المبخرة
د. الياس ميشال الشويري
عطفًا على مقالنا السابق، نتناول في هذا المقال احد أكثر المعالم إثارة للدهشة والرهبة داخل كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا، عند نهاية طريق الحجاج الذي قطعه آلاف المؤمنين عبر القرون. هناك، تتدلّى من قبة الكاتدرائية تحفة مهيبة تهزّ الأبصار وتلامس الأرواح: المبخرة العملاقة بوتافوميرو. إنها ليست مجرد أداة طقسية لنثر البخور، بل رمز روحي بالغ العمق، ومعلم هندسي وفني استثنائي، ومشهد بصري يبث في النفس رهبة الإيمان ودهشة الإبداع.
منذ العصور الوسطى، والمبخرة العملاقة حاضرة في قلب الشعائر الكبرى، تنبعث منها رائحة تختلط فيها أنفاس التاريخ بنفحات القداسة، ويتحوّل تأرجحها الشاهق إلى رقصة روحية تعبّر عن سمو النفس وتوق الإنسان إلى المطلق. في هذا البحث، نتوقف عند تفاصيل بوتافوميرو من حيث نشأتها وبناؤها وزينتها، ونستعرض رمزيتها الطقسية، ووظائفها الدينية، وأبعادها الثقافية، لنكشف أسرار هذه الأيقونة الفريدة التي تختزل روح الحج، وجلال الإيمان، وروعة الفن الكنسي في آنٍ واحد.
- المبخرة الكبرى “بوتافوميرو” – وصفها وبنيتها الضخمة
المبخرة الشهيرة داخل كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا تُعرف باسم بوتافوميرو (Botafumeiro)، وتُعد واحدة من أكبر المباخر في العالم، إن لم تكن الأضخم على الإطلاق. يبلغ ارتفاعها نحو 1.6 متر، ويقارب وزنها 80 كيلوغرامًا، وتُصنع من الفضة المطلية بالنحاس أو البرونز، ما يمنحها بريقًا خاصًا عند تأرجحها داخل الكاتدرائية. تحتاج هذه المبخرة إلى نظام معقد من الحبال والبكرات والرافعات التي تُشغل من قِبل ثمانية رجال يُطلق عليهم “تيرابوتيروس ” (tiraboleiros)، والذين ينسقون فيما بينهم حركة المبخرة بشكل دقيق.
تصميم المبخرة المهيب يستلهم رمزية المزج بين الجلال الروحي والقوة البشرية، فهي ليست مجرد أداة طقسية بل تحفة ميكانيكية فنية بامتياز. تُعلّق المبخرة من قبة الكاتدرائية، ويتم إطلاقها على مسار متأرجح عبر المذبح الرئيسي لتصل إلى ارتفاعات شاهقة وسط القبة، وتتأرجح بسرعة تصل إلى 68 كيلومترًا في الساعة. هذا التأرجح لا يتم بعشوائية، بل يعتمد على توازن دقيق ومهارة فائقة لضمان عدم اصطدام المبخرة بالجدران أو النوافذ.
في الشكل الخارجي، تزدان المبخرة بنقوش دقيقة تمزج بين الفن القوطي والعناصر الدينية، فتظهر صور للقديس يعقوب والملائكة والأزهار المزخرفة، مما يجعلها قطعة فنية تعكس تداخل الفن والإيمان. إنها أكثر من مجرد أداة طقسية، بل هي رمز فني وروحي في آن واحد، يثير الإعجاب والرهبة في كل من يراها.
- البعد الطقسي والديني للمبخرة في الشعائر الكنسية
تلعب مبخرة بوتافوميرو دورًا محوريًا في الطقوس الدينية داخل كاتدرائية سانتياغو، خصوصًا خلال الاحتفالات الكبرى مثل عيد مار يعقوب في 25 تموز من كل عام، أو عند زيارة شخصيات دينية مرموقة مثل الباباوات. البخور الذي ينبعث منها يملأ الكاتدرائية برائحة زكية، ترمز في التقليد المسيحي إلى تطهير النفوس ورفعة الصلاة إلى السماء، كما ورد في المزامير “لتكن صلاتي كالبخور أمامك”.
في التاريخ، كان استخدام المبخرة الضخمة مرتبطًا أيضًا بدوافع صحية، إذ كان الحجاج يفدون إلى الكاتدرائية بعد سفر طويل ومجهد، وغالبًا ما كانوا يحملون معهم روائح متراكمة وأمراضًا محتملة، فكان استعمال البخور الكثيف وسيلة لتعقيم الهواء. هذا البعد العملي تحوّل مع الزمن إلى طقس رمزي يوحي بالتنقية الروحية والسمو الإيماني، مما عزز أهمية المبخرة في التقاليد الطقسية.
