فيدوهات تثير لواعج الشوق
لا تفارقني عقلية الصحفي أنى مشيت أو توجّهت، فألتقط الصور التي تساعدني في كتابتي.
وعندما تجولّت في الشام، صوّرت عددا من المقاطع القصيرة، ونشرتها بين أفراد العائلة الصغيرة، وكذا عائلة الزملاء الكبيرة، فأثارت مقاطعي لواعج الشوق عندهم، وحمّستهم لزيارة الشام، بعد أن رأوا معالم عرفوها من قبل أشعلت نار شوقهم، ونبشت شرائط ذكرياتهم.
هذا وإن التجول بين الناس ماتع ومفيد، إذ تتلمس أحوال معيشتهم، وتعرف ماذا يقلقهم، فتعود بحصيلة غير قليلة من تجارب الحياة.

سيارات الأجرة.. وحكايات تنسيك المشقة
لا يسمح لك الوقت ولا التعب بمتابعة المشي أحيانا، ولا بد عندها من الاستعانة بوسائل النقل المتوفرة.
ومن أشيع الوسائل هي الحافلات الصغيرة القديمة، لكن مشكلتها أنك لا تصادفها حيث أنت ولا إلى حيث تريد، فإن وافقتْكَ وكنتَ من أهل التواضع حصلتَ على تجربة ممتعة بلا شك وسط زحام ألفه الركاب، وبدَوا أحيانا كأنهم أفراد عائلة واحدة، وقد يتناقشون في أي موضوع حيوي، ناهيك عن الرخص النسبي لهذه الوسيلة، أمام غلاء “التكاسي”، وتجبّر بعض سائقيها. على أنه يمكنك أن تعدّ التكاسي المتهالكة عقوبة لركابها، فهي غالية الأجرة أولا، لا سيما مع جشع بعض سائقيها، وغير مكيفة إطلاقا، مما يجعلها كتلة نارية متحركة في الصيف، والأسوأ أن يدخن سائقها دون اعتبار لتأذيك (قال لي أحدهم: لا أحد يموت ناقص عمر!)، دعك الآن مما يفرضه السائق على سمعك. لكن ماذا تفعل وأنت بحاجة للتنقل بها؟
ومع ذلك أجد في التعاطف والحالة الإنسانية للسائقين ما يجلب لهم الارتياح، ويفتح لك منجم حكايات. ومن أوجع ما سمعت قصة سائق يسكن في ضاحية بعيدة بعد أن هجر بيته في الحرب، فاضطر لاستئجار (خشّة) معتمة برقم عال، والأدهى كما قال: إنه يستحيل على مثلي حتى الدخول، إذ سوف أحتاج إلى علبة محارم لتجفيف دموعي، فيما أخبرني سائق مسن يعاني الصداع أنه (يبق الدم) كي يعيش، وعندما سألته عن سبب صداعه أخبرني أن سيدة “بدت محترمة” ركبت معه، ثم طلبت منه أن ينتظرها ربع ساعة حتى تعود من عند الطبيب، وبقي ينتظرها تحت حر الشمس ساعة دون أن تعود، وكم أثر بي أكثر عندما رفض بحزم أن أعوضه.
يحدثك كثيرون عن تطبيق أراح الناس وأزعج السائقين العموميين (إذ ينقص دخلهم) هو تطبيق (Yallago)، والحقيقة أنني عجزت عن تنزيله على هاتفي، فأذعنت لمزاج الشبكة العنكبوتية التي تكره البيت على ما يبدو، وتحب الباقات، ودعوت الله أن يهديها كيلا نتعثر في الملمّات، كما نتعثر بالمتسولين والمتسولات.