إطلاق المبخرة ليس حدثًا يوميًا، بل يقتصر على مناسبات خاصة جدًا، ما يمنحها هالة من القدسية والرهبة. الحضور، سواء من المؤمنين أو السياح، يقفون مبهورين أمام مشهدها وهي تتأرجح كأنها كائن سماوي يخترق المكان بحركاته الإيقاعية. في تلك اللحظة، يصبح الطقس أكثر من مجرد شعيرة، بل تجربة روحانية تلامس النفس والعين، وتحفر أثرًا عميقًا في ذاكرة الزائر.
- الرمزيات الفنية والدينية المرتبطة بالمبخرة
تُعد بوتافوميرو رمزًا مركبًا يجمع بين الطقسي والروحي والفني في آنٍ واحد، فهي تجسيد حي لفكرة “العروج” الروحي نحو السماء. في لحظة تأرجحها المرتفع، ترمز المبخرة إلى صعود الروح وانفصالها عن ثقل المادة، إلى جانب تمثيلها لجسر بين الأرض والسماء. هذا التفسير الرمزي يُكسب البخور ذاته بعدًا ميتافيزيقيًا، ويحوّل حركة المبخرة إلى ما يشبه رقصة سماوية تعبّر عن الشوق الإنساني نحو الله.
من الناحية الفنية، تعكس المبخرة وحدة فن العمارة والميكانيك والنحت في آن واحد. القبة التي تعلّق منها صُممت لتتحمّل وزنها الضخم، بينما الحبال والنظام الميكانيكي مستوحى من تقنيات هندسية متقدمة تعود إلى القرون الوسطى، تم تطويرها مع الزمن. تُصبح المبخرة بهذا الشكل شاهدًا على عبقرية الحرفيين والمهندسين والرهبان الذين تعاونوا لصنع شيء يتجاوز حدود الزمان والمكان.
أما في المخيال الجمعي، فقد أصبحت المبخرة أيقونة بصرية لكاتدرائية سانتياغو ومدينة الحج كلها، تُطبع صورتها في الكتيبات السياحية والعملات التذكارية والهدايا، وتحمل معها معنى السلام، والمغفرة، والعودة إلى الذات. من يراها لا ينسى، ومن يصورها ينقل جزءًا من قداسة المكان. لذا، فبوتافوميرو ليست مجرد مبخرة، بل معلمٌ إيماني وروحي وثقافي نابض بالحياة.

- الأبعاد السياحية والثقافية لمشهد المبخرة
أصبحت المبخرة اليوم عنصر جذب رئيسي للسياح والحجاج الذين يفدون من مختلف أنحاء العالم إلى كاتدرائية سانتياغو. مشهد تأرجحها، الذي يُعلن مسبقًا على مواقع الكاتدرائية، يحجز له الزوار أماكنهم مبكرًا، بل ويخطط كثيرون رحلتهم بما يتناسب مع توقيت هذا الطقس المهيب. إنها لحظة تتحول فيها الكنيسة من مكان صلاة فقط، إلى مسرح روحي وفني ينبض بالحركة والإبهار.
ينعكس هذا الزخم على الحركة الثقافية والسياحية في المدينة، حيث تروّج المؤسسات الثقافية والتجارية لمشهد المبخرة كجزء من “الهوية السانتياغوية”، سواء في المعارض، أو المجسمات، أو الهدايا التذكارية التي تُباع في محيط الكاتدرائية. لا تُختصر القيمة السياحية في الجانب البصري فقط، بل في القصة التي ترويها المبخرة عن القديس يعقوب والحج والإيمان، مما يحول كل زيارة إلى تجربة ثقافية وروحية متكاملة.
على المستوى العالمي، صارت المبخرة رمزًا للتقاليد الكاثوليكية الأوروبية، ووسيلة مرئية تُستخدم في إنتاج الوثائقيات والأفلام التي تستعرض الإرث الديني لإسبانيا. إنها تجذب فئات مختلفة من الناس، من المتدينين إلى محبي الفن والهندسة، ومن عشّاق التاريخ إلى الباحثين عن المغامرة، مما يجعلها تقاطعًا فريدًا للثقافة والدين والسياحة.
- الخاتمة: بوتافوميرو – نبضٌ روحي في قلب حجٍ خالد
ليست بوتافوميرو مجرد مبخرة تتأرجح في الفضاء الكنسي، بل هي قلب نابض داخل كاتدرائية مار يعقوب، يُجسد التقاء العقيدة بالتاريخ، والروح بالرمز، والفن بالدهشة. هي ذاك الكائن المعدني الذي ينفث بخوره كما تنفث الروح صلاتها، ويتأرجح كما تتأرجح القلوب بين الأرض والسماء، والخطيئة والغفران. تمثل المبخرة صدىً لعصور من الإيمان والعبادة والهندسة والاحتفال، وتبقى رمزًا خالدًا لرحلة الإنسان نحو المقدس، بكل ما فيها من جهدٍ وجمال.