خبرتي مع المتسوّلات
وأقول المتسوّلات لقلة المتسولين الذكور، إذ يبدو أن حظ الإناث حتى في هذه (الوظيفة) قوي.
نعم، هي وظيفة بدوام كامل ومكان شبه ثابت، مع فارق مهم ألا وهو الدخل الذي يفوق بكثير دخل أي موظف. وقد تكونت عندي خبرة لا يستهان بها في عيادتي في العين، حيث أُخذتُ على حين غرة بضع مرات جعلتني أكتشف الخصائص النفسية والجسدية المشتركة لمحترفات التسول (وأتركها للزمن)، حتى إنني لم أعد بحاجة إلى سماع أية عبارة تمهيدية، إذ يكفي تفرّسي الوجه وبعض المظاهر حتى أعرف المراد. لكن المزعج جدا في الأمر هو حجم الظاهرة، وكثرة المصادفة لهؤلاء في الذهاب والإياب، لا تمل الواحدة منهن من الإلحاح، والأدهى ما حدث قبل يومين عندما تجاهلت زوجتي متسولة محترفة، فألحقتها بشتيمة ودعوة خبيثة سمعناهما بوضوح.
هذا وقد صادفت يوم الأربعاء رجلا سمجا بدا طارئا على التسول أمام بوظة بكداش الشهيرة في سوق الحميدية (يتسلبط) على العباد كي يمنحوه ثمن صحن بوظة.
الكهرباء وشراب البوظة (الآيس كريم)
وشراب البوظة ليس اختراعا عصريا بل هو أحد عواقب شح الكهرباء، هذا الشح الذي أجاد كثيرون عبر السنين التعامل معه بالألواح الشمسية وبطاريات الليثيوم، خلاصا من عذاب مزمن يجعلك لا تهنأ بشربة ماء، ناهيك عن خراب كل ما تضعه في ثلاجة هوائية تكاد لا تبرّد حتى نفسها، لتترحّم على أيام الثلاجات القديمة المنتجة للثلج. فإذا كنت مثلنا قصير الهدف ولم تحسب كل تلك الحسابات، فسوف ترى بأم عينيك كيف تتحول البوظة إلى شراب خلال ساعات، وكيف تفسد أية مادة تدخلها البراد إن لم تستهلكها بسرعة.
صديقي ماسح الأحذية أيضا يذوب
افتقدت صديقي م ماسح الأحذية التركماني العام الماضي، وأخبرني ابن أخيه الذي يمسح الأحذية في مكان قريب أنه مريض.
تفقدته هذا العام حتى وجدته صدفة في مكانه المعتاد قرب سينما الزهراء وقد ذبل وهزل وارتعشت يداه وزاغت نظراته. كان وحيدا من غير زبائن هذه المرة، ولما راح يمسح لي حذائي عرفت السبب: لقد نسي كيف يمسح الحذاء، حتى إنني عدت بحذائي كما أتيت. سألته عن حاله فحدثني بكلمات متعثرة عن مرضه، وقال: علبة الدواء بخمسين ألف ليرة بالشهر، وما معي شيء، وآه كم تأسفت لحال هذا العجوز كيف يضطر للحضور يوميا من مكان بعيد من أجل الرزق. والبقية عندكم.

الذكرى السنوية الأولى للقاء زملاء 1984
ما أجمل لقاء أصدقاء الدراسة بعد طول غياب. يتدفق دم الشباب بقوة من جديد، وتعود الذكريات الجميلة. حقيقة، ورغم كل الظروف، شعرت بسعادة لم أشعر بمثلها من قبل في لقاء يوم الثلاثاء 17 حزيران 2025 الذي صادف مرور سنة على أول لقاء. كانت أمسية جد لطيفة على سطح فندق أمية (تأسس 1932)، في الهواء الطلق البارد الذي لم يعكّر صفوه شيء ولا حتى صوت بعض صواريخ أتى من بعيد. وألطف من ذلك إطلالته على مدرستي الثانوية ابن خلدون (افتتحت أول مرة باسم مدرسة تجهيز البنين 1936). مع الزملاء وهم من كبار الأطباء كان اللقاء والعشاء الشهي، وأطيبه بالنسبة لي الفلافل والبطاطا المقلية وسلطة سيزار، ناهيك عن أطايب غيرها.
لم يكن الطعام هو المهم بقدر ما كانت حميمية اللقاء، ذلك الذي تمنينا أن يجمع مزيدا من الزملاء الذين لا بد أن واجباتهم سرقتهم (وهم في الخامسة والستين) حتى من أسرهم.
أكتفي بهذا القدر اليوم، وأترك حديث الطب بهمومه وشجونه إلى وقت آخر.

طابت أيامكم.
دمشق 20 حزيران 2025
